جنّــــة ســــاحرة بين عزلة خانقـة و جغرافيــــا معقدة  
يعد حمام عساسلة الواقع شرقي ولاية قالمة من أهم المواقع السياحية العذارء التي لم تطلها فوضى العمران و لم تمسسها يد الإنسان بسوء، موقع شديد الانخفاض مقارنة بالمرتفعات الشاهقة التي تحيط به من كل مكان و تحجب عنه ضوء الشمس ساعات طويلة من النهار، سكنه الرومان قبل عقود طويلة من الزمن و بنوا فيه حضارة عريقة مازالت آثارها الى اليوم بين الأودية و الشعاب النشطة على مدار السنة تستمد روحها من المنابع و الشلالات المتدفقة من كل مكان تسقي الزرع و الإنسان الذي بقي صامدا فوق الجنة الخضراء رغم المعاناة و العزلة و التهميش الذي طال واحدة من أجمل المنتجعات السياحية الطبيعية غير المستغلة بولاية قالمة.  
على بعد 3 كلم تقريبا من الطريق الوطني 80 الرابط بين قالمة و سدراتة و عند المدخل الشمالي لبلدية بوحشانة يتفرع مسلك ريفي شديد الانحدار و التعرج باتجاه التجمعات السكانية و المواقع الأثرية النادرة المحيطة بحمام عساسلة أين يعيش مجتمع زراعي منذ سنوات طويلة وسط جغرافيا معقدة و عزلة خانقة لم يجد لها المسؤولون حلا حتى الآن نظرا لصعوبة المكان و قلة الموارد المالية بخزينة بلدية بوحشانة إحدى افقر بلديات ولاية قالمة.
المنحدر الصعب يعيق التنمية بالمنطقة
من النقطة 668 مترا فوق سطح البحر على الطريق الوطني 80 عليك أن تنحدر أكثر من 200 متر، لتصل إلى حمام عساسلة و الآثار الرومانية و مشتى قاع الكاف عبر مسلك صعب لا يمكن للمصابين بالدوار أن يعبروه، و لا يمكن أيضا للمركبات الضعيفة أن تسير فيه سواء عند الانحدار أو الصعود من المنطقة المنخفضة إلى قمة الجبل أين يمر الطريق الوطني 80 شريان الاقتصاد و الحياة الاجتماعية بمدن و قرى الإقليم الجنوبي الشرقي بقالمة.  


من هنا تبدأ معاناة السكان الذين يعمرون المنخفض الساحر منذ القدم، طريق صعب، عزلة و نقص في وسائل النقل التي يرفض أصحابها المغامرة باتجاه الجنة الساحرة التي تغريك إليها فتجذبك عبر المنحدر الحاد و توقعك في مأزق كبير عندما يحين الرحيل حيث تعجز السيارات عن تسلق المنحدر و مواجهة المنعرجات الحادة و كتل الحصى و أكوام التربة المتراكمة على جانبي المسلك المتآكل بفعل عوامل الطبيعة و الزمن و نقص الصيانة و الاهتمام.  
يقول سكان المنطقة بأنهم لم يتوقفوا عن المطالبة بتعبيد المسلك المنحدر لتمكين المركبات من عبوره صيفا و شتاء دون مخاطر و بعث مشاريع تنموية لتغيير الواقع المعيشي الصعب للأهالي الذين يقطعون مسافات طويلة مشيا على الأقدام كل يوم للوصول إلى منازلهم و إلى الطريق الوطني 80 و مركز بلدية بوحشانة للتزود بالمؤن و العلاج و الدراسة.  
و يرفض أصحاب السيارات الذهاب إلى حمام عساسلة و مشاتي قاع الكاف و المواقع الأثرية نظرا لصعوبة الطريق و انحداره الشديد، و يعتمد سكان المنطقة على الأقدام و الأحمرة و البغال و الجرارات الفلاحية اثناء التنقل داخل المنطقة أو خارجها، لكن الجغرافيا الصعبة اتعبتهم و أحدثت نزيفا كبيرا في المجتمع الزراعي و دفعت بالشباب إلى الهجرة والاستقرار بالمدن و القرى المجاورة، بحثا عن الخدمات و مرافق الصحة و التعليم.  
و تعمل سلطات ولاية قالمة منذ سنوات على مساعدة سكان عساسلة و مشاتي قاع الكاف بإعانات البناء الريفي و خطوط الكهرباء و مدرسة ابتدائية و مركز صحي لكن الحياة مازالت صعبة بالمنخفض المختفي عن الانظار، و يتساءل زوار المنطقة السياحية العذراء كيف تمكن الإنسان منذ امد بعيد من تعمير المنطقة و الاستقرار بين الأودية و الشعاب و كأنه يحتمي من غضب الطبيعة و الغزاة المتعاقبين على مكان ساحر تتدفق منه المياه العذبة و الساخنة بلا انقطاع.  
و تتوقع مصادر من قطاع الطرقات و بلدية بوحشانة إطلاق عملية لتعبيد طريق عساسلة و فك الحصار المضروب عن السكان لكن شح الموارد المالية قد يؤخر العملية و يزيد من معاناتهم سنوات أخرى و يوقف جهود التنمية الريفية و الاجتماعية بالمنطقة الجبلية المنخفضة.  
ثروة مائية للزراعة و العلاج  
توجد بمنطقة حمام عساسلة و مشاتي قاع الكاف ثروة مائية غزيرة تكفي لتزويد مدينة كاملة بمياه الشرب، انطلاقا من شلالات لا تتوقف عن الجريان ومنابع جوفية تدفع بكميات كبيرة من المياه إلى السطح باستمرار.  
مياه عساسلة معدنية ساخنة للاستحمام و العلاج من الأمراض الجلدية و عذبة باردة للشرب و الزراعة و سقي قطعان المواشي التي تعيش بالمنطقة.

