يؤكد أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر والباحث في التاريخ الإنساني بجامعة البليدة 2، البروفيسور محفوظ عاشور، أن جرائم الاستعمار الفرنسي في الجزائر هي جرائم ضد الإنسانية، كان هدفها إبادة شعب بأكمله، مضيفا في هذا الحوار الذي خص به "النصر" أن هذه الجرائم التي ارتكبتها فرنسا لم تحترم فيها أي قانون شرعي ولا وضعي ولا دولي ولن تسقط بالتقادم، لأنها جرائم تبقى راسخة في ذهن الجزائريين وذهن الإنسانية جمعاء، فيما لم تحرك فرنسا ساكنًا للاعتراف بها على الأقل وتعويض المتضررين منها.
حاوره: نورالدين عراب
النصر: فرنسا استعملت أبشع أساليب التعذيب ضد الشعب الجزائري طيلة فترة استعمارها للجزائر، كيف تصف هذه الجرائم؟
- الأستاذ عاشور: جرائم الاستعمار الفرنسي هي جرائم ضد الإنسانية لأن هدفها كان إبادة شعب بأكمله، وبدأت هذه الجرائم منذ أن وطأت أقدام الاستعمار الفرنسي أرض الجزائر، وما حدث في هذا البلد لم يحدث في أي قطر من العالم، من جرائم إبادة تفنّن فيها الاستعمار الفرنسي.
ففرنسا ارتكبت المجازر حتى في فترة المفاوضات بين 1960 و1962، وأنشئت المنظمة السرية من طرف جنرالات الجيش الفرنسي الراغبين في إبقاء الجزائر فرنسية، والذين أنشأوا عدة مراكز للتعذيب، كما فجروا أحياء بكاملها، ونفذوا اغتيالات في حق النخبة الجزائرية، وذلك قبل الاستقلال وفي فترة المفاوضات، حيث ارتكب جنرالات فرنسا والجمهورية الفرنسية الخامسة مجازر بشعة في حق الشعب الجزائري.
النصر: هل يمكن تصنيف هذه الجرائم على أنها جرائم حرب وفق القانون الدولي، ولا يمكن أن تسقط بالتقادم؟
- الأستاذ عاشور: أكيد أن هذه الجرائم جرائم حرب، لأن القانون الإنساني الدولي الذي يضم اتفاقيات جنيف والتي صادقت عليها وانضمت إليها فرنسا في سنة 1951 يدل على أن كل هذه الجرائم في الجزائر هي جرائم حرب، ولا يكفي هذا، وحتى قبل إنشاء اللجنة الدولية للصليب الأحمر في سنة 1863، أي قبل هذا التاريخ، كانت حقوق الإنسان قائمة، وفرنسا كانت ترى نفسها على أنها رائدة حقوق الإنسان، في حين أنها هي الأولى التي داست على حقوق الإنسان، وهذه الجرائم التي ارتكبتها فرنسا لا تسقط بالتقادم لأنها تمادت في الإجرام، حيث وصل بها الأمر إلى قطع رؤوس المقاومين والاحتفاظ بها في متحف الإنسان، الذي يسمى "الإنسان" في حين أنه هو ضد الإنسان، كما أن هذه الجرائم التي ارتكبتها فرنسا لم تحترم فيها أي قانون شرعي ولا وضعي ولا دولي، فالقوانين التي تسير الإنسانية هي قوانين المنطق، وفرنسا تجاوزت هذا المنطق وأصبحت دولة ينطبق عليها وصف الدولة الإجرامية، خاصة في عهد الجمهورية الفرنسية الخامسة، وحتى الجمهوريات التي سبقتها، فلما نتكلم عن المقاومة فهي في عهد الإمبراطورية والعهود الملكية وغير ذلك، كانت لهم نفس الطريقة في التعامل مع الشعوب والمقاومين، وهي القتل والتفنن في التعذيب، وهذا ما ميز الدولة الفرنسية الاستعمارية التي طبقت كل هذه الطرق في المناطق التي احتلتها، وخاصة في الجزائر التي عانت لمدة 132 سنة.
