في عمق تراب هذا الوطن، تظلّ الأرض تحفظ أسرارها، وتروي قصص من سقطوا دفاعا عنها بصمت وكرامة، فبعد عقود من البحث بين أساطير مغلوطة ظلّ يرويها ما بقي من تاريخ الاستعمار وقبر لا أثر له، حلّ تحقيق للنصر لغز الشّهيد البطل ابن مدينة عزّابة «حمدة تشاشي» الّذي ظلّ مفقود الأثر، بينما بقي اسمه منقوشا في ذاكرة التّاريخ وفي ذاكرة رفاق السّلاح الّذين احتضنوه تحت كنية «خميس الصّغيّر» بعيدا هناك في جبال تيارت أين كتب التّاريخ بدمه وأركع مستعمرا غاشما صنّفه واحدا من أخطر المجاهدين في المنطقة السّابعة.
تحقيق : إيمان زياري
هي تفاصيل جديدة في قصّة قديمة، يرويها اليوم القدر وتنسج خيوطها وثائق من الأرشيف الفرنسي وشهادة رفاق السلاح جمعتها المهتمة بالتاريخ والكاتبة ليلى عامر، التي تعد أول من باشر التحري في قصة «خميس الصغير»، ومكن من الوصول لها المهتم بالتاريخ شوقي سعدي، وأكدها تحقيق النصر في سجلات الحالة المدنية والسجل الوطني لوزارة المجاهدين، الذي كان فاصلا في الكشف عن هوية البطل « حمدة تشاشي» لأول مرة.
تكشف عنها النصر لأول مرة، وبصدفة تجعلها تبدو كواحدة من تلك القصص الّتي نسجها الخيال، فبعد مرور أكثر من 65 عاما عن استشهاد الشّهيد البطل «حمدة تشاشي» ابن مدينة عزّابة بولاية سكيكدة، والّذي طالما تحدّث المقرّبون عن خبر مقتله من طرف المستعمر إثر مداهمة لمسكنه، ورميه في إحدى الوديان دون وجود أثر له، فلا الجثة ظهرت ولا القبر موجود، ولم يتبقّ سوى تلك الابنة الوحيدة «جميلة تشاشي» الّتي قبلت بما روي عن والدها واقتنعت أنّ عمله في نقل الرسائل بين المجاهدين وتقديم الإعانة المادية لأجل تحرير الجزائر قد كلّفه حياته.
جائزة المجلس الأعلى للّغة العربيّة تكشف حقيقة بطل ظلّ مجهولا لأزيد من 65 عاما
جاءت الصّدفة لتعيد كتابة قصّة هذا البطل كما لم يروها أهله بمنطقة السّبت بعزّابة، هذا البطل الشّهيد «حمدة تشاشي» الّذي ولد في الثّامن فيفري سنة 1935 بغجاتة بلدية عزّابة بسكيكدة، والّذي تحمل شهادة ميلاده تاريخ 21 سبتمبر 1961 بعزابة كتاريخ استشهاده، فمن حوار النّصر مع الكاتبة «ليلى عامر» المتوّجة بجائزة المجلس الأعلى للّغة العربية لسنة 2023عن روايتها «حواف مينا» وعن مسيرتها، تحوّل الحديث عن بطولات أولئك المجاهدين والشّهداء غير المعروفين بمنطقة تيارت وبالغرب الجزائري والّذين يشكّلون جزءا مهمّا في بحوث الكاتبة وأعمالها، عندما تحدّثت عن ذلك الشّهيد البطل الّذي لا يعرفون عنه سوى كنية «خميس الصّغير».
ومن مجرد سرد لبطولات هذا الشّهيد الّذي تقول الكاتبة أنّه مات غريبا في تيارت ولم يتمّ التّوصّل إلى أهله بالرّغم من سعي عدد من رفاقه بتيارت لذلك بعد الاستقلال، انقلب الحوار، وتحوّل النّقاش عن شخص مقرّب من العائلة تنطبق عليه ذات الصّفات، تلك الصّفات الّتي تقول أنّه من مواليد بلدية عزّابة بسكيكدة، ويمتلك شعرا أشقر وعينين خضراوتين، كما أنّه ترك ابنة واحدة بعد خروجه من بيته.. ظلّ طوال كفاحه بالغرب الجزائري يتحسّر ألما وشوقا لمعانقتها مجدّدا.
