كزهرة أسطورية عملاقة متوجة بشلّال ذهبي تطلع حمام الدباغ وسط طبيعة خلابة، تحرسها الجبال وتحنو عليها وتجعلها تتفرّغ لسحر القادمين إليها وتخليصهم من رواسب الزمن في مفاصلهم.
روبورتاج: رضا حلاس
إنها تحفة طبيعية تشكلت عبر القرون من ترسبات كلسية فريدة أبدعتها يد الزمن، هذا المعلم الأخاذ يشكل أيضا قبلة للزوار من داخل الوطن وخارجه، لما يوفره من توازن فريد بين الجذب السياحي والعلاج الطبيعي. فمن منابعه الحموية تتدفق مياهٌ دافئة تستقطب عشاق الراحة والاستجمام، وتمد يد الشفاء لمن يعانون من الروماتيزم والأمراض الجلدية والتنفسية. وإذ يمتد تاريخه إلى العهد الروماني، فإن لحمام دباغ بعدا تراثيا وثقافيا يعمق من قيمته، ليظل أحد أبرز المعالم السياحية الطبيعية والعلاجية في الجزائر، متربعا على بعد نحو 25 كيلومترا غرب عاصمة الولاية.
معجزة جيولوجية وتاريخ يمتد لآلاف السنين
في مستهل زيارتنا للموقع السياحي بحمام دباغ بقالمة، التقينا بالسيد «كمال سعادة»، منسق المواقع السياحية لدى الوكالة الوطنية للعقار السياحي، الذي أطلعنا على الجوانب الجيولوجية الفريدة لهذا الموقع الطبيعي المميز. وأوضح أن ولاية قالمة شهدت، قبل نحو 3 ملايين سنة، سلسلة من الزلازل العنيفة أدت إلى تشكل شقوق عميقة وطويلة، على شكل مستطيلات تمتد لعدة كيلومترات، هذه الزلازل كانت نتيجة لتحرك الطبقة التكتونية الإفريقية تحت كل من الطبقتين الأوروبية والآسيوية، بمعدل سنوي يقارب 6 ملم، وهو ما ساهم في جعل منطقة قالمة عرضة لزلازل كبرى نتيجة هشاشة الطبقات الأرضية تحتها.مسبوقا بظواهر مماثلة في منطقتي الركنية وبئر بن عصمان. هذا النشاط الجوفي المكثف أدى إلى تشكل ينابيع مياه حموية ساخنة غنية بالمعادن.
و مع مرور الزمن، تسربت المياه الجوفية الباردة إلى أعماق هذه الشقوق، حيث لامست الطبقات الساخنة من باطن الأرض، قبل أن تعود إلى السطح بدرجات حرارة تفوق 97 درجة مئوية، مشكلة بذلك واحدة من أبرز الظواهر الحموية في الجزائر والعالم.
هذه الظاهرة الجيولوجية اللافتة أصبحت اليوم محط أنظار السياح والمهتمين بالمعالجة الحموية، وقد عرفت حمام دباغ استعمالا تاريخيا منذ العصور القديمة، حيث استفاد منها الفينيقيون للاستحمام والتداوي، ثم تبعهم الرومان الذين أنشأوا فيها محطات استشفائية، وأطلقوا عليها اسم «أكواسيبيليتانا» وتضم المنطقة اليوم أكثر من 500 موقع أثري وطبيعي يعكس غناها الحضاري والبيئي.
حمام دباغ.. حين تذوب الأسطورة في مياه الحقيقة
خلال زيارتنا للموقع السياحي بحمام دباغ، استعرض لنا المرشد السياحي المعتمد لدى وزارة السياحة «لخضر حداد» الخلفية الأسطورية والتاريخية لتسميات هذا المعلم الحموي الشهير، أين أكد أن الموقع عرف قديما باسم «حمام الطيب والمسك»، لما للمياه الحارة من فوائد علاجية وروائح مميزة نابعة من عناصرها الكبريتية، غير أن التسمية تغيرت لاحقا، خلال الحقبة الاستعمارية الفرنسية، إلى «حمام المسخوطين»، مستندة إلى أسطورة شعبية لا أساس لها من الصحة العلمية.
