نعمــل تحـت القصـف و أخشـى نقـض إسـرائيـل  لعهـدهــا مـع "القيــق"

كغيرها من الصحفيات الفلسطينيات اللواتي قاومن الاحتلال الإسرائيلي بطريقتهن، بنقل انتهاكاته للعالم تحت الرصاص و القصف، استطاعت الإعلامية سالي السكني مراسلة تلفزيون «فلسطين» من غزة، إيصال معاناة شعبها خلال الحروب التي استهدفته في السنوات الأخيرة، فأعدت تقارير إخبارية في قلب الخطر و وسط الدمار، مُتحدية المضايقات الإسرائيلية بل و محاولات استهداف تروي لنا تفاصيلها و أمورا أخرى في هذا الحوار الذي جمعها بـ «النصر».
حاورتها: ياسمين بوالجدري
بداية، عرفي الجمهور الجزائري بسالي السكني و كيف اقتحمت عالم الإعلام؟
في الحقيقة لم أكن أطمح بدراسة الإعلام يوماً أو العمل به، و لكن شاءت الظروف أن أخوض هذا المجال و أصبح جزءاً منه.. بدأت العمل فيه منذ أن بدأت الدراسة الجامعية بغزة.. و لم أكن أعي حينها أن العمل على أرض الميدان إلى جانب الدراسة الأكاديمية هو الخطوة الأولى نحو النجاح.
كانت بدايتي عام 2007 كمقدمة برامج عبر إذاعة محلية.. و كانت الانطلاقة للعمل في العديد من المنابر الإعلامية التي أفخر بها.. مررت خلالها على الإعلام المسموع و المقروء و المرئي سواء كان من خلال عملي كمقدمة برامج أو كمراسلة إخبارية، آخرها كان عملي بتليفزيون فلسطين.. حيث خضت خلاله أجمل و أصعب اللحظات.. حتى باتت مهنة الصحافة بالنسبة لي على رأس أجندتي.. و منذ ما يقارب الخمس سنوات الأخيرة إلى اليوم، لم أكن أتخيل أن أعمل في مجال آخر.. أو أبتعد عن الميدان يوماً واحداً..
كامرأة تعمل في مجتمع شرقي محافظ و في مجال صعب كالصحافة، كيف استطعت تجاوز تلك النظرة الضيقة اتجاه المرأة؟
لا أجد فكرة التغلب على نظرة المجتمع الضيقة و المجحفة أحياناً، تقتصر على الكلمات الرنانة و العبارات التي تعادي فكرة أن المجتمع ذكوري و أن المرأة لها ما للرجل.. بل أرى أن قرار المرأة لإثبات وجودها في سوق العمل يعني عملها الحقيقي و بدء رحلة التحدي لمواجهة كل ما يمكن أن يقف أمام حلمها، لطالما كان مشروعاً.. أما عن العمل في الحقل الإعلامي بالنسبة لأي فتاة و في بلد شرقي محافظ، يعني مضاعفة الجهود لترسيخ فكرة العدالة بين الجنسين.
لا أنكر بأن عائلتي لطالما وقفت إلى جانبي و وثقت بعملي و تابعته جيداً، و هذا كان أكثر العوامل التي جعلتني أواصل بحرية دون أن أحمل همّ ما يمكن أن يقوله قريب أو جار هنا أو هناك، أو صديق للعائلة يرفض طبيعة عملي أو ينفر منها.. سيما في خضم الأحداث التي فرضت علي العمل حتى ساعة متأخرة.. كما حاولت أن أكون الرقيب على ذاتي في كل صغيرة و كبيرة قبل أن يراقبني الآخرون.
كنت من الصحفيات القلائل اللواتي غطين الحروب الأخيرة التي شنها الكيان الصهيوني ضد أبناء غزة.. حدثيني عن ظروف العمل تلك، خاصة في حرب 2012؟
لم تتسنَ لي الفرصة للنزول إلى الميدان خلال الحرب الإسرائيلية الأولى على غزة، و لكن كانت الفرصة الحقيقية خلال الحرب الثانية عام 2012 و الحرب الثالثة في 2014.. لا يمكن أن أصف مشاعري في تلك الأيام العصيبة التي مرت على المواطنين في قطاع غزة.. فقد كان الاستهداف الإسرائيلي عشوائياً لكل ما رصدته آلات الاحتلال العسكرية يتحرك في شوارع غزة و على أسطح المنازل و على الشرفات و حتى حركة المركبات.. كما أن الطواقم الصحفية و الطبية كذلك لم تكن بمنأى عن الاستهداف.
