أكد أستاذ التاريخ المعاصر البروفيسور مولود قرين، على الأهمية الكبيرة التي توليها الدولة لملف الذاكرة و كتابة التاريخ الوطني والتعريف به وإبراز تضحيات الأجداد و الأسلاف لجيل اليوم ،عبر مختلف الوسائط والقنوات والروافد المختلفة، لافتا إلى أن الثورة التحريرية المجيدة، كانت فريدة من نوعها وتجربة رائدة في جميع المجالات، حيث قدم الشعب الجزائري، درسا لا مثيل له، مؤكدا أن الجرائم التي ارتكبها الاستعمار الفرنسي، هي جرائم دولة، ضد الإنسانية و لا تسقط بالتقادم و تتحملها الدولة الفرنسية الرسمية وتبقى وصمة عار تلاحق فرنسا إلى يومنا.
حاوره: مراد - ح
النصر : تحيي الجزائر يوم السبت 5 جويلية، الذكرى 63 لاسترجاع السيادة الوطنية ، بعد تضحيات جسام قدمها الشعب الجزائري طيلة 132 سنة، من أجل طرد الاستعمار والوصول إلى الاستقلال، ماذا يمكن أن نستخلصه من دروس وعبر في هذه المحطة التاريخية الخالدة؟
مولود قرين: تاريخ 5 جويلية 1962 هو محطة هامة في تاريخ الجزائر المعاصر والذي تمكن فيه الجزائريون من استعادة السيادة الوطنية بعد مقاومة شرسة ، خاضها الشعب الجزائري من 1830 إلى غاية 1962، وهذا التاريخ يعبر حقيقة عن مدى إصرار الجزائريين للتخلص من الاستعمار الفرنسي وهذا التاريخ يجعلنا نستشف مجموعة من الدروس ونستخلص الكثير من العبر، لعل العبرة والدرس الأول هو أن إرادة الشعوب لا تقهر مهما كانت قوة العدو وجبروته، فالاستعمار الفرنسي، رغم أنه كان قوة كبيرة، عسكريا ومتحالفا مع الحلف الأطلسي، إلا أن إصرار الجزائريين ورغبتهم في التحرر، جعلت النصر والاستقلال واقعا، كذلك من العبر التي يمكن استخلاصها في هذا التاريخ هو الوحدة الوطنية والتي بفضلها تمكن الجزائريون من تحقيق النصر، حيث توحد المجتمع الجزائري بكل شرائحه وأطيافه ومشاربه حول مشروع جبهة التحرير الوطني وكذلك توحد من الشرق إلى الغرب ومن الشمال إلى الجنوب وما أحوجنا لشعور الوحدة الوطنية ، فهو السبيل الوحيد من أجل الحفاظ على أمانة الشهداء، كذلك عرف الجزائريون على مر التاريخ بتضحياتهم الجسام من أجل تحقيق الاستقلال ونحن الآن مدعوون للتضحية من جديد في سبيل الحفاظ على أمانة الشهداء وبناء دولة جزائرية قوية قادرة على تحدي كل الرهانات.