وأضاف السيد « حداد لخضر « بأن الأسطورة تحكي أن مجموعة من الأشخاص أقدموا على إقامة حفل زفاف محرم، يعتقد أنه زواج محارم، فحل عليهم غضب إلهي، أدى إلى مسخهم وتحويلهم إلى كتل حجرية مخروطية الشكل متناثرة على هضبة تعرف محلياً باسم «منطقة العرايس» المجاورة للشلال الشهير، ورغم شيوع هذه القصة في المخيلة الشعبية، فإن الدراسات الجيولوجية تؤكد أن التكوينات الصخرية المتواجدة في المنطقة نتجت عن ظواهر طبيعية محضة، ترتبط بالحركة التكتونية والمياه الحموية، وقد تم لاحقاً تصحيح الاسم رسميا إلى «حمام دباغ»، نسبة إلى جبل دباغ المجاور، الذي يحمل دلالة تاريخية وجغرافية أعمق وأكثر دقة.
«الفوارة»...
نبع البخار الشافي في قلب حمام دباغ
في حديثه معنا، أوضح المرشد السياحي «لخضر حداد» أن منبع «الفوارة» يعد من أبرز النقاط العلاجية في حمام دباغ، بل هو كما وصفها "القلب النابض بالبخار الشافي" في هذا الموقع الطبيعي الفريد،
وأضاف قائلا أن الفوارة ليست مجرد منبع ماء ساخن، بل هي مصدر طبيعي للبخار الكبريتي، الذي يعرف بفعاليته الكبيرة في علاج أمراض التنفس، الحساسية، الروماتيزم، وحتى بعض الأمراض الجلدية. كثير من الزوار يأتون خصيصاً للاستفادة من جلسات الاستنشاق الطبيعي التي يوفرها هذا المكان، وهي تجربة علاجية فريدة لا تحتاج إلا للجلوس لبضع دقائق قرب فتحة البخار.»
وأكد حداد أن هذا المنبع الحيوي يغذي العديد من الحمامات المجاورة في حمام دباغ، سواء التقليدية منها أو العصرية، مضيفا أن الفوارة هي المنبع الرئيسي الذي يمنح الحياة للمرافق الحموية في المنطقة، وهي كذلك نقطة جذب سياحي مميزة تجمع بين الفائدة الصحية ومتعة الاكتشاف.
شبكة الينابيع والمواقع السياحية حول قطب حمام دباغ
يمثل حمام دباغ أحد الأقطاب الخمسة الرئيسة للمعالم الحموية في ولاية قالمة، ويمتد فوق شق جيولوجي مستطيل الشكل يمر عبر المدينة، هذا الشق يسمح للمياه الساخنة بالاندفاع من الأعماق، إذ كلما كانت النقطة أكثر عمقا زادت درجة حرارة المياه الخارجة منها. على بعد حوالي 30 كلم توجد نقطة حمام أولاد علي بدرجة حرارة أقل، لكونها تقع على عمق أقل، إلى جانب نقاط حرارية أخرى كحمام النبائل، عين العربي، وبوحشانة.
تحيط بحمام دباغ مواقع سياحية وتاريخية عديدة، خاصة في الجهة الغربية لقالمة مثل غار الجماعة، المقابر الميغاليتية بالسطحة، ومدينة «تبيليس» التاريخية الواقعة على بعد 11 كلم فقط. كما تزخر المنطقة بمواقع الذاكرة مثل مسقط رأس الرئيس الراحل هواري بومدين، إلى جانب المعالم الرومانية شرق قالمة كالمسرح الروماني في هيليوبوليس ومدينة قالمة ذاتها، في منطقة تضم أكثر من 500 موقع سياحي متنوع.
أما الشلال الشهير، فقد تكون بفعل انفجار المياه الحارة الغنية بالمعادن، مما أدى إلى ترسب الصخور المخروطية المميزة بسرعة كبيرة، حيث يبلغ ارتفاع الشلال الرئيسي 15 مترا وطوله أكثر من 30 متر، ويتبعه شلال أصغر يبلغ طوله 25 مترًا وارتفاعه حوالي 14 مترا.
قطب سياحي يجذب الآلاف ويعزز التنمية المستدامة
يعد موقع حمام دباغ من أبرز وأهم الوجهات السياحية في ولاية قالمة، حيث يتميز بفرادته الطبيعية، وجاذبيته الخاصة لسكان الولاية، وزوارها من مختلف أنحاء الوطن. ويشهد هذا الموقع إقبالا واسعا، خاصة خلال العطل الأسبوعية والمدرسية، حيث يبلغ عدد الزوار أحيانا ما يزيد عن 10 ألاف سائح يوميا في محيط الشلال فقط، وأكثر من 21 ألف زائر لمدينة حمام دباغ بأكملها في يوم واحد، ووفقا لتصريحات السيد كمال سعادة، منسق المواقع السياحية بالوكالة الوطنية للعقار السياحي، فقد سجلت سنة 2024 استقبال أكثر من 9600 سائح أجنبي من 125 دولة، إضافة إلى أكثر من 500 ألف سائح محلي. وتتم الزيارات السياحية بتنظيم من وكالات سياحية جزائرية بالتنسيق مع نظيراتها الأجنبية، وتشمل حتى الوفود الدبلوماسية من مختلف السفارات المعتمدة في الجزائر.