انطلق البحث من جديد في حقيقة استشهاد البطل الّذي لم تكن عائلته تمتلك ولا صورة له، ولم تتمكّن ابنته الوحيدة «جميلة» من رؤية ملامح وجهه يوما من الأيام، وكان تقبل الخبر بالنّسبة لها ضربا من الخيال، ورفضت تصديق أنّ صدفة في عمل صحفي قد تكشف ما عجز الزّمن والمقرّبون عن كشفه، غير أنّ إصرار الكاتبة ليلى عامر قادها للبحث والتّعمّق أكثر، خاصّة بعد أن قال بعض المجاهدين من رفاق البطل بتيارت إنّه كان أوسم من تلك الصّورة العملاقة الّتي علّقت ببلدية السّوقر تكريما لما قدّمه للمنطقة تحت اسم «خميس الصّغير».
وثائق رسمية تكشفها النصر تنهي الجدل
شكلت وثائق رسمية من الأرشيف الفرنسي لأكثر من 300 شهيد من تيارت، ساهم في نشرها كل من الكاتبة ليلى عامر وسعدي شوقي الذي تحصل عليها من صديق سربها بشكل سري، للتعريف بشهداء الكثير منهم لا توجد له صور، وبعضهم صنف «كخونة» بينما سقطوا في ميدان الشرف.
من هنا عادت النصر لإتمام التحقيق في ملف المدعو «خميس الصغير»، الذي كانت إحدى الوثائق تحمل اسمه، بدءا بالتواصل مع مديرية المجاهدين لولاية قسنطينة، التي ساعدتنا في الاطلاع على السجل الوطني للشهداء والمجاهدين، لنتأكد من حقيقة المعلومات المسربة من الأرشيف الفرنسي، والّتي جاءت نتائجه مواتية مع ما تمنّيناه.
فذلك الاسم التّعريفي الّذي وضعه درك فرنسا على الوثيقة غير موجود كلّيا في السّجل الوطني لوزارة المجاهدين وذوي الحقوق، فـ»ديدوش محمد» كما سمّته فرنسا في وثيقتها الرّسمية، لم يكن شهيدا ولا مجاهدا بحسب ما أكّدته لنا السّجلات الرّسمية، لينتقل بنا البحث إلى آخر محطّة، كانت الفاصل النّهائي في حقيقة هذه الشّخصية، وبطريقة ما، تمكّنت النصر من التّسلل للسّجل الوطني للحالة المدنية، هذا السّجل الّذي قطع كلّ الشّكوك، وأكّد أنّ هذه الصّورة بمعلوماتها للشّهيد «حمدة تشاشي» بعد أن تأكّدنا من أنّ لا أحد يحمل اسم «ديدوش محمد» مسجّل بذلك التّاريخ أو في تلك المنطقة كما ادّعت فرنسا، وإنّما يوجد شخص واحد بهذا الاسم من منطقة تيزي وزو كما أنّه من مواليد سنوات السّبعينيات.
شهادات حية من وسط العائلة
انتقلنا بعدها للتحقيق مع أفراد عائلة الشهيد حمدة تشاشي، من أولئك الذين عايشوا فترة شبابه، فابنة عمّه المدعوّة «تشاشي حليمة» الّتي نفت أن تكون الصّورة الأولى والموضوعة في بلدية السّوقر تحت اسمه هي لابن عمّها، مؤكّدة أنّه كان وسيما أكثر ممّا يبدو عليه في هذه الصّورة، فقد عادت وبمجرّد رؤيتها للصّورة الثّانية المسرّبة من الأرشيف الفرنسي وأكّدت أنّها لابن عمّها الّذي لطالما كانت تقول للعائلة أنّ حمدة لم يقتل ويرمى في الوادي مثلما أشيع، وآمنت بأنّه تمكّن من الفرار والجهاد في أماكن أخرى من الوطن، مؤكّدة أنّها تعرفه جيّدا وكانت تعيش معه في بيت واحد، وهو نفس الكلام الّذي أكّدته قريبته الأخرى المسمّاة «رزاقي حدة» والّتي قالت هي الأخرى أنّ الصّورة لحمدة، وأنّه غادر عزّابة وهو على هذه الحال، مما قطع الشّك لدى ابنته إلى حدّ كبير، وأعاد بعث الأمل فيها مجدّدا وأحيا فيها شعورا لم تعشه مسبقا وهي تعانق صورة والدها وتتعرّف على ملامحه لأوّل مرّة، وتتعرّف على نضاله الكبير بعد أن ظنّت أنّ جهاده اقتصر في نقل الرّسائل بين المجاهدين.
