برزتْ في السّنوات الأخيرة، ظاهرة المؤثِّرين واِنتشارهم الكبير واللافت في وسائل الميديا، حيْثُ كثُرت منصّات ومواقع ووسائط التِّكنولوجيا الّتي ساهمت في بروز واِنتشار فئة كبيرة من المؤثرين، وقد صنع هؤلاء قاعدة عريضة من جمهور المشاهدين والمُتابعين، ومن فئات وأعمار ومستويات مختلفة.
يبقى السؤال المحوري هنا: ما مدى تأثيرهم السِّلبي على المجتمع، وكيف؟، ومن جهةٍ أخرى، هل يمكن القول أو الجزم بأنّ لهم بعض التَّأثير الإيجابي على المجتمع أيضا؟ وهل تحتاج الظاهرة إلى آليّاتٍ لتقنين مُمارسة نشاط صناعة المحتوى، أو هل من الضَّروريّ وضع منظومة قانونيّة لتهذيب المحتوى الرّقميّ باِعتباره مُرتبطا بالحقِّ العام؟
أعدت الملف: نوّارة لحرش
وهل حقًّا أنّ فئة كبيرة من المُؤثِّرين تقترن بهم ظواهر الفشل الأسريّ والدِّراسيّ، خاصَّةً وأنّ هناك من يُشيرُ إلى هذا الأمر، مثل الدّكتور عبد الرّزّاق بلعقروز، الّذي يُؤكِّدُ أنّ فئة كبيرة -فعلاً- من المُؤثِّرين تقترنُ بهم ظواهر الفشل الأسريّ والدّراسيّ. لكن في المقابل، فالمجتمع أو بالأحرى العقل الجمعي يتفاعل مع مصالحه أكثر مِمَّا يتفاعل مع ما يُسيء لهذه المصالح أو لهذا العقل. حَوْلَ هذا الشَّأن «ظاهرة المُؤثِّرين ومدى تأثيرهم في/وعلى المجتمع»، كان ملف عدد اليوم من «كراس الثّقافة» مع مجموعة من الدّكاترة والباحثين الأكاديميِّين المُخْتَصِّينَ في العلوم السِّيَاسِيِّة والفلسفة وعلوم الإعلام والاِتِّصال، والَّذين تناولوا المسألة كلٌ من زَاوِيَتِهِ وحسب وجهات نظر مختلفة ومتباينة، لكنّها تلتقي وتتقاطعُ في الكثير من النِّقاط.
* أستاذ التعليم العالي وكاتب في الفلسفة عبد القادر بوعرفة
بيــن قِيّـم الحضــارة وسرديــات التَّفاهــــة
من جهته أستاذ التعليم العالي وكاتب في فلسفة الحضارة والتاريخ، الدكتور عبد القادر بوعرفة من جامعة وهران2، يقول: «اِشتهر كلّ عصر من تاريخ البشرية بسمة مَيَّزَتْهُ عن غيره من العصور، حيثُ كان أوّل شرارة مع اِكتشاف النار، ثَمَ تلاها اِكتشاف البكرة، ثم البُخار، ثم الطاقة، واليوم نشهدُ عصر التكنولوجيا الرقمية، الّذي أَثَرَ تأثيرًا كبيرًا على شبكة العلاقات الاِجتماعية عبر آليات التواصل الجديد، حيثُ أَصبَحَ المؤثرون في الوسائط الاِجتماعية ظاهرة اِجتماعية مُعقدة وخطرة للغاية، وتحمل في طياتها نتائجًا مُتعدّدة الأبعاد».
ثمَ أردفَ: «ظهر مصطلح المُؤثر مع الثورة الرقمية، ويُقصد به كلّ صاحب محتوى لديه إمكانية التأثير في أكبر شريحة مُمكنة، عبر التأثير في الآراء والسلوكات بفعل الأداء الإعلامي، والصناعة المُحتوياتية.وحين ندرس المضمون لأغلب المحتويات الوسائطية، نجد أنّ المُؤثر يُمكن أن نقسمه إلى (مؤثر إيجابي ومؤثر سلبي)».
والمُؤثر الإيجابي، -كما يُوضح-: «هو الّذي يحمل مشروعًا حضاريًا، أو مدنيَا، أو دَعويًا، أو فنيًا،.. ويعمل على صناعة محتوى إعلامي يُفيد الإنسان والمجتمع، ويدفع النّاس نحو الفضيلة، والتضامن، والحب، والعيش المُشترك».
