موسى معيرش يقرأ نظام الحكم في اليهودية
صدر عن دار الكتاب الحديث مؤخرا للزميل الباحث الدكتور موسى معيرش أستاذ الفلسفة بجامعة خنشلة كتاب نظام الحكم في اليهودية نشأته وتطوره دراسة تحليلية نقدية.
ويشكل عنوان الكتاب الذي اختاره صاحبه بدقة واهتمام عنصر المفاجأة فالقراءة الأولى له تطبع في الذهن جملة من الصور التي تتسابق منذ فجر التاريخ، مليئة بالهرج والمرج، فتن وحروب وقتال ومعارك، صراعات واغتيالات، نظم ترتقي وأخرى تسقط شعوب تذل وأخرى تسود كل تلك الصور تمر أمام مخيلة المرء حينما تستوقفه أي عبارة لها علاقة بهذه المجموعة
يتعلق موضوع الكتاب بشأن مهم من شؤون الراهن السياسي المعاصر الذي يدور حول نظام الحكم والدولة في فكر وواقع هذه الطائفة، ويبحث في فلسفة السلطة والمسارات المتبعة خلال حقب طويلة من تاريخ هذه الجماعة.
إن المقتني للكتاب لا يمر بين يديه خصوصية العنوان، الذي اختاره الكاتب للدلالة على أهمية الموضوع أو ربما التشويق لقراءته فمعرفة الآخر وفكره وفلسفته قيمة فطرية في البشر، خاصة إذا تعلق هذا الآخر بخصم سياسي وديني وحضاري قديم قدم الثقافات السماوية.
وقد أحسن المؤلف اختيار الآية الكريمة لتصدير الكتاب، فحينما اختار قوله تعالى من سورة البقرة:” وإذ ابتلى إبراهيم ربه قال إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين” فكأنما يريد الكاتب أن يرسخ حكما نهائيا في مخيلة القارئ، مقتضاه أن العهد الرباني السابق لليهود، والمتمثل في التمكين السياسي لهم في الأرض، لن يَحصل مستقبلا ولن يكون لهم هذا الشرف، لأن عهد الله وولايته وإمامة الناس لا تكون بالظلم، وتجاوز الحقوق البشرية للناس القائمة على العدل والمساواة. فكأنما ساقت الآية الكريمة للقارئ حكما سالف التقدير في أن اليهود وإن كانت لهم دولة أو قام لهم كيان أو ما شابه، فهو عار من أية قيمة دينية أو قيمة اعتبارية عند خالق الإنسان.
وقسّم الكاتب تأليفه إلى خمسة فصول أساسية جعل الفصل الأول منه بعنوان الحاكم في النظام السياسي اليهودي وطرق تولي السلطة في اليهودية، والفصل الثاني أركان الدولة اليهودية، أما الفصل الثالث الأنظمة السياسية في اليهودية من البدايات الأولى الى دخول فلسطين وفي الفصل الرابع تحدث الباحث عن نظام القضاة السياسي ليختم الكتاب بفصل خامس يتحدث فيه عن نظام الملك في اليهودية.
ويكون الكاتب بذلك قد قدم رؤية متكاملة عن الموضوع من حيث زوايا متعددة تتعلق بالشأن السياسي للجماعة اليهودية.
وأما أسلوب الباحث فبمجرد تصفح ورقات الكتاب حتى تجد سهولة في التنقل بين صفحاته دون عناء فقد وفق الكاتب في تبسيط اللغة واختيار المفردات المؤدية للمعنى دون تكلف خاصة في مثل هذه الكتابات التي تفرض على صاحبها إتقان أسلوب الكتابة الفلسفي والديني والتاريخي.