المجاهد الطاهر رابحي
بطولة «خميس الصّغير» في تيارت لا تنسى
طيلة سنتين كاملتين من رحلة البحث في حقيقة وتفاصيل قصّة الشّهيد البطل «خميس الصّغير»، صنعت الصّورة الأولى الّتي تعلّق إلى اليوم ببلدية السّوقر حاملة اسمه نقطة استفهام، خاصّة بعد أن أكّد عدد من المجاهدين والمجاهدات بالمنطقة أنّه كان وسيما أكثر ممّا يبدو عليه في الصّورة، إلّا أّن الحصول على الصّورة من الأرشيف الفرنسي، شكّل نقطة فاصلة في الملف، أين زارت الكاتبة ليلى عامر ذات يوم المجاهد «الطاهر رابحي» لتكون المفاجأة.
شهادة.. غيّرت كلّ شيء
رحلة البحث الّتي عرقلتها الصّورة الأولى خاصّة بعد أن قالت ابنة عم الشّهيد «حمدة تشاشي» أنّها ليست له، رغم تطابق المعلومات الّتي قدّمها رفاقه في تيارت مع ما قاله من بقي من أهله وما تذكره ابنته «جميلة» بحسب ما أخبرتها به أمّها المجاهدة وعمّها الّذي توفّى قبل سنتين...
قامت الكاتبة بعرض الصّورة على المجاهد رابحي دون أن تخبره باسمه، ليردّ فورا وبكلّ ثقة «هذا خميس الصّغير، إنّه هو، أذكره جيدا».
شهادة غيّرت كلّ شيء، شكّلت نقطة فاصلة، بفضل مجاهد أكّد لنا أنّه هو، البطل القويّ الّذي أقلق العدوّ بجبال تيارت، وساهم بشكل كبير في تنظيم النضال العسكريّ هناك دون أن يركع لعدوّ حاول تجنيده في صفوفه، وقال لابنته «إنّه أبوك، عليك أن تكوني فخورة جدّا أنّك من صلب ذلك البطل..» قبل أن تسكته الدّموع وثغره باسم وهو ينتظر أن تحل ابنته ضيفة في مكان استشهاد والدها، وفي المكان الّذي أحدث فيه الفارق ببطولاته الّتي لا يزال كلّ المجاهدين والمجاهدات بالمنطقة يستذكرونها إلى اليوم.
المجاهد الرّاحل حنّيش بن عيسى المدعو « رابح النّار »
معركة المرازيق أوّل خيوط قصّة «خميس الصّغير» في النّضال بتيارت
قدّم المجاهد الرّاحل «حنّيش بن عيسى» المدعو «رابح النار» شهادة مهمّة قبل رحيله، وشكّل الحلقة الأولى في سلسلة الكشف عن حقيقة ذلك الشّاب الّذي كان يشبه الفرنسيين إلى حدّ كبير في ملامحه، وتقول الكاتبة ليلى عامر في كتابها « السّابعة بحدود النّار» والّذي يعدّ مذكّرات المجاهد «حنّيش بن عيسى» عضو بالمنطقة السّابعة للولاية التّاريخية الخامسة، على لسان «عمي رابح النار» :» الظّريف هنا في معركة المرازيق أوت 1958 أن أحد المجنّدين الجزائريّين مع العدوّ، لمح حامل الرّشّاش وقد أصيب بجروح بليغة، فأطلق عليه النّار، وحمل الرّشّاش ليتّجه نحو قائد الكتيبة دمّوش محمّد، أراد أن يسلّمه السّلاح وكان فرحا بنصر إخوانه، لكنّ عبد الله خاف أن يطلق علينا، فرماه بطلقات أسقطته أرضا...»
