الثلاثاء 15 جويلية 2025 الموافق لـ 19 محرم 1447
Accueil Top Pub

الباحث محمد ياسين بلقندوز في حوار مع النصر: “حتى الأعمال التي تظهر نوايا مناهضة للخطاب الاستشراقي تعيد إنتاجه”

يؤكد الباحث محمد ياسين بلقندوز في هذا الحوار مع النصر حول أطروحة الدكتوراه التي قدمها خلال الأيام الماضية بجامعة الجزائر 2 بأن الخطاب الاستشراقي لم ينقطع، وإنما يعاد إنتاجه بوسائل جديدة، حتى في الأعمال التي تظهر نوايا مناهضة له، حيث يفكك من خلال تحليل اقتباس فيلم “القيامة الآن” لرواية “قلب الظلمات” تمثيل الآخر في عملية الانتقال من الأدب إلى السينما، كما يكيف أدوات علم الترجمة من أجل سبر آليات انتقال الرموز وإعادة تشكيلها وإنتاجها ضمن الترجمة الثقافية وبين السيميائية من النص إلى فضاء الصورة والصوت، موضحا مفاهيم السلطة الخطابية والهوية التي تطغى على العملية.

حاوره: سامي حبّاطي

ويحدثنا الباحث أيضا عن المطبات المعرفية والتحديات التي واجهته أثناء توظيف بعض المفاهيم في عملية التحليل، فضلا عن اقتفائه آثار عبارات عنصرية تبرر للإبادة والعنف الغربي غير المحدود وتطفو على السطح منذ القرون الوسطى إلى سياق العدوان على غزة اليوم من خلال تكررها دلاليا على لسان شخصيات من رواية كونراد والفيلم، ثم شخصيات سياسية وثقافية غربية من عالم اليوم.
النصر: كيف تبلورت لديك فكرة النظر إلى الاقتباس السينمائي كفعل ترجمي؟
- الدكتور ياسين بلقندوز: انبثقت الفكرة من قناعتي بأن كل اقتباس سينمائي هو في جوهره عملية انتقال من وسيط دلالي إلى آخر، أي من الأدب إلى السينما، بما يتضمنه ذلك من إعادة صياغة وتكييف ثقافي وسيميائي. وجدت أن مقاربة الاقتباس بوصفه ترجمة توسّع أفق الدراسات الترجمية، وتمنحها امتدادًا بصريًا وثقافيًا أكثر شمولاً.
مقاربة الاقتباس بوصفه ترجمة تمنح
الدراسات الترجمية امتدادا أكثر شمولا
النصر: هل الترجمة هنا مفهوم يتجاوز اللغة؟
- الدكتور ياسين بلقندوز: أتبنّى مفهوم الترجمة السيميائية كما طرحه رومان جاكوبسون، حيث لا تقتصر الترجمة على اللغة، بل تشمل انتقال الرسائل والمعاني بين أنظمة دلالية متعددة، منها الصورة، الحركة، الصوت. فالسينما لا “تتكلم” الرواية، بل تترجمها إلى شيفرة سمعية–بصرية جديدة، مع الحفاظ على خصوصية الوسيط السينمائي.
العلوم الغربية ليست محايدة
وتنطوي على قدر كبير من الأيديولوجيا
النصر: لماذا اخترت “القيامة الآن” Apocalypse Now و”قلب الظلمات”Heart of Darkness كنموذج تطبيقي؟
- الدكتور ياسين بلقندوز: اخترت هذين العملين لأن العلاقة بينهما تمثّل حالة معقّدة من التفاعل الثقافي والتاريخي. فالفيلم لا يقتبس الرواية حرفيًا، بل يعيد كتابتها ضمن سياق حرب فيتنام، وينقل خطابها الاستعماري إلى منظار نقدي حداثي. هذا التوتر بين الأصل والترجمة هو ما دفعني لاختيارهما كنموذج حيّ لمقاربة الترجمة السينمائية من منظور ما بعد كولونيالي.
الوسائط المتعددة اليوم تستدعي
تحليلا ترجميا يتجاوز اللغة
النصر: ما أبرز التحديات التي واجهتك؟
