كلّ تجاربي الكتابية موضوعاتها عن الهامــش
يَرى المُتوّج بجائزة محمّد ديب للرواية في دورتها التاسعة فئة الرواية باللّغة العربية، الروائي والقاص عبد القادر برغوث أنّ الجوائز ليست مقياسًا وحيدًا لجودة العمل وأهميته ولكنّها على الأقل تُوفر فضاءً للنقاش والتنافس والاِحتفاء بالنصوص السردية. لكنها أيضًا في المقابل -حسب رأيه- فرصة لتقربه من القارئ والمهتمين بالرواية وتُسلط بعض الضوء على كتاباته.
حوار: نوّارة لحـرش
صاحب رواية «جبال الحناء»، يعتقد من جهة أخرى أنّ الكاتب غير مطالب بإعادة كتابة التاريخ أو تبينه أو تحيينه بِمَا يتناسب مع الراهن أو مع ما يحدث، وإنّما عليه أن يبني عالمًا مُوازيًا قد يتقاطع مع الماضي والحاضر.
كما يتحدث في هذا الحوار، عن الشخصيات التي يكتب عنها في أعماله، وهي شخصيات أحيانًا يختارها، وأحيانًا أخرى تفرض نفسها عليه، ثم تُطاردنه حتى يُكمل حكايتها. لكنه نادرًا ما يكتب عن شخصيات حقيقيّة في الحياة، فهي كلها -كما يؤكد- مُتخيلة ولكنها تُشبه الكثير مِمَن يعرف.
للإشارة، الرواية المُتوجة بجائزة محمّد ديب في دورتها التاسعة، «سيرة موتى لم يبكهم أحد» صدرت عن منشورات «فهرنهايت451»، وتتناول سردًا أدبيًّا مُستلهمًا من واقع اِجتماعي وتاريخي عايشته الجزائر في فترة ما بين الحربين العالميتين. وهي تحكي قصة عائلة جزائرية خلال مرحلة زمنية حافلة بالتقلبات، وسلّطت الضوء على ما يُعرف محليًّا بـ»عام الشَرْ»، حين اِجتمعت على النّاس المجاعة والمرض والتجنيد الإجباري، في بيئة بدوية تعكس ثقافة الجنوب الجزائري، وخاصةً منطقة أولاد نايل.
للتذكير، عبد القادر برغوث، قاص وروائي جزائري، إلى جانب روايته «سيرة موتى لم يبكهم أحد»، صدرت له أيضا عن منشورات «ميم» العام 2010 رواية بعنوان «جبال الحناء» وكانت قد فازت بجائزة «علي معاشي للمبدعين الشباب» لعام 2009. للكاتب مجموعات قصصية من بينها مجموعة بعنوان «ديدان آخر الليل»، وأيضا بعض النصوص المسرحية.
الجوائز توفر فضاءً للنقاش والتنافس والاِحتفاء بالنصوص السردية
روايتك «سيرة موتى لم يبكهم أحد»، تُتوّج بجائزة محمّد ديب الأدبية في فئة الرواية باللّغة العربية. دورة 2025، كيفَ اِستقبلت هذا التتويج؟ وكيف تنظر إلى الجوائز الأدبية؟ وما الّذي تُضيفه هذه الأخيرة إلى مسار الكاتب؟
- عبد القادر برغوث: سعدتُ جدًا بهذا التتويج، خاصةً أنّه كان في أجواء اِحتفالية بهيجة، بمعية أساتذة كِبار ومبدعين ونُقاد وفنانين، كلّ ذلك في مدينة جمعت بين الماضي التليد والحاضر «تلمسان»، بطبيعة الحال الجوائز ليست مقياسًا وحيدًا لجودة العمل وأهميته ولكنّها على الأقل تُوفر فضاءً للنقاش والتنافس والاِحتفاء بالنصوص السردية. أمّا بالنسبة لي فهي فرصة لتقربني من القارئ والمهتمين بالرواية وتسلط بعض الضوء على كتاباتي، كذلك تعود القارئ العربي والجزائري خاصةً أنّ يثق في اِختيار المسابقات في ظل اِنعدام بوصلة له تُميز النصوص أمامه.
الجائزة تحمل اِسم الكبير محمّد ديب. ماذا يعني لك هذا الكاتب، وأي أثر لأدب ديب في ذائقتك القرائية؟
- صحيح، الجائزة تحمل اِسم محمّد ديب، وهو بالنسبة لي قامة كبيرة جدًا كُلنا تأثرنا بروايته الخالدة «الدار الكبيرة»، والتي اِعتبرها (رواية رمز) لكلّ الجزائريين، وهي أعظم نص جزائري من الناحية الفنية، وأظن أنّه لم يوجد كاتب يُباريه من هذه الناحية، وأنا شخصيًا تعلمتُ الكثير من نصوصه، وتجربته.
