يعتبر الكاتب و عضو هيئة اليونيسكو بالجزائر، أحمد بن زليخة، بأن بناء الفرد عملية معقدة، لا يمكن أن تتحقق بعيدا عن التوظيف الصحيح للعلوم الإنسانية و الاجتماعية، كونها أداة رئيسية في تلقينه و صقل شخصيته، مؤكدا بأن تقزيم المجال الإنساني مقابل التركيز على التكنولوجيا و العلوم الدقيقة، كلف الجزائر مأساة وطنية لا نزال نتجرع رواسبها، حيث طالب الروائي، بالعودة للاهتمام بالعلوم الإنسانية و بعث مدرسة علم الاجتماع، خصوصا و أن معطيات الراهن المعيش تشير إلى أن الاستثمار الحقيقي يجب أن يكون في الفرد أو المواطن، و هو تحديدا ما دفعه، كما قال، للتركيز على كتابة الرواية بوصفها حجر بناء أساسي في عملية تشييد الفكر، كونها أقدر في رأيه، على تمرير الرسائل و مخاطبة العقل و القلب معا، بفضل الحبكة القصصية و إغراء اللغة.
حاورته /هدى طابي
 بن زليخة قال، في حواره مع النصر، على هامش توقيعه لروايته الأخيرة  « المغفلون» بمكتبة ميديا بلوس، بقسنطينة، بأن مسؤولية الأدب الجزائري تكمن في مخاطبة المجتمع و إعادة ضبط بوصلته، و أن قضيته الأهم، يجب أن تتلخص في مناقشة الواقع الوطني، بعيدا عن محاولة إبهار الآخر و تبني الأفكار الموجهة التي تصبها قوالب العولمة، لأن النخب الثقافية في الخارج، لا تهتم في الغالب، سوى بالنصوص أو الأعمال التي تتماشى مع طرحها الخاص للأشياء و تعريفها المحدد للعلاقات.
علاقتي بقسنطينة يحتضنها برزخ الحب
ـ النصر: تظهر قسنطينة في الكثير من جوانب حياتك و كتاباتك و حتى في حساباتك على مواقع التواصل، رغم ابتعادك عنها، فما سر هذا الرابط العاطفي بينكما؟
ـ أحمد بن زليخة: عندما يكون الإنسان علاقة حقيقية مع شخص أو أمر أو مدينة، فإن هذا الرابط لا يحتكم للزمن، بل ينمو ويزدهر في برزخ الحب، أين يكون الارتباط أبديا، وهو ما يوسع نظرة الفرد للمدينة لتتعدى الفضاء و البنيان، و يمكنه من أن يرى و يحب روح المكان، عندما أزور قسنطينة، و أتجول في شوارعها و أحيائها الشعبية والعصرية، ألتقط الأصوات بفؤادي، لا بسمعي، و الشعور بالألفة الذي يختلجني حينها، يعيدني لذكريات الماضي.
 قسنطينة موجودة دائما بداخلي، ارتبط بها حسيا، و  كل تفصيل بسيط مهما كان، يوقظ عشقي لها حتى و إن تعلق الأمر بـ « صحن الحمص البسيط»، لذلك لا يمكنني أن أكون إلا قسنطينيا بكل حواسي و بقلبي وبروحي، حيثما حللت، ليست نزعة جهوية، بل هو انتماء أتقاسمه مع الكثير من الأصدقاء.

 ـ هل كل المدن قادرة على أن تسكن الإنسان أم أن لبعض المدن خصوصيتها؟
ـ المدن مثل البشر، هناك أشخاص يتمتعون بكاريزما عالية، قسنطينة لها حضورها عبر التاريخ و لا أقول ذلك من باب الشوفينية، قد يربط البعض حضورها بالأحداث و المحطات الإنسانية، لكن في حقيقة الأمر خصوصيتها تكمن في ارتباط الناس بها و حبهم التلقائي لها، وهو ما يمنحها روحا مدنية تسكن كل من يزورها، فالحميمية الاجتماعية التي تميزها وقدرتها على احتواء الجميع، هي ميزتها التي لا تزال تحتفظ بها إلى يومنا هذا.
يجب أن نحرر الأدب من قيود الإيدولوجيا و خطاب السياسة
ـ لماذا تعجز هذه المدينة اليوم عن إنجاب مالك حداد أو كاتب ياسين آخرين، رغم ما يحمله رحمها من كتاب؟ لماذا شحت النصوص التي تعيد تقديمها للعالم رغم كثرة الإنتاج الأدبي؟
ـ أولا لابد من أن نفهم بأن الواقع قد اختلف و نوعية القراء تغيرت ما فرض بالمقابل تغيرا في الأذواق و في الأدب إجمالا، كما اختلفت الكتابة  و الكتاب كذلك، و بات تركيز الكثيرين منهم منصبا اليوم، على القصة، و من يلاحظ مستوى الإنتاج الأدبي من هذا النوع، يمكنه أن يلمس فقرا و ضعفا في الأفكار، يستحيل معهما أن يبعث مالك حداد من جديد.
