الأربعاء 21 ماي 2025 الموافق لـ 23 ذو القعدة 1446
Accueil Top Pub

بختـــي بن عــــودة... بصمــــة لا تمحــــى


واقفًا على رصيف السلامة، مُستغرقًا في الحركة المُستفيضة، فاجأه خفافيش الظلام، وكأنهم ورثة أسطورة صندوق «باندورا Pandore» من الذين زرعوا اليأس والعذابات ضدّ فراشات الأمل، نذير شؤم كان يتربصُ به، قادمًا من سراديب المجهول؛ ليجعل حدًا فاصلاً ما بين الحياة والموت، ويقطع بريق الأمل بِمَا في ألوانه من طيفٍ، ويجهضُ الحُلم.

عبد القادر فيدوح

الناقـــد الذي عَبَـرَ كوميـــض
إنّه الفتى الّذي تاقت نفسه إلى المجد، وهمّت به إلى طلب المعالي، ومعايشة فِعل الإنجاز في طريق الأبوة، وفي طريق الفِكر، وفي طريق الوطن، ويشاء القدر أن يختصر تلك الطُرق، وقبلها طريق الحياة؛ لتُبادر عُتمة الليل، في وضح النهار، إنجاز وعدها، لحسابات هوجاء، بطلقة غادرة، وتُسْكِت صُداح الطائر وهو بعد في وكْنِه، فنعَبَ الكبرياء، ونعَقَ الأمل، بعد أن عَمّ نزيف الدماء، حين غاب الرجال، وتوارت نخوتهم، فتعطل القطار، ومن حينها ونحنُ نعلك الهواء، ونجتر الكلام.
من قبل أن أستدعيك يا صديقي المرحوم في هذا المقام، كان لا بدّ أن أستأذن الوفاء وضميري يتعفر في الكلمات، حين كان ما لا يجب أن يكون... حين فرقنا أصحاب السعير في الشتات، وبعد الاِستفاقة من نومة قسرية وجدتني في ذُرا الرياح، بعد أن ضاق الفضاء واختنق المكان، وأغلقت الأبواب، وعمَّ السراب في حلكة النهار، في وقت كنتُ فيه أقطع أحضان الأرض لغايات، لعل إحداها ما هو مُتعلق بمهنتي، ترمي بي الرياح من وهران إلى أن وطأت قدماي تونس ثم جامعة آل البيت (الأردن) من دون اِقتناع.. إلى أن توسمت الخير في عرض من جامعة الفاتح في طرابلس (ليبيا) التي اِحتضنتني لِمدة قصيرة لم تتجاوز الشهرين، ولأسباب كثيرة تركتها، إلى أن غمرتني البحرين التي اِحتواني ترابها بالحنان، حيثُ تُبدع البحرين واقعها بِمَا هي «أمان للإنسان»: إنسانية، وإجزالاً، وتوددًا.
وفي أثناء بداية وجودي في البحرين جاءني طالب (محمّد البنكي) في شعبة الدراسات العُليا من باب الرغبة في التعرف إلى أستاذ جديد، وبعد حوار طويل أدركتُ أنّ في عينه تألقًا، وفي بصيرته قوّة إدراك وخبرة ثقافية، وأنّه ثاقب الفكر؛ ودَّعني، وتركني في حيرة من أمري، حاولت أن أجمع شتات أفكاري وما خلصت إليه مِمَا دار بيننا.. ثمَ تجدّد اللقاء بعد أيّام معدودات، غير أنّ هذه المرة جاءني مُلتمسًا مني تزويده ببعض المعلومات تتعلق بأدب الجزائر الحديث، إلى أن جره الحديث إلى ذكر بختي بن عودة، فاستغربت من أمره أكثر، فقلتُ له: «أنَّى لك هذا الاِسم؟»