يقول المجاهد «رابح النار» أن القائد دموش أمر بعلاج محمّد وهو «خميس الصّغير» بمركز خاصّ مع تكثيف العلاج، ليلتحق بالجيش بعد امتثاله للشّفاء، ويرتقي في رتبته بعد سنوات من الجهاد ويستشهد في نواحي السّوقر رحمه الله....
حمدة تشاشي مدفون في مقبرة عين الذهب بتيارت
وعلى الرغم من أن الشهيد حمدة تشاشي قد ثبت استشهاده بتيارت، إلا أن رفاقه في الكفاح لم يتمكنوا من تحديد مكان دفنه، قبل أن تتوصل إليه الكاتبة ليلى عامر التي عثرت على اسم خميس الصغير في سجل مقابر الشهداء الخاص بمديرية المجاهدين لولاية تيارت وتأكد دفنه بمقبرة عين الذهب التي يتواجد بها مقام الشهيد الخاص بها الظاهر في الصورة.
الكاتبة والمهتمّة بالتّاريخ ليلى عامر
«خميس الصّغير» واحد من أبطال الجزائر المجهولين
قالت صاحبة الكتاب التّاريخي «السّابعة بحدود النّار» و»إلى شهيد لم يدفن»، ورواية «حواف مينا» المتوّجة بجائزة المجلس الأعلى للّغة العربية 2023، والمهتمّة بالتّاريخ ليلى عامر، أنّ التّاريخ الجزائري لا يزال يحمل الكثير من القصص المجهولة أو غير المعلنة وغير مكتملة التّفاصيل، لأولئك الأبطال الّذين صنعوا أمجاد الجزائر ونجحوا في فكّ شيفرة العدو، دون أن يذكر لهم اسم أو دون أن يقدّم الوجه الحقيقي لأبطال ظلّوا منسيين منذ الاستقلال، أو صنّفوا في خانة «العملاء» بينما صنعوا الأمجاد في صمت يحتاج للإفصاح عنه من خلال البحث وجمع شهادات المجاهدين الّذين مازالوا على قيد الحياة، وحتّى لدى العدو بين صفحات أرشيف محاط بأشواك يكسرها اليوم أبناء الجزائر الأوفياء في الغربة رغم التّضييق.
تتحدّث الكاتبة عن قصّة الشّهيد «خميس الصّغير» وهي أوّل من بدأ البحث بشكل رسمي من أجل كشف هويته الحقيقيّة، وأثمر بحثها بعد سنوات الوصول إلى الحقيقة، وعلى الرّغم من أنّه كان للصّدفة والقدر نصيب كبير في الوصول إلى أهله، إلا أنّها آمنت بذلك منذ البداية وهي الّتي طالما اعتبرته واحدا من الأبطال والمجاهدين الّذين جاؤوا إلى تيارت عن طريق التّجنيد الإجباري، الّذي كانت تعاقب به فرنسا كثيرا من الشّباب الّذين ثبت انتسابهم ومشاركتهم في تحرير الجزائر...
بقي الشّهيد فترة ثمّ اختار الجهاد إلى جانب الخاوة، وكما يعرفه ناس تيارت والرّفاق الذين مازالوا على قيد الحياة وكلّ سكّان تيارت، هو ذلك الشّهيد الّذي منح حياته لأجل أن تكون الجزائر حرّة مستقلّة.
وتضيف الكاتبة أنّ هذا الشّهيد وفي صيف سنة 1958 وتحديدا في 02 أوت، وفي معركة بمنطقة تعرف بالمرازيق، كان مجندا في جيش العدو، وتمكن من صناعة تفاصيل مثيرة في تاريخ الجزائر، وبقيادة سي دمّوش محمد قائد الكتيبة وبحضور رفيقه «سي رابح» المجاهد المرحوم حنّيش بن عيسى، الذي رأى بأمّ عينه هروب الشّهيد البطل الشّاب الأشقر «خميس الصّغير» وهو يجري هاربا من العدوّ حاملا رشّاشا بيديه ليسلّمه لقائد الكتيبة ثم يقع أرضا، لأنّه أصيب بطلقات ناريّة من أحد المجاهدين وقد ظنّ أنّه فرنسي بالنّظر لكونه أشقر وكان ضمن جنود المستعمر.