 أشير أيضا إلى أن هذا الرجل تحديدا، حظي بامتياز معايشة الثورة و التشبع بمعطيات تلك الملحمة الوطنية التاريخية، و بالتالي فإن المناخ العام حينها خدمه و صقل فكره و قلمه،  و عليه يمكن القول بأن النص الناجح لا يولد إلا من رحم ملحمة خاصة، قد يعيشها الإنسان أو يصنعها الكاتب بنفسه، و لعل ذلك هو ما دفعني تحديدا للانطلاق من ملحمة إنسانية عالمية في كتابة روايتي « إلياس»، و هذه القناعة تدفعني للجزم باحتمال ميلاد مالك حداد جديد أو كاتب يسين أو الطاهر وطار و غيرهم.
سلامة هذا المخاض الأدبي مرهونة كذلك، بشروط أخرى تشمل حتى القارئ، فهو أيضا مطالب بالاجتهاد أكثر لفهم الأفكار و تحليل ما وراء الكلمة، كما يتوجب على الإعلام من جانب ثان، أن يلعب دورا أهم و أعمق في بلورة الوعي و صقل الذوق العام، من خلال الابتعاد عن التعميم و التسطيح و تكريس نفس الوجوه و الأسماء.
علما أن التخصص الصحفي يعتبر مفتاحا معياريا في العملية، لأن ذلك من شأنه إعادة تقديم مفهوم الثقافة للمواطن بعيدا عن الشعبوية و الفلكلور و الظواهر الفلسفية و الثقافية الصوتية التي تحترف تقديم العروض في الإعلام، بدل تقديم منتج فكري حقيقي.
 أقول كذلك، بأن هناك سؤالا جوهريا يجب أن يسبق فعل الكتابة، و هو لماذا نكتب؟ لأن الجواب هو ما سيجنبنا مستقبلا الوقوع في أخطائنا السابقة، فعدم الاستثمار في بناء الفرد و تنشئته  أخلاقيا و فكريا، ناهيك عن تكريس العلوم الدقيقة و التكنولوجيا على حساب العلوم الإنسانية  كلف الجزائر المأساة التي عاشتها سابقا، و هنا تحديدا أشير إلى أننا كنا نملك مدرسة هامة في العلوم الاجتماعية، لكننا ضيعناها بسبب جهلنا بأهمية هذا المجال وقيمته. لا يمكن أن نتجاهل كذلك، واقعنا المعيش لأن زمننا يعرف طغيانا للمادية و الرداءة و الانتهازية و انتشار الكذب بشكل كبير.
النخب الغربية لا تغازل الأدب الجزائري الذي لا يخدم أفكارها
ـ  ما هو معيار نجاح الأدب الفرانكوفوني الجزائري في الخارج، وهل صحيح أن البروز  في الخارج مرهون بجلد الذات؟
ـ كما ذهبت إليه في روايتي الأخيرة « المغفلون» ، يعرف عالمنا اليوم  ميلا كبيرا لتتبع كل ما يصب ضمن قالب العولمة، بكل ما تروج له من أفكار وما تفرضه من نظرة موجهة للعالم و للناس و للعلاقات  الإنسانية و الدولية، و هو قالب يدرك بعض الكتاب بأن التخندق داخله يسمح لهم بالبروز، بالمقابل فإن الخروج عنه يعني الاستمرار في الظل طويلا ، الاهتمام الأجنبي بالأدب الجزائري المكتوب باللغة الفرنسية، مرهون بالتماشي مع أفكار معينة، وذلك لأن النخبة الثقافية في الخارج تدرك أهمية الكتابة في بلورة العقل ولا تغازل من لا يسبح في فلكها، ربما قد تحظى بعض النصوص، بالثناء و يشار إلى جماليتها اللغوية ضمن الإصدارات المتخصصة، لكن رواج الأعمال الأدبية في العمارفي الخارج لا يتحقق دون خدمة أفكار خاصة.
ـ ماذا عن المقروئية بالفرنسية في بلادنا هل تعتقد بأن الجيل الجديد أكثر تصالحا مع هذه اللغة؟
ـ محليا إذا تطرقنا لإشكال المقروئية بالفرنسية في بلادنا، فإن الأمر يحيلنا للحديث عن  فخ القراءات الأيديولوجية الموجهة  التي كثيرا ما تخبط فيها الأدب الجزائري، وهي قراءات تخدم ظروفا و أفكارا لا علاقة لها لا بماهية الأدب و علم الاجتماع، لذلك فالأصح هو تحرير الكتابة الأدبية من الإيديولوجية و الأبعاد السياسية، لأن هذا المجال، أيا كانت لغته، مهم لبناء الفكر المجتمعي و أهيمته تكمن في مضمونه و ليس في لغة الكتابة.