النصر : الاستعمار الفرنسي لم يسبق له مثيل وكان الأبشع و الأخطر من نوعه في التاريخ الحديث، حيث ارتكب في الجزائر مجازر متعددة وجرائم ضد الإنسانية، ماذا تقولون في هذا الشأن؟
جرائم ضد الانسانية تتحملها الدولة الفرنسية
مولود قرين: الاستعمار الفرنسي لا مثيل له بالنظر إلى الجرائم التي ارتكبها في حق الجزائريين منذ 1830 ، فجرائمه متعددة ومتنوعة و طالت الإبادة الجماعية، قبائل بأكملها مثل ما حدث في العوفية 1832 وفي الفراشيش 1854 وفي الأغواط في 1852 و مجازر 8 ماي 1945 وكذا الجرائم التي ارتكبت خلال الثورة التحريرية و غيرها من الجرائم التي استهدفت الإنسان الجزائري وأيضا الجرائم الاقتصادية ، مصادرة أملاك وأراضي الجزائريين وتجويعهم وتفقيرهم ودفعهم إلى ترك مناطقهم وبلادهم والهجرة سواء داخل الوطن أو خارجه، وهذا ما يسمى بسياسة التهجير و النفي القصري وغيرها من مظاهر التهجير التي تعتبر في القوانين الدولية، جرائم ضد الإنسانية وكذلك جريمة إلغاء السيادة الوطنية والقضاء على الهوية الوطنية ومحاولة تغريب المجتمع الجزائري وفرنسته، والجرائم التي ارتكبت في حق الجزائريين هي جرائم دولة تتحملها الدولة الفرنسية الرسمية بصفة خاصة ، لأن أوامر القمع والإبادة كانت تصدر من طرف قيادات رسمية تابعة للدولة الفرنسية، بداية بجرائم القرن ال19 ، فالضباط الفرنسيون مثل بيجو وبيليسي و غيرهم كانوا يتلقون أوامر القمع والإبادة من حكومتهم ، الأرض المحروقة ليست عملا معزولا قام به بيجو وإنما كانت أوامر رسمية تتحملها الدولة الفرنسية وكذلك مجازر 8 ماي 1945، يتحملها الجنرال ديغول الذي كان رئيسا لحكومة فرنسا في تلك الفترة ، فهو الذي أعطى الأوامر بضرورة قمع كل تظاهرة ولو كانت سلمية وكذلك الجرائم المرتكبة خلال الثورة التحريرية و الاغتيالات دون محاكمة و الإبادات وغيرها من المظاهر الأخرى، كانت بإيعاز من القيادات، سواء السياسية أو العسكرية في الحكومة الفرنسية ، ولازالت هذه الجرائم وصمة عار تلاحق فرنسا إلى غاية يومنا هذا وبلغة القانون ، هذه الجرائم لا يمكن ان تسقط بالتقادم.
الاستعمار الفرنسي الأخطر من نوعه و لا مثيل له
فالاستعمار الفرنسي أخطر استعمار من نوعه ، حيث ألغى الدولة الجزائرية و ألغى وجود الجزائر وحاول أن يقضي على الشعب الجزائري ويحل محله شعب أوروبي ولكن أمام إصرار الجزائريين ومقاومتهم الشرسة سقط هذا المشروع في الماء ولم تستطع فرنسا أن تحقق خرافة الجزائر فرنسية التي ظلت تدافع عنها و متشبثة بها طيلة 132 سنة ، فبعد قانون 1834 و بعد دستور 1848 ، حاولت فرنسا أن تبقى في الجزائر وقالت أن الجزائر، جزء لا يتجزأ من التراب الفرنسي والذي أجهض هذا المشروع هي المقاومة الشرسة التي استمرت 132 سنة .
وعلى الشباب اليوم أن يحافظ على أمانة الشهداء وأن يقتضي بأسلافه وبالدروس التي قدمها الشهداء والمجاهدون وأهم ما أوصي به الشباب اليوم هو الوحدة الوطنية ، الوحدة الوطنية خط أحمر ، فلابد أن يتوحد صفنا من أجل أن تكون في مستوى تطلعات الشهداء.
النصر: رغم الجرائم المروعة والمجازر الوحشية ، استبسل الشعب الجزائري واستمات في الدفاع عن أرضه ومقاومة المحتل وشكلت الثورة التحريرية المجيدة، تجربة رائدة ، ماذا بخصوص فلسفة وقيم الثورة الجزائرية وانعكاساتها وتداعياتها المتواصلة؟
الثورة الجزائرية كانت فريدة من نوعها وتجربة رائدة
مولود قرين: الجزائريون قدموا درسا لا مثيل له ، درس يمكن أن يستفاد منه في كل حركات التحرر التي لا زالت قائمة إلى غاية يومنا هذا ، يمكن للفلسطينيين والصحراويين الاستفادة من ذلك ، فإرادة الشعوب لا تقهر و نتيجة للتضحيات التي قدمها أجدادنا وأسلافنا نحن اليوم ننعم بالاستقلال والحرية والأمن.