، فقال: «أُتابع كتاباته في المجلات العربية»، حينها أعلمني بأنّ مجلة «كلمات» التي تصدر في البحرين نشرت له دراسة، وأبدى تأسفه؛ لأنّه لم يستطع الحصول على رسالة ماجستير بختي بن عودة، حينها تبسمت بحسرة، بعد أن وضعت يدي على جبهتي مطأطئا رأسي، ثم قلتُ له بعد أن أعرب عن تأسفه لِمَا يمكن أن ضايقني به: «هل تعرف مصيره؟» فوجدته يعرف كلّ شيء عنه، عدا أنني كنتُ مشرفًا على رسالته، وحين أخبرته بذلك أصرَّ على أنّ أحضر له بحثه الّذي نال به درجة الماجستير بعنوان «ظاهرة الكتابة في النقد الجديد عبد الكبير الخطيبي نموذجًا» سنة 1994. وبعد إجازة الربيع أحضرتُ له الرسالة، وأخبرته ساعتها أنّ في نيتي طبعها على حسابي، ومرت الأيّام والشهور، وبدأت تظهر على محمّد البنكي علامات الضُعف واللين في صحته إلى أن اِشتد به المرض، واستغرق أمدًا طويلاً، حينها لم تكن لدي الشجاعة أن أطلب منه اِسترداد ما أعرته، ومر على الوضع زمن طويل إلى أن وافته المنية وهو في عز شبابه، بعد ما كان أديبًا متألقًا، ومن الأفذاذ النادرين من الجيل الجديد المُتحمس للتجديد، غيبه الثرى، كما غَيَبَ القدر بحث بختي بن عودة الّذي كنتُ أسعى إلى طبعه. وكما غيَّب القدر محمّد البنكي في عز شبابه، غيب أيضا بختي بن عودة في ربيع شبابه، والمُتتبع لمسيرتهما يجد أنّ هناك صفاتٍ مشتركةً تجمعهما بشكلٍ لافت.
مشــــروع مجهـــض
وثبًا على كلّ ما قِيلَ في حق هذا الفتى المُغيّب قسرًا، من دون أدنى اِقتراف، وقفزًا على كلّ الحسابات الباعثة على النفع في اللقاءات عنه، من شذب الكلام، وسعيًا إلى وضع نتاجه معبرًا عن فهم مقاصد السبيل؛ لفهم مكانة هذا الفتى القتيل من دون مسوغ لهذا الفعل الشنيع إلاّ بِما به من لَوَثٍ من أمارة ظنية ساقطة، والوقوف على الأبعاد المعرفية المبكرة التي حملها في أحشائه، وهو بعدُ في مقتبل العمر؛ وثبًا على كلّ ذلك، فإنّ أقل ما كان يمكن أن يُقال في حقه أنّه «مشروع مجهض»، وما أكثر المشاريع التي أصبحت في حُكم رأي اِبن هانئ: «ما شِئْتَ لا ما شاءتِ الأَقْدارُ»، والتي أُرِيدَ لها الإجهاض عمدًا، أو جهلاً، أو تجاهلاً، أو إكراهًا، وما شابه ذلك من سَيِّء الصفات في نظائرها المجحفة في حق الأجيال الواعدة، وقبل ذلك في حق الوطن.
وبعد رقدة غافلة حاولتُ تدارك الأمر فلم أجد بدًا وأنا في غيبتي عن وطني من رمي شباكي في كلّ الشطآن، ومع كلّ الزملاء؛ ففجعت في «لا مجيب» حينها صرفت النظر مؤقتًا، ووضعت الأمر على سابق عهده في حُكم المُرجأ، علَّني أظفر لاحقًا بعد عودتي في إجازة الصيف إلى وطني بالمُرام، وبعد مدة قصيرة شاءت المصادفات أن تؤدي دورها، من غير ترقب، بعد أن جاءتني رسالة في بريدي الإلكتروني من بن دوبة شريف الدين، الأستاذ في جامعة سعيدة، ولم يمر عليَّ هذا الاِسم من قبل، يطلب فيها مساعدة، واستمر التواصل، إلى أن حكيتُ له ما كنتُ أنوي القيام به في حق زميل توارت شمسه في الضُحى، ففاجأني بنسخة من رسالة الماجستير التي كنتُ أبحثُ عنها، غير أنّها لم تكن النسخة الأصلية، أو المصورة، ولكنّها نسخة أُعِيدَ رقنها ضمن منشورات مديرية الثقافة لولاية معسكر. طُبِعت في دار الأديب للنشر والتوزيع. وفيها منزلقات طباعية لا حصر لها.

