ها هو العالم اليوم في ظل الأزمة الصحية الراهنة يجد نفسه بين محاولة القضاء على فيروس كورونا المستجد «علميا» أو محاصرته والسيطرة على انتشاره «اجتماعيا». وفي سابقة هي الأولى من نوعها تجلّى اليوم دور المجتمع بشكل حاسم في إمكانية التحكّم في انتشار هذا الوباء والحدّ من مخاطره على صحة بل وعلى حياة الأفراد، في محاولة لا تقل أهمية عن الجهود المستمرة للمختبرات الصيدلانية والبيوكيميائية عبر العالم لإيجاد لقاحات وأمصال مضادة لهذا الفيروس. نعم، العالم اليوم يجد نفسه بين معجزة العقّار وتجاوب المواطن، بل ببساطة، حياة الانسان اليوم أضحت بين ذكاء العالِم والباحث ووعي الفرد والمجتمع. بيد أن هذا الوعي الذي قد يلعب دورا مصيريا في الحدّ من هذا التفشي الابديميولوجي ليس سواءً في كل المجتمعات، فمنها من ترتفع فيها مستويات ما يسمى بـــــ «الوعي الصحي»، هذا الأخير الذي لا يزال يُعتبر مفهوما ناشئاً، الّا أن تعريفاته عموما تتفق حول كونه: إدراك للمعارف، الحقائق والأهداف الصحية للسلوك الصحي، أي أنه عملية إدراك الفرد للظروف الصحية المحيطة وتكوين اتجاه عقلي نحو الصحة العامة للمجتمع، بحيث يمكِّن الفرد مـن حمايـة نفسـه، أسـرته ومجتمعــه المحلــي مــن مختلـف المخاطر الصحية وحتى البيئية منها. غير أن هذا الوعي لن ينتشر أو يرتفع بين أفراد المجتمع بمجرد نشر بعض المضامين التحسيسية عبر الوسائط الإعلامية، الجماهيرية منها أو الاجتماعية، على غرار تلك الفيديوهات التوعوية التي اجتاحت مواقع التواصل الاجتماعي هذه الآونة، والتي لم يدّخر من خلالها أطباء الجزائر جهدا في توعية وتحذير المواطنين من خطورة انتشار هذا الفيروس، فضلا عن التوصيات المتعلقة بالنظافة والتعقيم وما الى ذلك من التوجيهات التي سهر المختصون في مختلف المجالات الصحية وغيرها دون هوادة على نشرها بين مختلف شرائح المجتمع، بل إن تعزيز ورفع مستويات الوعي الصحي بأي مجتمع، منوط في الأساس بجملة من السياسات والمشاريع الحكومية والخطط الاستراتيجية المبرمجَة عادة على المدى البعيد أو المتوسط، من خلال توفير التمويل المستدام وإقامة المشاريع الخاصة وتنسيق العمل عبر مختلف القطاعات، لاسيما قطاع التعليم الذي يمكنه أن يؤدي دورا هاما في إذكاء الوعي الصحي من خلال دمجه في المناهج الدراسية لمختلف الأطوار، فضلا عن نشر الإعلانات العامة عن المعارف والمهارات الأساسية عبر وسائط الإعلام بأنواعها كافـة، والاضطلاع بأنشـطة التثقيف الصحي في مختلف الأوساط، بما فيها المجتمعـات المحليـة والمرافـق الصـحية وأماكن العمل. ولو أن العالم اليوم قد تجاوز مرحلة الوعي الصحي وانتقل بشكل طارئ وعاجل الى مرحلة الامتثال الصّارم والملح للتعليمات الوقائية والصحية، غير أن هذه الأخيرة قد تصطدم أحيانا بجملة من التحديات الثقافية والأنثربولوجية التي قد تشكل حجر عثرة في سبيل الانصياع والامتثال لها، على غرار الانتشار المعتبر لبعض الذهنيات التقليدية والفولكلورية بالمجتمع الجزائري والعربي على وجه العموم، لاسيما ببعض البيئات الريفية أو فتية التحضر، بل وحتى الحضرية منها، تلك العقليات التي تفتقر عادة إلى الحركية والمرونة الكافية للتعامل بشكل عقلاني مع المستجدات والمستحدثات، كما تجد مرجعيتها ماضوية، تشكِّك في العلم والطب الحديث، في حين تقدّس الشكليات المتوارثة وتحبّذ اللجوء الى بعض الممارسات التقليدية في مجال التداوي والوقاية، بل والاستغناء عنها أحيانا والاكتفاء ببعض الطقوس والشعائر الدينية دون الأخذ بالأسباب حتى ولو كانت تقليدية. فضلا عن اللّااندماج الحضري الذي يشهده المجتمع الجزائري عموما، لا سيما من النواحي التنظيمية والقانونية، أي عدم أو ضعف استيعاب وتقبل الفرد لضوابط وقوانين العيش في المدينة. كل ذلك سيشكل عائقا قويا أمام امتثال الأفراد والأسر وكذا التجار الى مختلف التعليمات الوقائية، بل وحتى القرارات الرسمية يتم خرقها من طرف البعض، فتراهم تارة يتجمهرون ويتزاحمون للحصول على بعض المواد الغذائية لاسيما مادة السميد كما لاحظناه في العديد من المناطق عبر الوطن، وأحيانا يقومون بتنظيم ولائم وأعراس عائلية، ومنهم من يزاول بعض النشاطات التجارية المقرَّر تعليقها بطرق «كلونديستينية»، ضاربين بالأوامر الحكومية المنصوص عليها لمواجهة هذا الوباء عرض الحائط. ناهيك عن عدم الامتثال لما يسمى بالحجر المنزلي Confinement، سواء الذاتي أو الاختياري وحتى القسري، خاصة في ظل التفشي السريع لهذا الفيروس عبر العالم، هذا الأخير الذي سيجد نفسه في نهاية المطاف بين مطرقة انتشار الوباء وسندان تهاون أو انفلات المجتمع. وهنا يبرز دور التدخل السوسيولوجي اليوم ربما أكثر من أي وقت مضى، من خلال المساهمة في تسيير هذه الأزمة الوبائية عن طريق تحليل ردود الفعل الاجتماعية والسلوك الجمعي حيال هذه الأزمة الصحية، والمشاركة في وضع جملة من الآليات والطرق التي من شأنها تعزيز الاستجابات الاجتماعية تجاه الحملات، التوجيهات والتوصيات الصحية والوقائية، بهدف الحد ّمن تفشي هذا الوباء في البلاد والعالم برمته.

الرجوع إلى الأعلى