«الخاوة» ينقذون «الشاب الأشقر»
«خميس الصّغير» الّذي سقط بين «الخاوة» طالبا المساعدة وقبوله بينهم، كان قد قتل « التيرار» الفرنسي وأخذ رشّاشه وسلّمه للرّفاق قبل أن يسقط متأثّرا بالإصابة، ومن هنا بدأت حكايته مع الجهاد بعد أن عولج في أحد المراكز بمنطقة جيلالي بن عمّار وولاد بن فاطمة بالنّاحية الثّالثة بالمنطقة السّابعة...
وتضيف الكاتبة أنّه وبعد علاجه حوّل للنّاحية الثّانية بمنطقة السّوقر ومدريسة وعين كرمس وفرندة وتوسنينةّ، وهناك ترّقى في الرّتب إلى أن أصبح رئيس قسم وكان مسؤولا عن كلّ الجوانب المالية للمجاهدين في تلك النّاحية.
وبعد قصّة سنوات مع الكفاح، استشهد الشهيد البطل كما تقول الكاتبة وروايات رفاقه بتيارت، في يوم 05 أفريل 1961 استشهد «خميس الصّغير» وهو الشّهيد الّذي لم يكن أحد يعرف اسمه الحقيقي، إلّا ذلك الاسم الّذي اختاره هو «كبّوش محمّد»، والّذي تبيّن فيما بعد أنّه لا يوجد شخص بهذا الاسم خاصّة في الجهاد، ولم تتوفّر عنه بتيارت سوى معلومات خاصّة بالجهاد والمعلومات الحقيقيّة لم تكن صحيحة.
تصف ليلى عامر البحث التّاريخي بالخيوط المترابطة مع بعض، والبداية كانت مع كتابها «السّابعة بحدود النّار»، وهي القصّة الّتي كتبتها بناء على رغبة صديق الشّهيد المجاهد المتوفّى «حنّيش بن عيسى المدعو رابح» الّذي كان أوّل من أثار قصّة هذا البطل المجهول، ونشط معه بالنّاحية الثّالثة قبل أن يحوّل للنّاحية الثّانية، بذلك ترسّخت في ذهنها قصّته وبدأت الحكايات عنه بتيارت في كلّ مرة تزور فيها مجاهدا للبحث في تاريخ المنطقة، متحدثة عن زوجة أحد المجاهدين الّتي حدّثتها عنه بكنيته «الشّاوي الأشقر»، وكذلك مركز مستور لخضر ومستور ميلود وأخبروها أنّه كان يتردّد على هذا المركز كثيرا، كما أهداها أحد المجاهدين إبريق شاي كان يشرب منه الشّهداء ومنهم البطل «خميس الصّغير».
الأرشيف المسرّب ساهم في الكشف عن وجوه وحقائق العديد من الشّهداء
ومن رواية «حواف مينا» الّتي توقّفت ليلى عامر عن كتابتها لفترة، حيث توجّهت إلى كتابها التّاريخي «السّابعة بحدود النّار» الذي يحكي مذكّرات المجاهد البطل عضو المنطقة السّابعة وضابط جيش التّحرير قائد النّاحية الثّانية «حنّيش بن عيسى»، لينتقل بحثها من تدوين المذكّرات وتحويلها إلى مرجع رسميّ يثري المكتبة التّاريخية الجزائرية، إلى البحث عبر الصّفحات النّاشطة على مواقع التّواصل الاجتماعي، تمكّنت المهتمّة بالتّاريخ من نشر أولى المعلومات الّتي تحصّلت عليها حوله، ومتابعة ما ينشره شباب جزائري مهتمّ بالتّاريخ يقدّمون أوراق بحث من الأرشيف الفرنسيّ، ويعملون جاهدين على نشر المعلومات والصّور والفيديوهات الخاصّة بالمجاهدين وكلّ ما يتعلّق بالثّورة التّحريرية، ليساهم الأخ «سعدي شوقي» الّذي كان واحدا منهم، في تقديم وثائق عن الشّهداء التي تحتفظ بها فرنسا لنفسها، والّذي ساهم في تقديم وثيقة رسميّة للشّهيد «حمدة تشاشي» الّذي كانت حكايته مثيرة ومؤلمة جدّا، لتكون أوّل صورة وأوّل شمعة مضيئة في مسار البحث عن هذا الشّهيد.