يستقطب الحوض المائي الكبير الذي يتوسط المجرى الطبيعي الدائم الجريان عشرات السياح و المرضى الذين يقصدونه كل يوم لمعالجة بعض الأمراض الجلدية، و قال السكان المحليون للنصر بأن الكثير من المرضى قد عالجوا بعض الإصابات الجلدية هنا، بعد أن استحموا وسط الحوض 3 مرات متتالية على الأقل و هو ما جعل شهرة المكان تتزايد و الإقبال عليه في تصاعد بين سنة و أخرى رغم عزلة المكان و صعوبة المسلك المؤدي إليه.  
عندما وصلنا وجدنا عائلة مكونة من أب و أم و أطفال داخل الحوض المغطى بقطعة قماش، و بقي خارج الحوض أشخاص آخرون ينتظرون دورهم و قد أوشكت شمس المغيب على الرحيل فالليل هنا يبدأ مبكرا خلافا للمرتفعات المطلة على الأفق البعيد.
مكثت العائلة داخل الحوض طويلا و غضب المنتظرون، ارتفعت أصواتهم مطالبين بإخلاء الحوض و السماح لهم بالاستحمام و العلاج. و اضطر رب العائلة الصغيرة إلى الظهور و الاعتذار قائلا بأن العائلة تعالج داخل الحوض و ليست في فترة استحمام.   
تفهم الجميع الموقف و بقوا ينتظرون من بعيد، و قال رجل من المنطقة بأن «المياه المعدنية الساخنة هنا غنية بالكبريت و عناصر معدنية أخرى مفيدة للجلد و بعض أمراض الحساسية، كثيرون حصلوا على الشفاء، نتمنى أن تهتم السلطات الولائية بالمنطقة و تقيم فيها استثمارات سياحية و تساعد السكان على الاستقرار و تصلح الطريق الجبلي الصعب الذي يعد السبب الرئيسي للعزلة رغم قرب المنطقة من الطريق الوطني».  
و قال شاب آخر كان ينتظر دوره للاستحمام أيضا بعد يوم عمل شاق في الحقول الزراعية الصغيرة بأن هناك منابع كثيرة ساخنة على امتداد المجرى الطبيعي، مضيفا بأن المنطقة الأثرية توجد فيها أنفاق طويلة غائرة مازالت لم تكتشف كلها لحد الآن، و هناك حمام يسمى «حمام الرومية» الذي تقول المصادر التاريخية بأنه ينسب إلى معمرة فرنسية كانت تمتلك المكان تعرضت لعملية قتل مريبة، اتخذتها فرنسا ذريعة لإبادة قبائل كثيرة بالمنطقة بينها قبيلة كبلوت أجداد الأديب العالمي الشهير كاتب ياسين.  
أدت وفرة المياه إلى ازدهار زراعة الأشجار المثمرة و الخضر و الفواكه الموسمية ذات المذاق الطبيعي و الفوائد الصحية الكثيرة في منطقة حمام عساسلة، ما جعلها مصدر اهتمام المستهلكين القادمين من المدن و القرى المجاورة بحثا عن خضر و فواكه طبيعية لم تمسسها المبيدات و لم تسقها المياه الملوثة.
يعيش سكان المنطقة على الزراعات البسيطة و تربية سلالات من الأغنام تأقلمت مع المناخ المحلي و نمت بقوة نظرا لخصوبة الأرض و وفرة المياه و اعتدال المناخ شتاء مقارنة بمرتفعات بوحشانة، أين يبدأ الشتاء مبكرا و يمتد على مدى 7 أشهر كاملة.    
سلطات قالمة زارت المنطقة قبل سنوات قليلة و وعدت السكان بفك العزلة عنهم و التفكير في استثمارات سياحية واعدة لكن مرت السنوات وبقيت مشاتي عساسلة و قاع الكاف على حالها تصارع العزلة التي فرضتها الجغرافيا، و تفتح أحضانها للباحثين عن الطبيعة العذراء و العلاج و الراحة و الاستجمام بواحدة من أجمل المواقع السياحية غير المستغلة بولاية قالمة، موطن الحمامات المعدنية المنتشرة في كل مكان.
فريد.غ

الرجوع إلى الأعلى