تقدم أطروحة دكتوراه نوقشت خلال الأيام الماضية بجامعة الجزائر 2 قراءة جديدة للاقتباس السينمائي للنصوص الأدبية باعتباره شكلًا من أشكال الترجمة الثقافية والسيميائية، حيث حلّل الباحث محمد ياسين بلقندوز فيلم «القيامة الآن» المقتبس من رواية «قلب الظلمات» بأدوات علم الترجمة ونظرية ما بعد الكولونيالية، ليكشف كيف تتحول الشاشة إلى فضاء يعيد كتابة النص الأدبي ويفكك سلطته ويعيد إنتاجه في سياقات سياسية وجمالية جديدة، مؤسسًا بذلك لمقاربة نقدية نادرة في المتن الأكاديمي الجزائري والعربي، إذ تربط الترجمة بالدراسات السينمائية وتفتح بابًا لدراسة الاقتباس كفعل مقاومة ثقافية يتجاوز حدود النقل السردي إلى إعادة كتابة المعاني والهويات.
قراءة: سامي حبّاطي
وتقف مجموعة من الأسئلة الجوهرية في صميم أطروحة الدكتوراه الموسومة بـ“تجليات نظرية ما بعد الكولونيالية في الترجمة السينمائية للآداب الروائية: مقاربة نقدية موازنة من خلال فيلم (القيامة الآن) Apocalypse Now المقتبس من رواية «قلب الظلمات” Heart of Darkness» التي أعدها الباحث محمد ياسين بلقندوز في معهد الترجمة بجامعة الجزائر 2 بإشراف البروفيسور محمد الصالح بكوش، حيث تعد واحدة من أهم الدراسات البحثية الحديثة في الجزائر والعالم العربي في مجال علم الترجمة والسينما والاقتباس السينمائي للأدب والدراسات الثقافية من منظور ما بعد الكولونيالية.
وتتمحور التساؤلات التي تثيرها الأطروحة التي نوقشت بتاريخ 3 جويلية الجاري حول أسئلة: هل يمكن اعتبار الاقتباس السينمائي ترجمة؟ وهل يملك الفيلم حين يقتبس رواية كلاسيكية القدرة على إعادة كتابة النص وإعادة تأويله؟ وهل تظل السلطة في يد النص الأصلي أم تصبح الشاشة فضاءً للمقاومة والتفكيك وإنتاج المعنى؟
الاقتباس السينمائي فعل ترجمي متعدد الأبعاد والمستويات
تركز الأطروحة على فيلم «القيامة الآن» Apocalypse Now للمخرج الأمريكي الشهير فرانسيس فورد كوبولا Francis Ford Coppola، المقتبس من رواية «قلب الظلمات» Heart of Darkness لجوزيف كونراد، لتدرسه من زاوية غير مطروقة في المتن الأكاديمي الجزائري والعربي في علم الترجمة، حيث تحلل الاقتباس السينمائي باعتباره ترجمة ثقافية وسيميائية وأيديولوجية تتجاوز النقل السردي، ليصبح فعلًا تأويليًا يعيد كتابة النص في سياقات سياسية وثقافية وجمالية جديدة، كما تستخدم في تحقيق ذلك أدوات علم الترجمة.
وتنطلق الدراسة من افتراض أن الانتقال من الأدب إلى السينما ليس محاكاة شكلية أو امتدادا للنص الأصلي، بل هو فعل تَرجمي مقاوم يشتبك مع قضايا السلطة والهوية والهيمنة الرمزية في سياق ما بعد الكولونيالية. وتدمج هذه الأطروحة أدوات متعددة تشمل دراسات الترجمة الحديثة متمثلة في نظرية الأنساق المتعددة، والترجمة بين السيميائيات، والترجمة التأويلية، إلى جانب الدراسات الثقافية ونقد السلطة والهوية، ونظرية ما بعد الكولونيالية في تحليل التمثيلات الاستعمارية، والدراسات السينمائية بوصف السينما لغة بصرية قادرة على مقاومة النص الأصلي وإعادة إنتاجه.