تقول الكاتبة أنّ هذا الأرشيف المسرّب ساهم في الكشف عن قصص عديد الشّهداء منهم شهيد من بني سرور من المسيلة، الشهيد «دهيمي عمر» الّذي استشهد في تيارت والّذي تشبه قصّته كثيرا قصّة الشّهيد حمدة، بحيث كان في إطار التّجنيد الفرنسيّ الإجباري ثم انتقل للعمل في ثكنة عسكريّة بتيارت، ثمّ هرب والتحق بالمجاهدين، واستشهد رفقة 34 شهيدا استشهدوا بهذه المنطقة، ضربوا بالنابالم والعائلة لم تكن تعرف أنّه شهيد، بل ظلّ منذ الثّورة يُعتقد أنّه كان عميلا فرنسيّا بينما كان بطلا استشهد في 22 أفريل 1961 رحمه الله.
المهتم بالتّاريخ سعدي شوقي
مهمّة البحث في التّاريخ ليست سهلة
قال المهتمّ بالتّاريخ، سعدي شوقي، أنّ البحث في التّاريخ الجزائري يشكّل مسؤولية كبيرة على كلّ جزائري يملك نخوة الخوض فيها بلا تردّد، وأوضح أنّ انتماءه لعائلة ثورية بولاية خنشلة حمّله مسؤولية أكبر، ودفعه للبحث مع رفيقه الّذي أبى ذكر اسمهما عدا كنيته «إبراهيم الأوراسي» المقيم بفرنسا، عن صور ووثائق توثّق لما قدّمه هؤلاء الأبطال ضمن الأرشيف الفرنسي الّذي يرفض المستعمر تسليمه بالرّغم من أنّه حقّ مشروع.
قصّة السّيد شوقي مع البحث في الأرشيف، وفي النّبش في صور الماضي، تلك الصّور الّتي يتعذّر الوصول إليها، بل قد يشكّل ذلك مهمّة شبه مستحيلة في ظلّ تضييق كبير، يقول المتحدّث أنّ العمل بدأ منذ سنوات مع رفيقه إبراهيم الأوراسي بفرنسا للوصول إلى صورة عمّه البطل، والّتي لم يتحصّل عليها إلى غاية اليوم، وفي رحلة البحث تلك، فتح أمامه ملف حوالي 300 شهيد من ولاية تيارت وضواحيها.
ولأنّ الصّديق المغترب كان من الصّعب عليه نشر هذه الوثائق التي تعتبرها فرنسا سرّية للغاية ممّا قد يعرضّه للعقوبة، أعطى هذا الملفّ للسّيد سعدي شوقي، الّذي وبحكم علاقة الاهتمام بالتّاريخ التي تربطه بالكاتبة والباحثة ليلى عامر المنحدرة من ولاية تيارت، تواصل معها وسعيا جاهدين لإيصال المعلومات والصّور الّتي أعادت بعث التّاريخ في الحاضر، وساهمت في إحياء أمجاد من دفعوا حياتهم فداء للوطن، وتمكّن الكثير من عائلات الشّهداء من رؤية ذويهم لأوّل مرّة.
يقول السّيد شوقي» الكثير من الأشخاص في ولايات عدّة تمكّنوا بفضل هذا الملف من التّعرّف على ملامح والديهم لأوّل مرّة، كلّمني العديد منهم، بينهم من بلغ من العمر الثّمانين والآخر 76 سنة، حيث سعدت لأجلهم ربّما أكثر منهم بكثير..... أتمنّى من كلّ شخص يملك وثائق مهمّة أن يقوم بنشرها مثلما فعل صديقي إبراهيم الأوراسي الّذي كان له الفضل في إثراء الذّاكرة الوطنية وفي إبراز الكثير من الوثائق».