- الدكتور ياسين بلقندوز: أحد أبرز التحديات تمثّل في نقل نظرية الأنساق المتعددة، التي تقوم بتحليل موقع الترجمة داخل النسق الأدبي، إلى فضاء السينما، حيث لا نتعامل مع ترجمة لغوية فقط، بل مع ترجمة سيميائية وثقافية معقّدة. اخترت هذه النظرية لأنها تتيح فهم الترجمة كظاهرة ثقافية ديناميكية تتجاوز النقل اللغوي، نحو إعادة التسييق داخل نسق جديد. ومن هذا المنظور، يصبح الاقتباس السينمائي جزءًا من نظام الترجمة، لا باعتباره مجرّد تحويل أدبي إلى بصري، بل كفعل يعيد إنتاج المعنى وفق معايير نسق السينما. وكان التحدي في مواءمة مفاهيم النظرية مع خصوصيات الخطاب السينمائي، لإبراز كيف يتفاعل نسق الترجمة مع نسق الصورة ضمن عملية ثقافية مركّبة.
“القيامة الآن” ينقل الخطاب الاستعماري
لـ”قلب الظلمات” إلى منظار نقدي حداثي
النصر: كيف وظّفت النقد ما بعد الكولونيالي في التحليل؟
- الدكتور ياسين بلقندوز: اعتمدت النقد ما بعد الكولونيالي لتفكيك تمثيل «الآخر» في الرواية والفيلم، من خلال تتبّع آليات التهميش، والتشييء، والصمت. فالآخر الإفريقي في الرواية، والفيتنامي في الفيلم، يظهر غالبًا كظل أو كتهديد غير منطوق. وقد قاربت هذا التمثيل من زاوية الترجمة النقدية، باعتبار الاقتباس السينمائي يُعيد صياغة موقع «الآخر» داخل نسق ثقافي وسيميائي جديد، دون أن يتحرر بالضرورة من منطق الهيمنة الرمزية.
النصر: ما حدود هذه المقاربة؟
- الدكتور ياسين بلقندوز: قوّة المقاربة تكمن في تجاوزها للقراءة الموضوعاتية أو الشكلانية، ونفاذها إلى البنى الثقافية والإيديولوجية العميقة في الرواية والفيلم، من خلال عدسة ما بعد كولونيالية. أما حدّها الأبرز، فيتمثل في حاجتها إلى دقّة مفاهيمية كبيرة، لأن إسقاط المفاهيم النقدية على وسيط بصري قد يُنتج تأويلات لا تنسجم دومًا مع منطق التعبير السينمائي، ما يفرض توازنًا منهجيًا حذرًا بين التحليل الثقافي والقراءة الفيلمية.
الترجمة في الاقتباس السينمائي
ليست محايدة، بل محملة بالسلطة
النصر: ما أهم النتائج التي توصّلت إليها؟
- الدكتور ياسين بلقندوز: توصّلت إلى أن العلاقة بين الأدب والسينما ليست علاقة محاكاة أو تبعية، بل علاقة ترجمة ثقافية بالمعنى الواسع، تُعاد فيها كتابة النص داخل نسق بصري وسيميائي جديد. فالاقتباس لا ينقل الرواية لغويًا، بل يترجمها ثقافيًا وجماليًا، مع ما يرافق ذلك من تحوّلات في المعنى. كما بيّنت الأطروحة أن الترجمة لا تقتصر على اللغة، بل تشمل تحويلات رمزية وثقافية قد تُعيد إنتاج الخطاب الاستعماري بأشكال معاصرة.
الاقتباس السينمائي يعيد إنتاج الآخر دون
أن يتحرر بالضرورة من منطق الهيمنة الرمزية
النصر: هل ترى أن الفيلم قاوم السلطة السردية للرواية؟
- الدكتور ياسين بلقندوز: الخطاب الاستشراقي لم ينقطع، بل يُعاد إنتاجه بوسائل جديدة، حتى في الأعمال التي تُظهر نوايا مناهِضة له. ففيلم «القيامة الآن»، رغم محاولته تفكيك البنية الكولونيالية لرواية «قلب الظلام»، يترجمها من داخل نسق أمريكي لا يخلو من مركزية ثقافية. وقد برز توتر واضح بين نية الفيلم في مقاومة الخطاب الاستعماري، وبنية إخراجية أعادت تمثيل «الآخر» بصريًا ضمن نفس المنطق التشييئي، وإن في قالب حداثي وجمالي.
المقاربة التي اعتمدتها
تستلزم توازنا منهجيا حذرا
النصر: كيف ساعدك التحليل الترجمي على كشف الأبعاد الثقافية والإيديولوجية؟
- الدكتور ياسين بلقندوز: التحليل الترجمي أتاح لي تتبّع التحوّلات الدقيقة في السرد والبنية الرمزية والبصرية، ورصد كيف تُعدَّل أو تُضخَّم أو تُهمَّش بعض المعاني بحسب الرؤية الجديدة. الترجمة هنا ليست محايدة، بل محمّلة بالسلطة، وتخضع في آن واحد لمنطق الصورة ولمنطق الإيديولوجيا.