والثورة الجزائرية كانت فريدة من نوعها في العالم وتجربة رائدة في جميع المجالات، سواء على مستوى التكتيك العسكري وكذلك في العمل الدبلوماسي و كذلك في قيمها وفلسفتها ومبادئها و التي كانت مبادئ إنسانية بالدرجة الأولى فالثورة الجزائرية لم تكن مجرد حرب كما وصفتها الأدبيات التاريخية الفرنسية ، بل هي مشروع حضاري شامل ومتكامل حيث حررت الثورة، الإنسان من العبودية ومن مظاهر الاستغلال بكل أشكاله وما زالت هذه الفلسفة وهذه القيم هي التي تؤطر المجتمع الجزائري وهي التي تؤطر فلسفة الدولة الجزائرية المتعلقة بالسياسة الخارجية ولعل في مقدمتها مساندة الشعوب في تقرير مصيرها .
النصر : انخرط الشعب الجزائري في مقاومة الاستعمار الفرنسي ، بجميع فئاته وشرائحه ولعبت من جانبها النخب الجزائرية، دورا مهما في مسيرة التحرير و استعادة السيادة الوطنية، كيف ترون ذلك ؟
دور بارز للنخب في القيادة والتخطيط والتأطير
مولود قرين: النخب الجزائرية، كان لها دور كبير جدا في قيادة المقاومة والحركة الوطنية الجزائرية، فالذين قادوا المقاومات الشعبية هم نخب وصفوة القوم و أغلب المقاومين في القرن ال 19، كانوا ينتمون إلى الطرق الصوفية وشيوخ للزوايا، مثل الأمير عبد القادر و الشيخ الحداد الذي تحالف مع الشيخ المقراني وكذلك الحركة الوطنية الجزائرية، قادها نخب سياسية، متفوقة كانت قادرة بوعيها السياسي وثقافتها أن تؤطر الجزائريين وتقودهم وتخطط لبرامج الحركة الوطنية الجزائرية ، أما بعد 1947 ، برزت نخبة أحرى وهي النخبة الثورية التي آمنت أنه لا يمكن أن نستقل إلا إذا انتقلنا إلى الخيار العسكري و تفجير الثورة، فتم إنشاء المنظمة الخاصة وما تلا ذلك من اجتماعات تحضيرية، خاصة اجتماع مجموعة ال22 و مجموعة ال6 و تشكيل القيادة النخبوية الثورية بالدرجة الأولى و بعد سنة 1956 ، تساهم النخبة ، خلال الثورة التحريرية بفعالية في العمل الدبلوماسي، خاصة أن مرحلة 56 تقتضي وجود نخبة قوية قادرة على نقل صوت الجزائر إلى المحافل الدولية والدفاع عليها بكل الطرق السياسية والدبلوماسية .
النصر : تولي الدولة أهمية كبيرة لملف الذاكرة والتاريخ الوطني، كيف يمكن ترسيخ قيم الذاكرة بشكل أكـثـر وإيصال بطولات وتضحيات الأجداد إلى جيل اليوم؟
اهتمام كبير بملف الذاكرة و التاريخ الوطني
مولود قرين: السيد رئيس الجمهورية أولى عناية كبيرة جدا لموضوع الذاكرة ، لأنه يدرك تمام الإدراك لما للذاكرة من أهمية في تحقيق التماسك الاجتماعي والبناء الوطني، فقد انتعشت الكتابة التاريخية و الأفلام الوثائقية والسينما التاريخية بكل أشكالها باعتبارها من ضمن الروافد الهامة التي ترسخ قيم الذاكرة لدى جيل اليوم ، هناك مجموعة الوسائط والقنوات يمكن من خلالها أن نوصل تضحيات الأسلاف إلى جيل اليوم ، لعل في مقدمة هذه الوسائط، الدرس التاريخي ووسائل الإعلام المختلفة، سواء السمعية أو البصرية أو المقروءة وكذلك من الضروري أن ننخرط مع وسائل العصر ، خاصة الذكاء الاصطناعي، مع استحداث منصات تحاكي الذاكرة الوطنية والتاريخ الوطني وكذلك رسومات متحركة للأطفال نجسد من خلالها تاريخ الجزائر حتى تبقى راسخة في أذهان أطفالنا وتساهم في تنشئتهم تنشئة وطنية سليمة، حتى يكونون في المستقبل مواطنون متشبثون بتاريخهم وهويتهم وبجميع مقوماتهم .