طريق الذهاب للعمل كان محفوفاً بالمخاطر بلا مفر.. فطبيعة سكني كانت تجبرني على المرور من طريق بري قريب من السياج الحدودي، حيث انتشار الدبابات العسكرية المدججة بالقذائف.. و طريق آخر محاذي للبحر حيث الزوارق البحرية الإسرائيلية.
ما هو الموقف الذي بقي عالقا في ذهنك خلال تغطياتك كمراسلة في تلفزيون فلسطين؟
أكثر المواقف الصعبة التي كانت تتكرر في كل تقرير أقوم بإعداده، هي عند نزولي للميدان برفقة الطاقم الصحفي و تواجدنا في مكان نعلم عقب وصولنا إليه أنه مهدد بالقصف.. حيث تبدأ زخات الصواريخ لحظة وصولنا.. و حينها يصعب علينا المكوث في المكان و نعجز عن المغادرة..
إذا تحدثت أو سئلت عن المشاهد التي لا يمكن أن تغادر ذاكرتي مهما طال بي عمري المهني، فلن يَرِد إلى ذهني أسرع مما شاهدته خلال الحرب الإسرائيلية الأخيرة على غزة عام 2014.. و لحسن الحظ لم أقم أنا بنقلها.. حيث كنت أتابع تغطية حية و مباشرة عبر شاشتنا لأحد الزملاء من بلدة خزاعة شرق محافظة خانيونس جنوب القطاع، بعد عودتي من مكان آخر.. لأرى حينها أصعب ما يمكن أن أراه.. حيث قام جنود الاحتلال باقتحام البلدة و محاصرة أحد منازلها المحاذية للحدود..
ألقوا القبض على من تواجد في المنزل ساعتها و قاموا بتقييدهم بالسلاسل و زجهم داخل «حمام المنزل»..و إعدامهم رمياً بوابل من الرصاص.. لتسجل أبشع صورة خلال 51 يوماً من المجازر المتواصلة.
تعرضت مؤخرا رفقة طاقم العمل بتلفزيون فلسطين لاستهداف بقنابل الغاز المسيل للدموع أثناء إحدى التغطيات.. ما الذي حصل بالضبط و كيف تخطيّتم الحادثة؟
التغطية الإعلامية لحالة الصراع السياسي و الميداني في غزة تشبه بعضها إلى حد كبير مهما اختلف شكل و حجم المواجهة.. و قد يكمن الفرق بين تغطيتي للحروب الإسرائيلية و المواجهات الأخيرة في طبيعة الأسلحة المستخدمة في الحالتين.. فالغاز المسيل للدموع و الرصاص الحي و كذلك الرصاص المعدني المغلف بالمطاط، هو ما سيطر على المشهد اليوم مقابل الحجر الذي أعاد للفلسطينيين سلاحاً، بعد ما يزيد عن ثمانية و عشرين عاماً منذ اندلاع الانتفاضة الشعبية الأولى عام 1987.  ما حدث أني توجهت في جمعة الغضب التي صادفت 23 من أكتوبر من 2015، لتغطية المواجهات المشتعلة بين جنود الاحتلال و الشباب المنتفض شرق مخيم البريج وسط قطاع غزة.. فبدأنا عملنا بسلام قبل أن يحتشد المتظاهرون هناك.. و قدمت رسالتي لتلفزيون فلسطين على الهواء مباشرة و لا زالت الأمور بخير.. و لكن بعد وقت قليل تضاعف أعداد المتظاهرين إلى جانب الصحفيين و سيارة الإسعاف الوحيدة التي كانت متواجدة في الميدان..  كنا نبعد حوالي مائة متر و يزيد عن السياج الحدودي الفاصل.. بدأت المواجهات تشتعل، فَهَمَمتُ ببدء إعداد التقرير، لكن الغريب أننا كلما أعددنا الكاميرا و بدأنا كان الاحتلال يستهدفنا بقنابل الغاز بشكل لافت.