النصر: هل لاقت هذه المقاربة تقبّلًا في الوسط الأكاديمي الجزائري؟
- الدكتور ياسين بلقندوز: التفاعل كان مشجعًا، خصوصًا من الأساتذة المنفتحين على الدراسات البينية، رغم بعض التحفّظات من التيار التقليدي الذي لا يزال ينظر إلى الترجمة في إطارها اللغوي البحت. لكن الأفق يتّسع، والحوار يتطوّر نحو مزيد من الانفتاح على مقاربات جديدة.
النصر: وهل يمكن تطبيق هذه المقاربة على وسائط أخرى، مثل محتوى التواصل الرقمي؟
- الدكتور ياسين بلقندوز: بكل تأكيد. نحن اليوم أمام أشكال جديدة من الترجمة المتعددة الوسائط: في الفيديوهات، والميمات MEMEs، والتصميمات البصرية، والتدوينات التفاعلية. وهذه كلها تنتج معاني جديدة وتخضع لمنطق ثقافي بصري يستوجب تحليلا ترجميا يتجاوز اللغة إلى التفاعلية والرمز والصورة.
وجدت أن العلاقة بين الأدب
والسينما علاقة ترجمة ثقافية
النصر: نجد في أطروحتك إشارة إلى تطابق عبارة «أبيدوا كل المتوحشين» «Exterminate all the brutes» على لسان شخصية كورتز Kurtz من رواية «قلب الظلمات»، وعبارة «أسقطوا القنبلة. أبيدوهم جميعا» على لسان العقيد وولتر كورتز في فيلم «القيامة الآن»، مع مضامين عبارات تستدعي خطاب العقاب الجماعي والعنف بلا قيود، وتتكرر اليوم على لسان نيكي هايلي Nikki Haley المرشحة السابقة للرئاسيات الأمريكية التي وقعت على قنابل صهيونية موجهة لإبادة الفلسطينيين عبارة «أجهزوا عليهم» Finish them وعبارة عالم النفس الكندي جوردان بيترسون الذي كتب عبارة «افتحوا عليهم أبواب الجحيم. يكفي يكفي» Give‘em hell, Enough is enough”” على حسابه في 7 أكتوبر 2023. ما تعليقك على هذا الأمر؟
- الدكتور ياسين بلقندوز: يمثل تطابق هذه العبارات تكرارا للخطاب الأمبريالي العنصري نفسه الذي يحقّر بالشرقي والعربي، أو العالم الثالث بشكل عام، فمضمون هذه الخطابات أن “هؤلاء لا يستحقون الحياة ويجب أن نقتلهم جميعا”. وينبع هذا المضمون من خطاب استعماري واستشراقي ممتد على زمن طويل، فهو ليس وليد اللحظة، وإنما تبلور على مدى قرون في الآداب والموسيقى والفنون التشكيلية والسينما، ثم انتقل بطبيعة الحال إلى السياسة والثقافة بشتى أشكالها، وحتى الفضاءات الأكاديمية، فالعلوم الإنسانية والتقنية الغربية ليست موضوعية ومحايدة تماما، وإنما تنطوي على جانب كبير من الأيديولوجيا. لقد بحثت عن أصل عبارة “أبيدوا كل المتوحشين”، فوجدت أنها عبارة لاتينية دينية مسيحية من زمن الحروب الصليبية، ثم ظلت متناقلة دون تغير محتواها ودلالتها مع مرور الزمن.
س.ح

آخر الأخبار

Articles Side Pub
Articles Bottom Pub
جريدة النصر الإلكترونية

تأسست جريدة "النصر" في 27 نوفمبر 1908م ، وأممت في 18 سبتمبر 1963م. 
عربت جزئيا في 5 يوليو 1971م (صفحتان)، ثم تعربت كليًا في 1 يناير 1972م. كانت النصر تمتلك مطبعة منذ 1928م حتى 1990م. أصبحت جريدة يومية توزع وتطبع في جميع أنحاء الوطن، من الشرق إلى الغرب ومن الشمال إلى الجنوب.

عن النصر  اتصل بنا 

 

اتصل بنا

المنطقة الصناعية "بالما" 24 فيفري 1956
قسنطينة - الجزائر
قسم التحرير
قسم الإشهار
(+213) (0) 31 60 70 78 (+213) (0) 31 60 70 82
(+213) (0) 31 60 70 77 (+213) (0) 6 60 37 60 00
annasr.journal@gmail.com pub@annasronline.com