ولا تقتصر أهمية حمام دباغ على الجانب السياحي فقط، بل تنعكس هذه الديناميكية إيجابيا على الحياة الاقتصادية للمنطقة، من خلال خلق مناصب شغل مباشرة وغير مباشرة، وتنشيط الحركة التجارية محليا، أما من الناحية البيئية، فيُعتبر احترام المعايير البيئية أحد الشروط الأساسية لتصنيف واستغلال هذا الموقع، حيث تراعى ثلاث ركائز رئيسية في التهيئة السياحية، على رأسها الاستدامة البيئية، بهدف ضمان توازن بين استغلال الموارد الطبيعية وحمايتها للأجيال القادمة.
الشاب «وسيم».. يتحدى الإعاقة ويصنع الأمل في قلب الشلال
وفي ركن من أركان موقع الشلال السياحي، صادفنا الشاب وسيم، ابن 17 ربيعا، أحد أبناء مدينة حمام دباغ، الذي اختار أن يتحدى إعاقته الحركية بكل عزيمة وإصرار، حيث يزاول نشاطا تجاريا متواضعا على كرسيه المتحرك، يبيع من خلاله أكسسوارات متنوعة، ألعاب أطفال، ومأكولات خفيفة خلال عطلة نهاية الأسبوع. وسيم، الذي يوازن بين مواصلة دراسته ومساعدته لعائلته ماديا، يجسد صورة حقيقية للإرادة والطموح رغم التحديات، وقد أوضح أن الحركة التجارية تعرف انتعاشا ملحوظا خلال فصلي الشتاء والربيع، وأيام نهاية الأسبوع والعطل، فيما تشهد ركودا نسبيا في باقي أيام السنة، مشيراً إلى أهمية دعم المبادرات الصغيرة للشباب المحلي في تعزيز الحركية الاقتصادية للموقع السياحي.
«لعموري عمار» حرفي في مجال الصناعات التقليدية
ومن جهته، أكد الحرفي «لعموري عمار»، الذي يدير محلا تجاريا بالموقع السياحي منذ سنة 2018، أنه يزاول نشاطه في بيع المنتوجات التقليدية والتذكارات السياحية الخاصة بمدينة قالمة، من ألبسة تقليدية، وأفرشة، واكسسوارات متنوعة تجذب الزوار. وأوضح أن محله يشهد إقبالامتزايدا من السياح القادمين من مختلف ولايات الوطن، إلى جانب زوار أجانب من دول كروسيا، الولايات المتحدة الأمريكية، فرنسا، ألمانيا، الأردن وخاصة تونس وليبيا وغيرها، حيث يبدي هؤلاء اهتماما ملحوظا بالمنتوجات التقليدية المحلية. كما عبر الحرفي عن أمله في أن تسهم الحركة السياحية المتنامية بالمنطقة في توسيع نشاطه وتطوير تجارته ضمن الديناميكية الجديدة التي يشهدها القطاع السياحي في حمام دباغ.
سحر المكان يلامس القلوب
أبدى الزوار إعجابهم الكبير بجمال موقع حمام دباغ وفرادته الطبيعية، حيث عبر الكثير منهم عن انبهارهم بحرارة المياه المتدفقة من أعماق الأرض، وبالمشهد الساحر لـ»الشلال الذهبي» الذي يشكل نقطة جذب رئيسية للزوار.
في هذا السياق، صرحت مديرة الشباب لبلدية مسكيانة ولاية أم البواقي قائلة: «نظمنا رحلة سياحية وترفيهية إلى حمام دباغ، وهي زيارتنا الأولى إلى ولاية قالمة، وقد أبدى الأطفال انبهارهم بالموقع، فهو في غاية الروعة، بطبيعته الخلابة ومياهه الحموية التي توفر أجواء مثالية للاسترخاء.»أما أحد الزوار، وهو رب عائلة قدم من بلدية عزابة بولاية سكيكدة، فقال: «أزور حمام دباغ لأول مرة برفقة عائلتي، وقد أُعجب الجميع بالمكان، الطبيعة خلابة، والخدمات السياحية جيدة. وقد أجمع العديد من الزوار، من مختلف الفئات والولايات، على أن هذا الموقع السياحي يمزج بين الراحة النفسية، والعلاج الطبيعي، في أجواء عائلية دافئة، مما جعله وجهة مفضلة سواء للراحة أو للاستشفاء، بل وواحدة من أبرز المحطات السياحية التي تستقطب الزوار من داخل الوطن وخارجه.