جرائم فرنسا في الجزائر لم تحدث في أي بلد آخر
النصر : ما هي آثار هذه الجرائم على الشعب الجزائري بعد الاستقلال، خصوصًا وأن بعض هذه الجرائم بقيت آثارها إلى يومنا هذا؟
- الأستاذ عاشور: أكيد أن آثار جرائم الاستعمار الفرنسي على الشعب الجزائري واضحة وضوحًا تامًا وجليًا في تاريخ الشعب وثقافته، وفي كل المجالات، وإذا تحدثنا حتى عن الغناء والقصائد نجدها تتطرق إلى هذه المجازر والمعاناة التي مر بها الشعب الجزائري، فالذاكرة الوطنية والذاكرة الشعبية ما زالت مجروحة وتحتفظ بهذه الجرائم، وتثبت أن الشعب الجزائري لا ينسى جرائم المستعمر، مهما تعاقبت الأجيال، ولا يزال الشعب الجزائري يعاني من مخلفات الفترة الاستعمارية، وبقيت مناطق ملغّمة، ولولا الجيش الوطني الشعبي الذي قام بإزالة هذه الألغام بالتعاون مع بعض الدول، لكانت كوارث المستعمر أكبر، وعلى الرغم من ذلك، لا تزال فرنسا تقتل في الجزائر، لأنه لا تزال بعض القنابل التي استعملتها والمتفجرات ضد الشعب الجزائري لم تنفجر، كما لا تزال مراكز التعذيب التي تذكر الشعب الجزائري بمعاناته، ولا تزال بعض الفيلات التي حوّلت إلى المستوطنين ومراكز للتعذيب، ولا زالت منطقة رقان ومناطق في تمنراست، ومناطق في الصحراء التي استُعملت للتجارب النووية، تقتل الجزائريين ومحرّمة عليهم، وهذه الجرائم لا يمكن أن تسقط بالتقادم، لأنها جرائم تبقى راسخة في ذهن الجزائريين وذهن الإنسانية جمعاء، ولم تحرك فرنسا ساكنًا للاعتراف بها على الأقل وتعويض المتضررين منها، خاصة الذين تضرروا من القنابل والتفجيرات النووية في رقان وغيرها.
النصر: في رأيك، لماذا ترفض فرنسا تعويض الجزائريين عن جرائمها في الجزائر، خاصة ضحايا التفجيرات النووية ؟
- الأستاذ عاشور: لا أعتقد أن الجمهورية الفرنسية الخامسة الحالية تعترف بجرائمها وتعوض ما خلفته من خسائر، على الأقل تنظيف المناطق التي حولتها إلى مزابل للنفايات النووية، لأن الجمهورية الخامسة لا زالت قائمة أولًا، وثانيًا هذا اللوبي الذي كان يحلم بالجزائر فرنسية، ولا يزال يحلم بها، لا يزال يدير دواليب الدولة الفرنسية، فلا أعتقد أن تتراجع الدولة الفرنسية عن ذلك، إلا إذا كان هناك تغيير شامل في السلطة الفرنسية، وسقوط الجمهورية الخامسة، أظن أن المعركة حاليًا موجودة داخل فرنسا بين الفرنسيين، والاعتراف ليس من شيم الفرنسي الذي يرتكب الجرائم ويفتخر بها، والدليل البارز متحف الإنسان.
النصر: إلى أي مدى يمكن لاعترافات جنرالات وجنود فرنسيين بارتكاب جرائم في الجزائر خلال الفترة الاستعمارية أن تُساهم في إدانة المستعمر ومطاردته أمام القانون الدولي؟
- الأستاذ عاشور: بالنسبة للاعترافات الفرنسية بالمجازر التي ارتُكبت في الجزائر إبان الاحتلال، فإنها لا تعدو أن تكون شهادات أدلى بها بعض الجنود، أو مذكرات كتبها جنرالات فرنسيون، وثّقوا فيها الجرائم التي اقترفوها بحق الجزائريين، كما نجد طبقة مثقفة من المؤرخين الفرنسيين كتبوا عن هذه المجازر، لكن كل هذا لا يكفي، لأن القانون الدولي الإنساني، واللجنة الدولية للصليب الأحمر، ليست لديهما سلطة لإجبار الدول على الالتزام بها، بل إن التزام الدول بمبادئ الإنسانية يبقى مسألة طوعية، فمجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، هو الآخر لا يملك صلاحية فرض عقوبات على الدول التي تنتهك حقوق الإنسان، ونحن نرى ذلك جليًا اليوم في تعامل المجتمع الدولي مع الكيان الصهيوني، الذي يمارس الإبادة بحق الشعب الفلسطيني دون أي رد فعل يُذكر، لا من مجلس حقوق الإنسان ولا من أية جهة دولية أخرى، وهذا راجع إلى طبيعة النظام الدولي الحالي، الذي تُهيمن عليه الدول الغربية الكبرى، ولا يطبق القانون الدولي إلا حسب مصالحها.