وانتقد السّيد شوقي استغلال بعض الأشخاص لمثل هذه الملفّات بحيث عرض أحد ممتلكيها من فرنسا بيع الصّورة الواحدة مقابل مبلغ 20 مليون سنتيم، وهو ما أثار حفيظة الجزائريين، داعيا للمساهمة في مساعدة الأشخاص وتسهيل مهمّة الوصول للصّور والوثائق دون احتكار صور الشّهداء الّتي تمثّل مرجعا مهمّا للتّاريخ ولأسرهم.
أغلق الملفّ، وتمكّنت «تشاشي جميلة» من معانقة صورة والدها لأوّل مرّة، وبكى المجاهدون رفاق «خميس الصّغير» أو بالأحرى «حمدة تشاشي» فرحا بمعرفة هويّته الأصلّية، وإيصال الأمانة لابنته الوحيدة الّتي غادر الدّنيا وهو يحلم برؤيتها مجدّدا، أغلق ملف هذا الشّهيد البطل الّذي كان مجهولا وتمّ التّعريف به، في انتظار أن تفتح ملفّات شهداء آخرين وغرباء آخرين، لا يزال التّاريخ ينتظر إنصافهم لكشف تفاصيل كفاحهم واسترجاع ملفّاتهم من مستعمر غاشم يسعى حتّى بعد الاستقلال لإخفاء الوثائق بعد أن فشل في البقاء في الجزائر. إ ز
المجاهد شحبي لخضر المدعو «شنينة»
«خميس الصّغير» كان بطلا تهابه فرنسا
يروي لنا المجاهد شحبي لخضر المدعو «شنينة» قصّة تعارفه مع الصّديق الغريب «خميس الصّغير» بنبرة صوت ترتجف حزنا لفقدانه رغم مرور كلّ هذه السّنوات، ولأنّه لم يتمكّن من تحقيق حلمه برؤية ابنته الوحيدة، يقول «عمّي شنينة» أنّ رفيقه كان جنديا لدى الجيش الفرنسي بتيارت ثمّ هرب والتحق بالخاوة، إلاّ أنّه ظلّ حذرا جدّا فيما يقوله مع أيّ منهم، ما عدا معه هو، فقد كان الوحيد الّذي قال له بأنّه ولد بعزابة بسكيكدة وترك خلفه طفلة رضيعة كان الشّوق لرؤيتها ومعانقتها كثيرا ما يحرمه حتّى من النّوم، وهو الّذي كان كلّ حديثه معه عنها وعن شوقه لها.
«عمي شنينة» الّذي كان يبكي في كلّ مرّة نذكر اسم الشهيد، قائلا « كان حبيبي بزّاف، كان خويا، لم يفارقني ولو ليلة واحدة»، أكّد أنّ رفيقه لم يقدم اسمه الحقيقي لأنّه لم يكن يثق فيمن حوله، إلّا أّنه ينحدر من ولاية سكيكدة وذو عينين خضراوتين وشعر أشقر، وترك خلفه طفلة صغيرة، متحدّثا عن بطولاته وقوّة شخصيته وأمجاده الّتي صنعها دفاعا عن الوطن، ولأنّ صداقة السّلاح كانت أقوى من أي صداقة عند «عمي شنينة»، فقد دفعته بعد الاستقلال للبحث سعيا لتحقيق حلم صديقه الشّهيد، فزار بلدية عزّابة حاملا معه اسم «كبوش محمد» كما قال للغالبية إنّه اسمه وكنية «خميس الصّغير»، أملا في الوصول إلى خيط قد يربطه بالابنة المفقودة الّتي رحل والدها وفي قلبه حرقة لعدم رؤيتها، إلا أنّه لم يتمكّن من الوصول لشيء ولم يجد ولا أثر لـ»كبوش محمد» أو لعائلته، هذا الاسم الّذي تأكّدنا فيما بعد بأن لا وجود له هناك.
ليعود حاملا معه ثقلا وأمانة ظلّت تؤّرق مضجعه حتّى في عمر الـ90، دون أن يفقد الأمل في أنّه سيتمكّن من الوصول إليها يوما ما ليخبرها بشهامة وشجاعة والدها الّذي قال أنّه كان يبيد المستعمر إبادة ويقتل بدل الفرنسي الواحد مجموعة فرنسيين ببسالة، ذلك الشّهيد البطل الّذي كان في تيارت مثالا للقوّة ولا يزال رمزا لا ينسى إلى اليوم.