وتعيد الدراسة من خلال هذا الدمج طرح الاقتباس السينمائي في حقل دراسات الترجمة، كفعل ثقافي حواري يعيد تشكيل الرموز والهويات والتمثيلات في النصوص المقتبسة، وليس كمجرد عملية تقنية. وقد جاءت الأطروحة في أكثر من 700 صفحة، حيث بنيت على الإطار النظري الذي يعيد تعريف الترجمة بما يتجاوز حدودها التقليدية نحو أبعادها السيميائية والثقافية والتأويلية، ويربطها بالدراسات الثقافية ونظرية ما بعد الكولونيالية، كما قدمت الاقتباس السينمائي من منظور دراسات الترجمة من خلال دراسة علاقة الأدب بالسينما خارج ثنائية “الأصل والتابع”، وذلك عبر تحليل تقنيات التحويل من الكلمة إلى الصورة، والبنى السردية والبصرية، مع تطبيق نماذج مثل فيلم “بابل” Babel في الإطار النظري، حيث استعمله الباحث كنموذج عن سيكولوجيا الألوان في السينما، إلى جانب نماذج أخرى حول توظيف الموسيقى وغيرها.
وتوضح الأطروحة أيضا العلاقة بين التراتبية الثقافية والاقتباس السينمائي من منظور ما بعد كولونيالي من خلال تحليل تمثيل «الآخر» والصراعات الهوياتية في النصوص المقتبسة، فضلا عن دور السينما كأداة لمقاومة السرديات الاستعمارية، فيما تنطوي أيضا على تحليل تطبيقي مقارن بين الرواية والفيلم من خلال دراسة المستوى البنيوي القائم على تحليل السرد والشخصيات والبنى الجمالية، والمستوى الدلالي المتمثل في التيمات والخطاب الاستعماري والهوية بين رواية «قلب الظلمات» وفيلم «القيامة الآن»، وذلك لإبراز الكيفية التي أعاد من خلال الفيلم إنتاج النص كترجمة ثقافية بصرية.
وتنبثق الدراسة وأهميتها من مجموعة من الدوافع تتمثل في حاجة الساحة الأكاديمية الجزائرية والعربية لدراسات تجمع بين الترجمة والدراسات السينمائية والنقد ما بعد الكولونيالي، الحاجة إلى فهم علاقة الأدب بالسينما كعلاقة حوارية إنتاجية وليست تبعية، بالإضافة إلى أهمية دراسة كيفية تحول السينما إلى أداة لمقاومة تمثيلات الاستعمار وإعادة بناء الهويات الثقافية، كما أنها تسعى أيضا إلى إعادة تأطير الاقتباس السينمائي داخل حقل دراسات الترجمة كنموذج نقدي وإبداعي يعكس تفاعل الحقول المعرفية ويفتح آفاقا جديدة للبحث في الترجمة السيميائية والثقافية.
وتعتبر هذه الأطروحة رائدة إذ لا تكتفي بتحليل الفيلم نقديا، وإنما توظف نظريات الترجمة فعليا كأداة تفكيك وتحليل للاقتباس السينمائي، بما يفتح بابا جديدا للبحث، بالإضافة إلى أن اعتبار الاقتباس السينمائي ترجمةً متعددة المستويات وبأدوات دراسات الترجمة يمثل إضافة نوعية في البحث الأكاديمي، حيث يوضع الاقتباس تحت المشرط لفحص مفاهيم السلطة والهوية والمقاومة والهيمنة الرمزية وإعادة كتابة التاريخ ضمن سياق ما بعد الكولونيالية.