ذاكرة الجزائريين تحتفظ بجرائم فرنسا التي بقيت أثارها قائمة إلى اليوم
النصر: كيف يمكن لجرائم المستعمر البشعة طيلة فترة احتلال الجزائر أن تُمثل ردًا على ممجدي الاستعمار وأتباعه ؟
- الأستاذ عاشور: هذا صحيح، الرد على هؤلاء يجب أن يكون بالحُجّة والبرهان،
لكن من المهم أن نفهم أن مروّجي محاسن الاستعمار ينتمون لتيار لم يهضم استقلال الجزائر، وهو تيار يحمل حقدًا دفينًا تجاه الشعب والدولة الجزائرية، ويُشكّك في كل تطور يحصل داخل الجزائر، فهم لا يصفون الجزائر بالدولة، بل بـالنظام، ولا يعترفون بأي إنجاز، بل يُرجعون كل شيء إلى ما تركته فرنسا، رغم أن هذه الأخيرة لم تترك سوى الدمار والخراب والمجازر، والشعب الجزائري بعد الاستقلال عانى كثيرًا، والدولة الجزائرية رفعت تحديات كبرى لإعادة بناء نفسها سياسيًا، اقتصاديًا، ثقافيًا وحتّى رياضيًا.
لقد تحولت الجزائر بعد الاستقلال إلى ورشة عمل مفتوحة لإصلاح ما دمره الاستعمار، خاصة في مجال الهوية والتعليم، حيث بلغت نسبة الأمية مستويات خطيرة آنذاك، ناهيك عن خرق فرنسا لبنود "اتفاقيات إيفيان" التي كانت تنص على بقاء بعض الإطارات لتسيير المرحلة الانتقالية بعد الاستقلال، لكنهم انسحبوا جميعًا، وتركوا الجزائر تواجه مصيرها وحدها، واعتمدت الدولة الجزائرية على نخبة صغيرة من الإطارات الوطنية، وعلى التعاون الدولي من الدول الشقيقة والصديقة، للخروج من الوضع الصعب الذي تركه الاستعمار.
النصر: الكيان الصهيوني يرتكب جرائم بشعة في غزة منذ أكثـر من عام ونصف، ما القاسم المشترك والتشابه بين جرائم الاستعمار الفرنسي في الجزائر وجرائم الكيان الصهيوني في غزة؟
- الأستاذ عاشور: التشابه واضح جدًا، لأن نفس الطريقة التي استعملها الاستعمار الفرنسي في الجزائر، يستعملها الكيان الصهيوني في أرض فلسطين ضد الشعب الفلسطيني، والكيان الصهيوني صناعة غربية ومدعوم من الغرب، ففرنسا و الكيان الصهيوني بمثابة التلميذ الذي يتعلم من أستاذه، وفرنسا هي أستاذة الكيان الصهيوني، علمته كيف يُبيد الشعوب، وكيف يراوغ في الإعلام ويوظف هذا الإعلام لصالحه، وهو ما حدث مع الشعب الجزائري، وفرنسا لا تزال تفكر تفكيرًا استعماريًا، وهذا التفكير نقلته للصهاينة، كما لا يزال لوبي صهيوني قوي في فرنسا هو الذي يسير هذه الأفكار والمواقف، والدعم يكون دائمًا في الشر وليس في الخير، في القتل والجرائم والإبادة من جهة، ومن جهة أخرى التظاهر بأنها دولة ترعى حقوق الإنسان، وهذه الحقوق لا تطبقها فرنسا سوى على الظالم وليس على المظلوم، كما فعلت مع الثورة التحريرية، حيث كانت تجرم جبهة التحرير الوطني.
فرنسا كانت تعتبر نفسها رائدة لحقوق الإنسان في وقت كانت ترتكب الجرائم بالجزائر
ولهذا كل ما يفعله الكيان الصهيوني على أرض فلسطين فعلته فرنسا في الجزائر، لكن في النهاية انتصر الشعب الجزائري بعد 132 سنة من المعاناة والكفاح، وهذا ما سيحدث بإذن الله مع الفلسطينيين.
ن ع