المرة الأولى و كانت الأصعب.. استهدفونا بثلاث قنابل غاز متتالية و أصبح الدخان الأبيض يحيطنا من كل اتجاه.. استطاع طاقم العمل الذي كان برفقتي أن يتمالك نفسه، و حاولت أنا كذلك و لكني لم أستطع.. شعرت بالاختناق فسقطت أرضاً.. احتشد حولي الصحفيون و المسعفون و نقلوني لسيارة الإسعاف مباشرة و قدموا لي الأوكسجين و الإسعافات الأزمة إلى أن استعدت وعيي من جديد.. ثم عدت لاستكمال عملي.. فلم يكن من جنود الاحتلال إلا أن قاموا بإلقاء قنابل الغاز تجاهنا مرة أخرى و كرروا فعلتهم ثالثاً و رابعاً و كأن رسالتهم كانت واضحة: « أغلقوا كاميراتكم و معداتكم و غادروا المكان «، مع العلم أنني كنت و جميع الزملاء نرتدي الدرع الصحفي و خوذة الرأس.   عندما عدت لمنزلي و تابعت حصاد أحداث ذاك اليوم.. وجدت أن العديد من الزملاء في غزة و الضفة المحتلة و القدس تعرضوا لمحاولات الاستهداف ذاتها و أكثر.. سواء بالاختناق أو بالرصاص الحي أو المعدني المغلف بالمطاط، فأدركت أن هذه هي سياسة الاحتلال الجديدة تجاه الصحفيين و رجال الإسعاف و المواطنين و كل من قال أنا فلسطيني.. بعد أن وصل الاحتلال لحالة هستيرية من الحقد الأعمى إزاءنا كفلسطينيين في كافة أماكن تواجدنا و عملنا، و هذا ما يزيدنا إصراراً و تحدياً.
علق الصحفي الفلسطيني الأسير محمد القيق إضرابه عن الطعام، بعد التوصل إلى اتفاق مع الجانب الإسرائيلي.. كيف كان دعمكم للقيق؟
الحديث حول إضراب الصحفي الأسير محمد القيق عن الطعام لا ينفصل بالمطلق عما ذكرته سابقاً، فقد جاء في خضم تداعيات المواجهات الدائرة بين جنود الاحتلال و الشباب الفلسطيني في كافة محافظات الوطن.. حيث تم اعتقاله و هو يقوم بعمله الصحفي الطبيعي في تغطية تلك المواجهات.. و بدأ حينها معركة الأمعاء الخاوية و رحلة صمود أسطورية خاضها القيق استمرت 93 يوماً.  في المقابل اشتعلت وسائل الإعلام كافة و مواقع التواصل الاجتماعي في دعم صموده و مساندته بكل الأشكال.. شملت فعاليات و حملات إعلامية و مطالبات قانونية و جهوداً حثيثة من اللجنة الدولية للصليب الأحمر و منظمات حقوق الإنسان من أجل الإفراج عنه.. سيما بعد تدهور حالته الصحية و الإنذارات الطبية باحتمال وفاته.. إلى أن تحقق الانتصار المنشود، و بالفعل أصدرت محكمة الاحتلال حكماً بالإفراج عنه في شهر آيار مايو المقبل، دون تجديد فترة الاعتقال، ليُعلق القيق إضرابه.  و مع ذلك لا زالت لدي تخوفات بعدم إيفاء إسرائيل بوعدها.. و أنها فعلت ذلك فقط لامتصاص غضب الرأي العام الفلسطيني و الدولي المتضامن مع القيق.. كيف لا، و إسرائيل اعتادت نقض العهود و المواثيق منذ عهد الرسول صلى الله عليه و سلم و إلى اليوم.. و التاريخ يُسجِل.
في الأخير، كيف تقيّمون كصحفيين شباب موقف حكومة الجزائر و شعبها الداعم للقضية الفلسطينية؟
إن عدنا بذاكرتنا للوراء تاريخياً و استرجعنا الأحداث و المواقف العربية و الدولية إزاء القضية الفلسطينية، فلا يمكن أن ننكر دور الجزائر الشقيقة حكومة و شعباً في دعم أبناء شعبنا و مؤازرتهم.. فنحن ندرك جيداً أن الجزائر لا يربطها أي علاقة دبلوماسية أو اقتصادية مع إسرائيل.. وأنها قطعت كافة سبل التواصل معها.. إضافة إلى أنها كانت في الصفوف الأولى التي أعلنت عن استعدادها لخوض حرب مشتركة إلى جانب الفلسطينيين لتحرير الأقصى و المقدسات، في وقت تخلى فيه معظم الدول العربية التي كانت من الأساس سبباً في نكبة فلسطين..
عدا عن التصريحات السياسية و الصحفية التي تشجب المواقف العربية التي قبلت بالتطبيع مع الاحتلال و توحيد المصالح و ترى فيه عاراً يدعو للخجل، على حساب دماء شعبنا و تهويد مقدساتنا و استيطان أراضينا.  فكل التحية والحب و الاحترام لشعب الجزائر.. آملة بأن يكون قدوة  لدول عربية فقدت النخوة والشرف ووحدة الدم.. و لا تعرف عن العروبة سوى الاسم.

الرجوع إلى الأعلى