خرجت الجزائر في الخامس جويلية من سنة 1962 من ليل استعماري سحيق، دولة فتية، تحمل الكثير من الجراح وملايين الشهداء ومئات الآلاف من اليتامى والثكالى وحرائق في كل مكان، ولكن أيضا رصيدا معنويا وثوريا كبيرا ووجهة محددة وخطا لا يحيد.
في الخامس جويلية 1962 عندما نالت الجزائر استقلالها كان العالم منقسما على نفسه ، كتلة غربية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها وكتلة شرقية بقيادة الاتحاد السوفياتي سابقا، ولم يكونا على وفاق وود بل كانت بينهما حربا باردة مسعورة في كل مكان وحروبا ساخنة لا تعد ولا تحصى.
في هذا الخضم ولدت جزائر جديدة كان عنوانها الأبرز الوقوف مع الحق وضد الباطل حيثما كان، ودعم حق الشعوب المستعمرة في التحرر وتقرير مصيرها، ومساندة الشعوب المستضعفة والوقوف في وجه الهيمنة و أكل حقوق الضعفاء.
وقد شكلت هذه المبادئ التي ولدت تحت «النار والدم» خلال سبع سنوات من الثورة التحريرية المباركة، إطارا واضحا لسياسة الجزائر الخارجية بعد جويلية 1962، في سياق دولي و إقليمي أقل ما يقال عنه أنه لم يكن أبدا متسقا مع مثل هذا التوجه الذي كان محفوفا بالمخاطر من جوانب عدة.
وإذا كان البعض يقول بأن السياق العالمي الذي جاء بعد الحرب العالمية الثانية بما فيه ميلاد منظمة الأمم المتحدة ونشر ميثاقها المعروف، كان عاملا مساعدا لحركات التحرر في العالم الثالث لأن الوضع الذي أفرزته نتائج الحرب العالمية الثانية كان يقتضي الانتهاء من الاستعمار التقليدي و إضعاف القوى الاستعمارية التقليدية وتعويضها بقوى جديدة، إلا أن سياق الحرب الباردة لم يكن أيضا عاملا مساعدا للدول الجديدة خاصة منها التي نالت استقلالها في سنوات الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي.
فالقوتان الجديدتان اللتان أفرزهما وضع ما بعد الحرب العالمية الثانية، أي الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفياتي، كانتا تعملان على استقطاب الدول إلى جانبهما انطلاقا من قاعدة من ليس معي فهو ضدي، وقد تدخلت هاتان القوتان في العديد من البلدان وخاضتا حروبا كبيرة من أجل الفوز بمساحات جديدة،أو حرمان الطرف الآخر منها.
لكن الجزائر التي تعرف جيدا معنى الاستقطاب ومعنى التخندق والتي ذاقت ويلات الاستعمار لأكثر من قرن فضلت سياسة أخرى هي « عدم الانحياز» و هو خيار لم يكن من السهل حتى الإفصاح عنه في ذلك الوقت، وكانت الجزائر من الدول الرائدة والمؤسسة لمنظمة عدم الانحياز التي قالت للدول الكبرى نحن هنا ولنا طريق آخر وحريتنا فوق كل اعتبار. وعلى هذا الدرب سارت الجزائر في ستينيات وسبعينيات وثمانيات القرن العشرين، دولة غير منحازة و ليست عدوا لأحد، تتعامل من منطلق مصلحة شعبها وتدافع عن المبادئ التي ولدت في رحمها، العدالة والتحرر ومساعدة الشعوب المستعمرة على تقرير مصيرها.
وعلى هذا النحو ساهمت الجزائر التي كانت تدعى في العقود الثلاثة التي تلت الاستقلال بـ»مكة الثوار» في دعم الكثير من الشعوب في إفريقيا وآسيا و أمريكا اللاتينية، ورسمت لنفسها خطا لم تحد عنه إلى اليوم انطلاقا من مبادئ سياستها الخارجية، وقد تعرضت في ذلك إلى مؤامرات ومكائد وضغوط كبيرة وحتى إلى محاولات لضرب استقرارها واستقلالها، إلا أنها وقفت في وجه كل تلك المحاولات حفاظا على خطها المستقل.
ولم يكن الوضع بالسهل عليها بداية تسعينات القرن العشرين بعد سقوط الاتحاد السوفياتي والكتلة الشرقية، وبعد دخولها في دوامة العنف والدم والإرهاب على المستوى الداخلي، بل واصلت على نفس النهج رغم كل ما سبق ذكره في عالم أضحى أحادي القطبية، وأصبحت فيه كل دول العالم تقريبا تركع عند أقدام قادة القطب المتبقي.