أبطالي كلهم مغمورون و في روايتي الأخيرة تعمدتُ أن أكتب سرديّتهم ضدّ السرديات المركزية
الرواية «سيرة موتى لم يبكهم أحد» عن الهامش وعن أعوام الجفاف والقحط. أو «عام الشرّ» حسبَ الموروث الشعبي. ما الّذي لفتك إلى هذا الجانب، وكيف نبشتَ في ذاكرة أعوام بعيدة، وما الحافز الأدبي أو الفني الّذي جعلك تتناول هذه الأحداث وتستثمر فيها؟
- الحقيقة أنّ كلّ تجاربي الكتابية موضوعاتها عن الهامش، وأبطالي كلهم مغمورون، وخاصةً في النص الأخير، فلقد تعمدتُ أن أكتب سرديّتهم ضدّ السرديات المركزية، فهم من البدو الرُحل وليسوا من أهل المُدن وجزائريون، تحت قمع المُستعمر الفرنسي وفي فترة مركزية بالنسبة للغرب وهي الحرب العالمية الثانية، وهي فترة ضبابية وتكاد تكون مجهولة بالنسبة لنا، أمّا سبب اِختياري لذلك فهي لقناعتي أنّ هذه السردية هي التي تُحدّد شخصيتها وهويتها ضدّ الهويات والثقفات المُهيمنة.
اِشتغلت على تيمة مُهملة أو غير مطروقة كما يجب في المدونة السرديّة الجزائريّة. إذ مُعظم التيمات تتمحوّر حول الثورة والعشرية السوداء. في حين أنت اِخترت حياة «البدو الرحل» وعام القحط كتيمة أسياسيّة في عملك الروائي.
- كلنا تعودنا على الكتابة عن الحروب الكُبرى والأحداث الهامة، ولكن أيضًا تاريخ التوبة والمجاعات وتاريخ التصوّف والحب والخوف كلها تواريخ هامة لابدّ أن نتكلم عنها لأنّ تأثيرها وإن كان غير ملحوظ إلاّ أنه هام جدًا. وهي تواريخ لا يقل تأثيراتها عن غيرها من التواريخ والأحداث. أمّا أهم سبب لاِختياري الكتابة عن تلك الفترة، فهو سبب شخصي، وذلك لأنّني أنحدر من عائلة بدوية وتلقيتُ منذ نعومة أظافري أخبار هؤلاء المنسيين، الهامشيين الذين لم يكتب عنهم أي أحد، فَهُم بشرٌ ومن وطننا، وكانت لهم حياة وأحلام وآمال كلها ضاعت من دون أن نحس أو نشعر بها.
ليس مُهمًا أن نكتب عن التاريخ
أو التُراث بقدر ما هو مهم أن نكتب نصوصًا تُشبهنا وتُعبر عن ثقافتنا
بالمناسبة ما الّذي يدفع الجيل الجديد للاِشتغال على التاريخ وتوظيفه، واِستحضاره، واِستثماره في الرواية؟
- ليس مُهمًا أن نكتب عن التاريخ أو التُراث بقدر ما هو مهم أن نكتب نصوصًا تُشبهنا تُعبر عن ثقافتنا وشخصيتنا، أن تكون هناك بصمتنا الخاصة، وليس ضروريًا أيضًا أن نكتب عن أمجاد أو عن عُظماء بقدر ما هو مهم أن نكتب نصًا مقبولاً إن لم نقل جيدًا.
وإن كُنتُ في آخر العقد الرابع إلاّ أنّني أعتبر نفسي كاتبًا من الجيل الأخير الّذي يُحاول أن يشتغل على تجربته الخاصة، وأحاول أن أستفيد من أخطائي وأخطاء الآخرين لكي أُنْتِجَ نصًا يُشبهني.
الكاتب غير مطالب بإعادة كتابة التاريخ أو تبينه
أو تحيينه بِمَا يتناسب
مع الراهن
إلى أي حد يمكن للكاتب أن يُوَفَّق في تحيين الأحداث أو في إسقاطها على الراهن؟
- الكاتب غير مطالب بإعادة كتابة التاريخ أو تبينه أو تحيينه بِمَا يتناسب مع الراهن أو مع ما يحدث، وإنّما عليه أن يبني عالمًا مُوازيًا قد يتقاطع مع الماضي والحاضر ولكنه لا يشبه أي نص أو أحد وإنّما هي وجهة نظر الكاتب ولكن أن تكون نظرة فنية وجمالية وثقافية، فالنص الأدبي لابدّ أن يكون نصًا ماتعًا وجميلاً بالمفهوم الواسع للجمال.