أما المصادر والمراجع المعتمدة في الدراسة فقد تنوعت بين المراجع الدينية الأساسية الإسلامية منها القرآن الكريم وبعض تفاسيره كالطبري والزمخشري والكتابية كالإنجيل والتوراة، ومراجع أخرى عديدة وثرية لها علاقة بصلب الموضوع منها الدينية والتاريخية والفلسفية، أما المراجع باللغة الأجنبية فهي نسبيا قليلة بالنظر لحجم الموضوع، وعالمية الفكرة التي أثارها الباحث والتي تتطلب قراءة مستفيضة لكتابات الآخر.
وقد ولج الأستاذ الباحث موضوعه بكل سرعة ودون تمهل، وتجنب المقدمات المملة والإهداءات الغارقة في الشكليات، كأن شيئا ما يتعقبه سواء ضغوط الزمن والوقت أو تكاليف العمل والبحث، والكل يدعوه لإنهاء الموضوع وإخراجه وتقديمه للقراء، قبل أن تنفرط عقائد العلوم التي في جعبته، فنجد الباحث مباشرة يعالج موضوعه المتمثل في نظام الحكم اليهودي، قبل أن يعطينا ولو لمحة موجزة عن هذه الطائفة من حيث النشأة والتسمية والجذور.
فالقارئ سواء كان باحثا أو من عامة الناس بحاجة لتعريف بين يدي الموضوع للديانة اليهودية، من حيث المعتقدات والشرائع والعبادات التي تقوم عليها، لأن الإلمام بصورة النظام السياسي لليهود يتطلب الحصول على صورة مجملة للديانة وعقائدها، وهذا هو مقتضى المسارات التي أراد صاحب الكتاب أن يضعنا ضمنها.
 كما يتساءل القارئ للكتاب حول نهايات الموضوع، أو بعبارة أخرى هل حقق الموضوع غايته من حيث الاستقراء لفكرة اليهودية وعلاقتها بعالم السياسة والحكم، خاصة عندما اختار الكاتب أن يتوقف في المعالجة والبحث عند فترة النبي سليمان عليه السلام وارتباط حكمه بفكرة الهيكل أو المعبد الأسطوري الذائع الصيت في التاريخ المعاصر.
إن الباحث قد وفق في مسح الفكر اليهودي القديم ودوره في جملة الصراعات السياسية والعسكرية التي رافقت هذه الجماعة البشرية في فترة ما قبل الميلاد، لكن النكهة البحثية لا تزال غير مكتملة دون الحديث عن النظام السياسي لليهود بعد الميلاد وموقفهم من التحولات الجذرية التي مست الكيانات السياسية والدينية في العالم، بعد بعثة النبي عيسى عليه السلام وخاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم، وما مدى استمرار القيم الدينية في التأثير في الكيان السياسي لليهود حتى التاريخ الحديث، وهو ما يشكل مربط الفرس في هذا الموضوع.    
في الأخير نقر أننا أمام بحث تاريخي فلسفي مفصل وافي وشامل، لكن الخاتمة لم تكن في مستوى الجهد المبذول، ويبقى الأستاذ رغم كون الكتاب يرسم إشكالية تاريخية وفيا لمادته التي يدرسها ويبحث فيها وهي الفلسفة، يميل كل الميل لكن لا يذرها كالمعلقة.
إن أهمية الكتاب كبيرة سواء بالنسبة للقارئ البسيط أو بالنسبة للقارئ الباحث، وكذلك الأهمية بنفس القدر بالنسبة لرجال السياسة والحكم، والمعتنين بالشأن العام العربي الراهن، المتمثل في الصراع العربي الصهيوني في أرض فلسطين.
وفي هذا الصدد لنا أن نتساءل هل كان بإمكان الأستاذ الباحث أن يقيم مقارنة بين أنظمة الحكم في الإسلام واليهودية بإسقاطاتها الواقعية والتاريخية، وهل كان بالإمكان أن يكون لهذه الإضافات مكانا ما وفائدة مرجوة في هذا الكتاب القيم.

محمد أوجرتني
جامعة الأمير عبد القادر

الرجوع إلى الأعلى