 الإشكال اليوم هو أن المدرسة الجزائرية مدرسة معربة، وأغلبية القراء يطالعون بالعربية، لكن ذلك لا ينفي وجود نسبة هامة منهم يفضلون الفرنسية، و هم في الغالب بعيدون عن كل الحسابات الإيديولوجية و متصالحون بشكل كبير مع الأدب و مع كل اللغات.
سلاحي هو الرواية

ـ أثار ياسمين خضرا الجدل مؤخرا بحديثه عن إقصاء يمارسه ضده جزائريون في فرنسا، ما رأيك؟
ـ أحترم ياسمينة خضرا و احترم كمال داود و إن اختلفت معهما في الأفكار، لأنني أدرك الفرق بين الكتابة الأدبية و بين الأفكار الخاصة، العالم لا يخلو من الصراعات الإيديولوجية والأفكار و التوجهات الخاصة و ياسمينة خضرا دافع عن مواقفه وهو حر في ذلك.
 شخصيا لا أحب الخوض في الصراعات، لكن من باب التحليل، يمكنني القول، بأن المنطق يقر بإمكانية أن تلقى أفكارا محددة رواجا من قبل النخب الغربية على حساب أفكار أخرى لا تحظى عادة بنفس الاهتمام، في الجزائر لدينا أفكارنا وأدبنا و لدينا وسائل للدفاع عنها، كالإنترنت والإعلام، ولكن هذا الدفاع يجب أن يعتمد على الحجة و براهين الإقناع، لكي تكون الرسالة واضحة و قوية و مقنعة في البلاتوهات الإعلامية الغربية، لأن الخطاب المفبرك و العدائي عاجز في الغالب، وعليه فنحن بحاجة لتوظيف الذكاء كي نخلق مثقافية جديدة شاملة قادرة على توحيد النظرة بعيدا عن الجفاف والإيديولوجية.
 نحن الآن نفتقر للتواصل بين المثقفين والمفكرين الجزائريين، الندوات شحيحة جدا و الخطاب الواعي بعيد نوعا ما عن المجتمع، و يجب على الإعلام تقريبه و توضيحه أكثر.
أنا مقل في الشعر لأنه بوح ذاتي بينما معركتي مجتمعية
ـ من أنت بين الشاعر و الكاتب، و لما أنت مقل في الشعر؟
ـ  أعتبر نفسي «رجل أفعال»، أحب الحركة و التقدم إلى الأمام، الشعر هو رد فعل و نوع من التعبير عن الذات بالنسبة إلي ولا أزال في الحقيقة أملك عددا من الأعمال الشعرية، لكن تركيزي منصب أكثر على الكتابة الفعالة التي يستدعيها الظرف الذي نعيشه، لذلك  كتبت «إلياس» الملحمة الإنسانية و «المغفلون» الذي يقدم قراءة جديدة للقرن 21، فالرواية بالنسبة لي أقدر على مخاطبة العقل والقلب و توجيه التفكير، ولعل الله سبحانه وتعالى اعتمد على الرواية في كتابه الكريم، لما لها من أهمية و هو أمر نلمسه في سورة أهل الكهف مثلا.
 الرواية تتبع الأسباب لذلك تتضمن دائما الأحداث و القصة و الفعل، لهذا تتماشى أكثر مع الأحداث و تمنحنا نظرة مستقبلية و حرية تامة في تصوير عالم جديد، وفق نظرة مختلفة، لذلك فأنا متفائل بقدرتها على تغيير المجتمع و طرح أفكار لها علاقة وطيدة بالمبادئ و القيم .
 ـ  حدثنا عن برنامجكم كدبلوماسية جزائرية في هيئة اليونيسكو، و هل هناك ملفات أخرى مطروحة للنقاش، بعيدا عن ملفات التراث  المادي و الموسيقي؟
ـ يشمل نشاط الهيئة في الجزائر جانبين، الأول تشرف عليه وزارة الثقافة و يخص تثمين التراث المادي و اللا مادي، أما ثاني شق وهو مجال نشاطنا تحديدا كرئيس لجنة، فيتعلق بالتوثيق الإعلامي، ضمن إطار  عمل ما يعرف ببرنامج «ذاكرة العالم»، وهو برنامج يمس كل ما له علاقة بالوثائق الإعلامية و المخطوطات الثقافية التي تذكرنا بالأحداث التاريخية و الإنسانية و الوطنية التي عرفتها الجزائر والتي تصنف كمادة مرجعية توثق لتجربة هامة، يمكن أن يستفيد منها المجتمع الإنساني.
إستراتجيتنا قائمة على الانفتاح على العالم و الدفاع عن تراثنا الوطني و الدفاع عن القيم و الإبداع الوطني و على حضارتنا و  ثقافتنا، و كل ما يرمز للجزائر، فهذا الزخم الكبير الذي تزخر به الجزائر، يسمح لها بالكينونة في موقع يمنحها امتياز تفعيل آليات التفاهم بين الحضارات والثقافات وهو تحديدا ما سيوصل صوت الجزائر إلى أبعد مدى.

الرجوع إلى الأعلى