كما يسعى -حسب رأي المُتحدّث- عبر الصورة والصوت إلى ترغيب النّاس في المُثل والقيّم، أو يسعى إلى الدفاع عن مكتسبات الأمة، ولحمة المجتمع، وهؤلاء غالبًا يمتلكون ثقافةً عاليةً، وينتمون إلى جماعات مُحافظة، أو على الأقل يعملون ضمن منظور إنساني.
مُضيفًا في ذات السّياق: «ومن صور الإيجابية نشر الوعي بالقضايا الاِجتماعية، والبيئية، والصحية، كما نراه في حملات التشجير من قِبل مُؤثّرَيْن اِثنين جزائريين، اِستطاعا أن يدفعَا النّاس إلى حب الشجرة، والاِعتناء بها، ثم الإيمان بمشروع (الجزائر الخضراء)».
وأردفَ قائلاً: «يستخدم بعض المؤثرين المنصات للدفاع عن التنمية المُستدامة، ومحاربة الفساد، وبلورة صور العدالة الاِجتماعية. وكذا التعريف بالأخطار التي تُحيطُ بالجزائر على مستوى الأمن الغذائي، والفكري، والعقدي. وهناك من يقدم الوعي الصحي، والوعي الرياضي عبر تقديم نصائح تخص اللياقة البدنية، والتغذية. كما يحرص على تبيان طُرق التمويل الشخصي، والاِستثمار المُفيد، وصور تطوير المسار المهني. ويُقدم طُرق التّعلم، والتثقيف، وكلّ أشكال مُمارسة الثقافة المُفيدة».
أمّا المُؤثر السلبي، -كما يوضح أيضا-: فـ»هو من لا يحمل أي مشروع حضاري، بل ينساق وراء التفاهة، ويُروج لها عبر كُلّ الطُرق والسُبل، ويعتقد أنّ التفاهة هي التي تصنع الشهرة. يكونُ المحتوى عنده لا يرتبط بأي قيم أو مُثُل، بل مبني على أساس شهوة الأنا في الظهور، ولو كان على حساب الغير، والقيم، وحتّى الوطن. والمُراهنة على جدلية الممنوع المرغوب، والمرغوب غير القابل للتحقّق».هنا -يعتقد المُتحدّث- تكمن قدرة المُؤثر على التلاعب بالعواطف، ثم بالأفكار، لاسيما الفئات الشابة المُنساقة نحو بهرج الحياة وزينتها. فالمُتابع المُنبهر يميلُ للتقليد والمُحاكاة دون وعي، ولا حذر، ولا اِستعداد ذهني لتحليل ما يُشاهده، بل تجده ينغمس اِنغماسًا كليًا في المحتوى، وفي الكثير من الحالات يفقد روحه، أو يخسر أعز ما يملك من أجل تجربة محتوى كما حدث في لعبة الحوت الأزرق.
كما أوضح الدكتور بوعرفة، أنّ التأثير السلبي يظهر عندما يسعى المُؤثر وراء الشهرة، والربح دون مُراعاة الأخلاق والعادات، ويُصبح صيد المُتابع (الضحية) هو الغاية بغض النظر عن الوسيلة، هُنا يُمارس الإنسان هوايته الأولى صيد الإنسان للإنسان، لكن عبر صناعة محتوى جذاب، ومغري، تميلُ إليه النفس الأمارة بالسوء، أو النفس الشهوانية بالتعبير الأفلاطوني.
مُضيفًا: «إنّ من صور التأثير السلبي ما نراه في الترويج لمُنتجات ضارة وغير نافعة، ترتبطُ أساسًا بالأمراض المُزمنة، أو التجميل، فيستثمرون في معاناة المرضى وذوي الحاجة، لتحقيق مكاسب مالية. في المُقابل تُنتج جيلًا مُتمردًا على أهله، ومجتمعه، ناقمًا على كلّ شيء، قد تكون نهاية بعضهم أكثر إيلامًا وبؤسًا».