النصوص المقتبسة تنتقل إلى الشاشة وفقا لشروط النظام الثقافي المستقبِل
وتتأصل أطروحة الباحث محمد ياسين بلقندوز حول الاقتباس السينمائي بوصفه ترجمة ثقافية في إطار نظري متين يستند على أهم المراجع العالمية التي مهدت لهذا الطرح، حيث استعان بمفهوم «الترجمة ما بين السيميائيات» Intersemiotic Translation الذي وضعه عالم اللسانيات الروسي رومان جاكوبسون، وشق به الطريق لفهم الانتقال من الكلمة إلى الصورة باعتباره ترجمة بين وسائط تعبيرية متعددة، وليس مجرد عملية نقل لغوي، كما وظف الباحث نظرية الأنساق المتعددة Polysystem Theory التي تسمح بفهم الترجمة ضمن ديناميكيات الثقافة والسلطة والتلقي، مؤكدا على أن النصوص المقتبسة لا تنتقل إلى الشاشة بشكل محايد، وإنما وفقا لشروط النظام الثقافي الذي تستقر فيه.
واعتمد الباحث أيضا على دراسات البلجيكي باتريك كاتريس Patrik Cattrysse الذي يعتبر الاقتباس السينمائي أحد أشكال الترجمة ضمن إطار نظرية الأنساق المتعددة، بالإضافة إلى عالم الترجمة الأمريكي البارز، لورانس فينوتي Lawrence Venuti، الذي يناقش الترجمة كإعادة صياغة للسياق الثقافي ويفتح الباب لفهم الاقتباس السينمائي بوصفه «إعادة كتابة» للنص الأصل ضمن شروط ثقافية وسياسية جديدة، كما استلهم الباحث تفكيكية الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا Jacques Derrida لفهم تحطيم صنم الأصل وإعادة إنتاج المعنى من خلال الترجمة، إذ تعد نظرية دريدا «الأرضية الأساسية التي يقوم عليها النقد الثقافي وروافده برمتها»، مثلما يقول الباحث في الأطروحة، فيما يسقط إعادة إنتاج المعنى من خلال الترجمة على الاقتباس السينمائي الذي لا يكتفي بتقديم النص الأصلي في صورة بصرية، وإنما يزعزع سلطته ويفككه ويعيد تأويله.
ويثبت الباحث من خلال هذا الإطار النظري طرحه بأن الاقتباس السينمائي ليس امتداد للنص الأدبي، وإنما “ترجمة” متعددة الأبعاد، أي ثقافية وسيميائية وتأويلية، بحيث أنها تعيد كتابة النص وتعيد إنتاجه في سياقات جديدة، لتتحول الشاشة إلى فضاء حواري يعيد صياغة الرموز والهويات داخل العمل المقتبس، كما يستدل في هذا الطرح بسحب مفهوم الأقلمة في الترجمة مثلما قدمه عالم الترجمةأندريه ألفونس لوفيفر André Alphons Lefevere على الاقتباس. وتقدم هذه الدراسة نموذجًا ملهمًا لفهم الترجمة كفعل ثقافي يتجاوز اللغة، ويعيد كتابة المعاني والهويات في سياقات جديدة، حيث تأتي في زمن تتزايد فيه أهمية الصورة والشاشة كوسائط للمعرفة والهيمنة والمقاومة، كما أنها دعوة للباحثين لاستكشاف مساحات جديدة في حقل دراسات الترجمة والدراسات الثقافية.
وتجدر الإشارة إلى أن البروفيسور نبيلة بوشريف ترأست لجنة مناقشة الأطروحة، التي ضمت البروفيسور محمد الصالح بكوش مشرفا ومقررا، إلى جانب الأعضاء المناقشين البروفيسور علجة مجاجي والبروفيسور سهيلة أسابع من جامعة الجزائر 2، والبروفيسور سيد أحمد طاسيست من جامعة المدية والبروفيسور فيصل صاحبي من جامعة وهران 1. وتوجت المناقشة بحصول الباحث على تقدير «مشرف جدا» وتهنئة اللجنة إلى جانب توصية بالنشر.
س.ح