سلق البيض في مياه الشلال الذهبي
في مشهد نادر يمزج بين العجائب الطبيعية والمتعة السياحية، عايشنا رفقة زوار «الشلال الذهبي» بحمام دباغ تجربة فريدة تستحق التوثيق، وهي سلق البيض في المياه الحموية التي تتجاوز حرارتها 97 درجة مئوية وسط دهشة الحاضرين.تم وضع بيض غير مقشر داخل كيس بلاستيكي مغمورة جزئيا في أحد مجاري المياه الساخنة المتدفقة من باطن الأرض، وبعد نحو 10دقائق فقط، كانت المفاجأة، البيض أصبح ناضجا بالكامل، أشبه بما يطهى على نار منزلية هادئة، دون الحاجة إلى أي مصدر حرارة صناعي.
هذه الظاهرة، ورغم بساطتها الظاهرة، تعكس القوة الحرارية الجوفية الفريدة للموقع، وتحولت مع مرور الوقت إلى طقس سياحي طريف، يستهوي الزوار الذين يتسابقون لتجربته وتوثيقه عبر الصور ومقاطع الفيديو، وتعد هذه التجربة، خصوصا بالنسبة للأطفال والعائلات، لحظة ترفيهية وتعليمية في آن واحد، إذ تثير الفضول حول الخصائص الجيولوجية للمنطقة، وتشجع على التفاعل مع المكان بطريقة حسية ومباشرة، ولأن مياه حمام دباغ تحتفظ بحرارتها العالية طيلة السنة، فإن هذه الطبخة الطبيعية تبقى ممكنة في جميع الفصول، ما يضيف للموقع بعدا سياحيا فريدا يجمع بين الاستشفاء، الاكتشاف، والمتعة العائلية.
بنية تحتية حموية وسياحية في توسع
يضمّ موقع حمام دباغ بنية تحتية حموية وسياحية متكاملة، في مقدمتها مركب حمام الشلالة التابع لمجمع فندقة سياحة وحمامات معدنية. يُصنف هذا المركب في فئة نجمتين، ويقدم خدمات استشفائية وترفيهية راقية، حيث تبلغ طاقته الاستيعابية الإجمالية 530 سريرا، موزعة على فندق يحتوي على 170 سريرا، و112 بنغل، إلى جانب مطعم يسع 120 شخصا.يوفر المركب تجربة علاجية متكاملة تشمل العلاج بالمياه الحموية، التدليك، إعادة التأهيل البدني، السونا، حمامات السباحة، وغرف الاستحمام التي يبلغ عددها 131 غرفة، وتجرى حاليا عمليات تحديث وعصرنة لتحسين جودة الخدمات المقدمة، بالتوازي مع مشروع توسعة طموح يتمثل في إنشاء مجمع سياحي رياضي جديد يضم فندقا من فئة أربع نجوم،بسعة 320 سريرا، إلى جانب مسبح وملاعب رياضية متعددة. كما تحتفظ المنطقة بطابعها التقليدي من خلال وجود حمامات شعبية تستغل بطرق تقليدية، مثل حمام المسك والطين (28)غرفة، حمام بن ناجي (30) غرفة، وحمام خرشيش(14) غرفة، التي ما تزال تستقطب فئة واسعة من الزوار الباحثين عن أجواء استشفائية بسيطة وأصيلة.
إلى جانب المرافق العمومية، تعرف المنطقة تزايدا في الاستثمارات السياحية الخاصة، حيث تتوزع على محيط حمام دباغ عدة مشاريع ومنشآت في طور الاستغلال أو الإنجاز،ومن أبرزها مركب الإخوة بن مساهل، الذي يمثل نموذجا عصريا للسياحة الحموية في الجزائر. يتكون هذا المشروع من بناغل عائلية مختلفة السعات، حمام سباحة، ملعب جواري، مدينة ألعاب للأطفال، مطعمين، كافيتيريا، ومرآب واسع، فضلا عن فندق فاخر على وشك الافتتاح يتألف من 71 غرفة، و4 أجنحة مجهزة بأرقى المرافق، ويشمل المركب أيضا فضاءات رياضية وعلاجية، وحمامات طبيعية ومسابح عصرية، ما يجعله وجهة مثالية تجمع بين الاستجمام والاستشفاء.
رضا حلاس