ولم يتغير الوضع كثيرا في مطلع الألفية الجديدة حيث تأزمت الأوضاع الدولية من جميع النواحي السياسية والاقتصادية والمالية، وازدادت الضغوط وتدخلات القوى الكبرى في شؤون الدول النامية والضعيفة، وشنت حروبا عدوانية على بعض منها أنهت في بعض الأحيان وجود تلك الدول وأدخلتها في دوامة العنف والاقتتال الداخلي وجعلت منها دولا فاشلة بعدما كانت دولا ناجحة قائمة بذاتها في وقت سابق. ولم يكن من السهل التعامل مع هذا الوضع بنفس المبادئ سالفة الذكر، حيث الانحناء أمام العاصفة صار موضة العصر، إلا أن الجزائر ورغم كل ذلك استطاعت الحفاظ على خطها ولم تحد عن نهجها رغم كل شيء، فمن كان يستطيع احتضان المجلس الوطني الفلسطيني وإعلان قيام دولة فلسطين إلا الجزائر، ولو كان هذا فقط ما قامت به لكفاها فخرا واعتزازا لأنها الدولة الأكثر تمسكا بالحقوق الشرعية للشعب الفلسطيني منذ انطلاق الثورة الفلسطينية إلى اليوم.
ومن يتمسك بحقوق الشعب الصحراوي منذ خمسين سنة ويدافع عن حقه في تقرير مصيره و إنهاء احتلال أراضيه مثل الجزائر، ومن وقف إلى جانب شعب جنوب إفريقيا ودرب زعيمها الخالد نيلسون مانديلا على أراضيه ودعمه بالسلاح والمال سوى الجزائر حتى تمكن من القضاء على نظام الميز العنصري إلى الأبد.
و لم يكن دعم هذه النماذج من القضايا العادلة في العالم أمرا بسيطا فقد تطلب ذلك من الجزائر خوض معارك سياسية ودبلوماسية و أمنية كبيرة، وتعريض أمنها وحياة مواطنيها للخطر، وكذا تعريض مصالحها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية للخطر أيضا،في عالم لم يكن يعترف بالحق ولا يقف بجانبه بل كان قائما على القوة وعلى الباطل في كثير من الأحيان. لقد رسمت جزائر الاستقلال منذ الوهلة الأولى لاسترجاع سيادتها الوطنية نهجها الخاص في التعامل مع العالم، نهج قائم على احترام حقوق الإنسان واحترام حقوق الشعوب في الحرية والاستقلال وتقرير المصير، واحترام حقوقها في التحكم في مواردها الاقتصادية، ونبذ التدخلات العسكرية الأجنبية، ورفض التدخل في الشؤون الداخلية للدول، والتدخل في شؤونها الداخلية، ورفض الهيمنة والاستغلال والحروب وقتل الإنسان و الدوس على حريته. ومنذ بداية العدوان الصهيوني الهمجي على الشعب الفلسطيني قبل أكثر من عام ونصف سجلت الجزائر موقفا تاريخيا بوقوفها بقوة إلى جانب الشعب الفلسطيني، فقد أدانت بصوت عال جدا و بأشد العبارات الجرائم البشعة التي يقترفها الكيان في غزة والأراضي الفلسطينية في كل المحافل الدولية التي أتيحت لها، وقامت بمجهود دبلوماسي كبير في الأمم المتحدة ومجلس الأمن من أجل وقف هذه المجزرة المفتوحة، وهي أول من دعا إلى محاكمة قادة الكيان على جرائمهم، وهي التي أكدت من على منبر الأمم المتحدة بأن فلسطين ستنال العضوية الكاملة في الأمم المتحدة، وهي الدولة العربية الوحيدة التي تقف بشكل علني ضد الكيان ومع قيام دولة فلسطينية، في وقت عبث فيه الكيان وحلفاؤه بأمن العديد من الدول العربية ودول المنطقة، وهي الدولة التي رفضت الهرولة نحو التطبيع مع الكيان الصهيوني ولا تزال مصرة على ذلك.
وهي الدولة التي طالبت في وقت سابق بنظام اقتصادي عالمي جديد وبإصلاح الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي و إعطاء القارة الإفريقية حقها فيه.
فالجزائر التي نالت استقلالها في الخامس جويلية 1962 بضريبة دم غالية لا يمكنها أن تخون دماء شهدائها وأبطال حريتها، ولا أن تحيد عن النهج الذي رسمه الآباء المؤسسون، ولا يمكنها أن تفرط في رصيدها الثوري والمبدئي، ولا أن تخون الشعوب المسالمة في العالم، ولا يمكنها أن تكون إلا عامل استقرار مشع للسلم في العالم.وإنه لمن الصعب أن تكون صوت الحق لمدة 63 سنة في عالم يسوده قانون الغاب ويحكمه الباطل.
إلياس -ب