حينذاك لم أجد بدًا من الاِتصال بالأستاذ بن دوبة شريف الدين، بعد أن توسمت فيه الحاجة إلى المساعدة، وقد اِستعان بأستاذه الدكتور صايم عبد الحكيم الّذي لم يدخر جهدًا في مساعدته، رغبةً في إيجاد طريق آخر للحصول على النسخة الأصل المُودعة في جامعة وهران، أو في أيِّ مُؤسسة أخرى، من دون جدوى، فقلت على رأي المثل هيْهاتَ: شغلَتْ شِعابي جَدوايَ وبقى الحال على «المرجأ»، إلى أن اِتصلتُ بالصديق الدكتور ميراوي عبد الوهاب؛ لِمَا فيه من إنسانية وفضل، بعد أن رجوتُ منه المساعدة في الحصول على النسخة الأصل من جامعة وهران، الّذي قام بواجب ما ترقبته منه، فله الفضل والشكر. قد يكون هناك مبرر لما حدث، ومع ذلك لا أجد ما يشفع لي في تقصيري في حق صديق جمعتني به عوامل مشتركة كثيرة، لعل أهمها هذا العمل (رسالة الماجستير) الّذي شاركته فيه حين كنتُ مُشرفًا أكاديميًا عليه، وقبل ذلك كان صديقًا بأتم معنى الكلمة، كنتُ أزوره كلّ يوم جمعة صباحًا في بيته المستقل عن عائلته قبل أن يبني عش الزوجية. ولعل من دواعي زيارتي له في هذا الوقت المبكر بالنسبة إليه من كلّ أسبوع هو أنه كان يسكن بمحاذاة السوق الأسبوعي، الّذي يُقام قرب بريد سان شارل Saint Charles كلّ يوم جمعة صباحًا، حينها كنتُ أترك الزوجة تتبضع ما نحن بحاجة إليه طوال الأسبوع، وأصعد أنا إليه في شقته لأجده نائمًا، بسبب الوقت المُتقدم نسبيًا، يفتح الباب وهو في حُكم النائم، فإذا تصحصح أبدى سعادته بمجيئي، وبما أُحْضِره له من مأكولات تليقُ بفطور الصباح، يفرح لأنّه كان يرى في مجيئي في هذا الوقت المنتظم الّذي فرضته علة السوق، فرصة لمناقشة مستقبل البحث، ثم بعد ذلك يقودنا الحديث إلى أمور تتعلق بالثقافة الجزائرية، والثقافة العربية بوجهٍ عام. وقد كانت له شبكة من العلاقات مع مختلف المثقفين في العالم من غربيين وعرب، بشكلٍ لا يتصور.
وبعدَ كلّ هذا الاِرتباط، أَليسَ من حق المرء أن يكون وفيًا، وأنا هنا لا أبتغي وراء هذا الاِعتراف إلاّ التقدير لعهد استوثقته تلك الأيام الخالدة. لذا؛ اِستدعيتُ العزم فيَ؛ لديْن على كاهلي طال أمده، أعرف أنّ المهمة متشعبة، بخاصة ما يتعلق بالكتابة، والمراجعة، والنشر، وإذا كان هناك من فضل في توزيع هذه المهمة، فالإحسان من دون مِنة لصاحبه الأستاذ بن دوبة شريف الدين الّذي ربطتني به صداقة أثمرتها نتيجة هذا المقصد الّذي أردنا له أن يرى النّور في غياب صاحبه من باب الوفاء. ولعل القصد الوحيد الّذي أردناه من وراء هذا المسعى هو إظهار ما أوقده بختي بن عودة في حينه من نور عقله الراجح للوجود في الساحة المعرفية التي كان مُتشبعًا بها، ومُتشعبًا فيها، مرتويًا منها، وممتلئةً به.
بعد كلّ هذا وأكثر لا أجد خيرًا من هذه الصورة التي كانت تحمل رؤيا حالمة في حقه «أنه كان يحمل مشروعا فكريًا أجهض عنوة». لقد اِتسعت صفحة حياته العلمية رغم قصرها بكل ما تتسع له دلالات الوعي، وسلامة الإدراك؛ هكذا كانت إرادته القادرة على مُواجهة الصعاب، وهكذا كانت مثابرته، لولا التصميم المُتقن من عتمة العناكب المتخفية، مع سبق الإصرار والترصد.
لقد حاولوا تغييب «المكتوب» كما يغيب القمر في الليلة الظلماء، وتغيب الشمس في الكسوف الكلي، هكذا أرادوا أن يحترق قَرصنا، ويختفي نورنا... «والأرض يباب، والوطن خراب» أوهكذا تمنوا، كسر القلم لرسم المجهول، وتوقيف الإمكان، وتغييب التبصر؛ غير أنّ «ما كان لم يعد حيث كان، ولم يعد كما كان».
وإذا كانت إرادة المجهول عمياء، فإنّها حتمًا لا تدوم في الاِستفزاز والإقصاء؛ لأنّ وراءها إرادة العقل القادرة على النفاذ إلى اِختراق العُماة، وتحويل «الظلامية» إلى وعي معلوم، يستوجب فهم التحاور، وحوار التفاهم؛ لبناء صرْح المراد، علّنا نبلغ الغايات المرجأة؛ لذلك علينا أن «نتابع طريقنا غير ملتفتين. نحن نعلم ماذا نستطيع أن نعطي، ونعلم من يقف أمامنا» على رأي جوته Goethe. اِنطلاقًا من أنّ «الدهر لا يبني الرجال صوارما إلاّ إذا نشأوا على الجمرات».
ع.ف

آخر الأخبار

Articles Side Pub
Articles Bottom Pub
جريدة النصر الإلكترونية

تأسست جريدة "النصر" في 27 نوفمبر 1908م ، وأممت في 18 سبتمبر 1963م. 
عربت جزئيا في 5 يوليو 1971م (صفحتان)، ثم تعربت كليًا في 1 يناير 1972م. كانت النصر تمتلك مطبعة منذ 1928م حتى 1990م. أصبحت جريدة يومية توزع وتطبع في جميع أنحاء الوطن، من الشرق إلى الغرب ومن الشمال إلى الجنوب.

عن النصر  اتصل بنا 

 

اتصل بنا

المنطقة الصناعية "بالما" 24 فيفري 1956
قسنطينة - الجزائر
قسم التحرير
قسم الإشهار
(+213) (0) 31 60 70 78 (+213) (0) 31 60 70 82
(+213) (0) 31 60 70 77 (+213) (0) 6 60 37 60 00
annasr.journal@gmail.com pub@annasronline.com