نادرًا ما أكتب عن شخصيات حقيقيّة في الحياة، كلها مُتخيلة ولكنها تُشبه الكثير ممن أعرف
هل بناء شخصيات مُتخيلة، في عمل روائي، أسهل من توظيف شخصيات حقيقية، خاصةً أنّ توظيف شخصيات حقيقية، في أعمال روائية، كثيراً ما يُقابَل ببعض الجدل؟
- الشخصيات التي أكتب عنها، أحيانًا أختارها، وأحيانًا أخرى تفرض نفسها عليَّ، ثم تُطاردني حتى أُكمل حكايتها. ولهذا أنا أحب بعضها أو أكثرها، وأحياناً أشعر أنّه عليَّ أن أتخلص من وجودها، لكن نادرًا ما أكتب عن شخصيات حقيقيّة في الحياة، كلها مُتخيلة ولكنها تُشبه الكثير مِمَن أعرف.
أيضًا عندما أكتب عن شخصية تصبح جزء من حياتي، ثم وبينما تنمو هذه الشخصية مع تقدم النص أحبها وأحب تصرفاتها وأبغض بعض التصرفات الأخرى، ولهذا فأنا في مدٍ وجزر معها حتى أُتمِّم النّص، وأشعر أنّها تُحاكيني وتُحدثني لأنهي قصتها، إنّها شخصيات تبحثُ عن نهاية لقصتها.
قلتَ مرة: «ما ننتظره من الرواية هو تقديم وجهنا الحضاري وتُدوينه للآخر -الآخر الجغرافي والتاريخي»، برأيك هل تنجح الروايات في هذا دائمًا؟
- موضوع النجاح والفشل في الرواية موضوع نسبي ولا يهمني، ما يهمني حقًا هو المُتلقي الحقيقي الّذي يملك من القدرة أن يقتني الرواية ويقرأها من الجلدة إلى الجلدة، هذا هو الّذي أحترمه وأخشاه، أمّا الأضواء والكاميرات فهي نسبية، أمّا ما اَعتقدهُ في الرواية، فهي جسر يصلنا بالآخر ويُظْهِر وجهنا الحضاري، فمازلت اَعتقدهُ على أن تكون الرواية نصنا الّذي يُشبهنا ويُعبر عنا وعن خصوصيتنا التي تُميزنا عن غيرنا.
الرواية أصبحت بحق ديوان العرب
والعالم وهي أعظم ما أنجزه البشر منذ مطلع التّاريخ
وهل حقًا تُراهن على الرواية كمشروع حضاري حياتي كما قُلتَ في مناسبة سابقة؟
- لو كان بيدي لأمرت جميع الوزارات والمؤسسات والجمعيات أن تستثمر في الرواية وأن ترفعها عاليًا لأنّ الرواية أصبحت بحق ديوان العرب بل العالم، إنّها جنس يُشبهنا نحن البشر يتناسل يحب ويكره مثلنا ويحمل ملامحنا وألوان بشرتنا ومشاعرنا، إنّها بحق أعظم ما أنجزه البشر منذ مطلع التّاريخ.
لكَ شغفٌ أيضًا بالمسرح والكتابة المسرحية. فهل من جديد في هذا المجال؟
- أمّا المسرح، فلا أعلم متى أتفرغ له، لي أفكار عديدة ونصوص مسرحية سابقة كثيرة غير مُكتملة ولكن، لا يهم بأي جنس أكتب. المُهم أن أستطيع أن أقول ما أريد، ولكن الكتابة وخاصةً الروائية عملٌ مرهق جدًا بالنسبة لي. إنّه أشبه بالحبل والولادة، ولهذا ليس أمرًا سهلاً دائمًا لَمَا أكتب.
الروائي لا يكفي أن يكون قارئًا للكُتب فهناك روافد عديدة تُغذي الذاكرة
أنتَ قليل الحضور. لماذا هذا الغياب عن المشهد الأدبي في الجزائر، ولماذا لا نراك في ملتقيات ونشاطات أدبية أو في فعاليات صالون الجزائر الدولي للكتاب -مثلاً-؟
- سبب عدم حضوري لكثير من الفعاليات، أنّني لا أتلقى الكثير من الدعوات، ولكن هناك أيضًا سببٌ آخر، هو أني أُعاني من الخجل المرضي وكثيرًا ما أتلعثم في الكثير من النقاشات فأشعر بحرج شديد لا أتعافى منه إلاّ بعد مدة طويلة، كما أنّني أستمتع بالاِستماع للآخرين أكثر وأستفيد من القراءة أكثر من الكتابة. نعم أهتم بالقراءة أكثر من الكتابة، ولكن الروائي لا يكفي أن يكون قارئًا للكُتب، فهناك روافد عديدة تُغذي الذاكرة كالفنون والمسرح، الفلسفة والكُتب التراثية والحديثة، وتجارب الحياة.
ماذا بعد «سيرة موتى لم يبكهم أحد»؟
- عندي الآن مجموعة قصصيّة (مخطوط) اِنتهيتُ منها منذ وقتٍ قريب، وأشتغل أيضا على مجموعة أخرى، وعندي نص روائي جديد لم أفرغ منه بعد ولا أعلم متى.