واختتم قائلاً: «لقد أصبح المؤثرون على وسائل التواصل الاِجتماعي قوة مهمة في تشكيل الآراء، والاِتجاهات، إما بشكلٍ مفيد وبناء، وإما بشكل مُدمر وهدام، وعلى الدولة التدخل العاجل لردع التفاهة التي أصبحت هي الأكثر اِنتشارًا».
* الأكاديمي المُختصّ في علوم الإعلام والاِتصال الدكتور نصر الدين مهداوي
نشاط صناعة المحتوى يحتاج لتقنين مُمارسته
يقول الأكاديمي المُختصّ في علوم الإعلام والاِتصال، الدكتور نصر الدين مهداوي، من جهته: «شهدنا في السنوات الأخيرة بروز مؤثرين عبر الوسائط الاِجتماعية يقومون بأدوار مُتعدّدة، بعد أن كان المُؤثر مجرّد مُستخدم مُتلقي للمعلومات إلى مُستخدم نشط يتفاعل ويُشارك وصانع للمحتوى (ماذا يفعل الجمهور بالجمهور!؟) وقد عرفت ظاهرة المؤثرين هذه اِنتشاراً واسعًا بعد ظهور منصات جديدة أتاحت للمُستخدم حرية القيام بمهام عِدة».
مُشيراً في هذا السّياق، إلى تطبيق التيك توك الّذي يُشكل العديد من الخدمات والمُميزات نظير الخوارزميات والتقنيات التي يُتيحها للمُستخدم مِمَّا جعلت منه مُؤثراً يُعالج الكثير من الأفكار ويسهم في صناعة محتويات يسعى من خلالها إلى تأطير الجماهير وتعبئتهم للتأثير فيهم، كإجراء بث مُباشر ولعب الجولات وصناعة محتويات في مجالات عِدة قصد إنعاش اِقتصاديات حسابه عن طريق خاصية: التكبيس والمُشاركة لجمع أكبر عدد مُمكن من المُتابعين التي تُترجم في ما بعد إلى أموال تُضَخُ في حساب المُستخدم.
ثم أردف: «توجه هؤلاء المُؤثرين إلى صناعة ما يُعرف بالمحتوى التافه والرديء الّذي لا يعكس تطلعات ومستوى المُجتمعات من أجل التأثير فيهم وقبول فكرة كلّ ما هو تافه ورديء يسهم في هدم القيم وزعزعة الوازع الديني والأخلاق».
مُضيفاً: «ففي بادئ الأمر كان الجمهور المُلتقي يرفض فكرة كلّ ما هو رديء ليعيش حالة من الصدمة والاِنبهار من ما يستهلكه من أفكار رديئة مقيتة خاصة فكرة لعب الجولات وتنفيذ الأحكام ليصل المُؤثر إلى حالة من الهوس والجنون من أجل اِستقطاب شرائح عديدة من المُتابعين في معادلة رياضية مفادها رفع عدد المشاهدات والمُتابعة والاِشتراك في حسابه»..فوجدَ بعض المُؤثرين -حسب قوله- من هذه المنصات فرصة لكسب المال ومنهم من أصبح ثريًا، ومنهم من جعل منها مهنة وفكرة استثمار ليبقى مُتغير التفاهة والرداءة معياراً قويًا لكسب المال.فمع مرور الوقت -يُضيف المُتحدّث-: «أصبحت التفاهة هي مقصد المُتلقين ومن أولويات اِهتماماتهم لإشباع حاجاتهم النفسية والعاطفية بعد أن كان يرفضها سابقاً، فجعل المؤثرين من المتابعين حمقى وطُعْمًا لإنعاش اِقتصادياتهم هذا من جهة، ومن جهة أخرى لا مناص من المُتلقي إلاّ المتابعة والتكبيس لإشباع رغباته. ومن شدة التأثير أصبحت الرداءة من تفضيلاته».وواصل مستدركاً: «تعمّمت الظاهرة في المجتمع وانتقلت إلى الأُسر والمحيط الاِجتماعي وفي كلّ نسق ضمن البيئة الاِجتماعية، فتغيرت تركيبة المجتمعات وذهنياتهم وأصبح الرقص والتحدث مع الكاميرا والقيام بالتصرفات الغريبة أمر عادي وطبيعي أمام عامة النّاس وفي المرافق العمومية».ثم يضيف مُستطردًا: «وما زاد الطين بلة أمام الأولياء الذين يُشجعون أبنائهم على هذه السلوكات بدلاً من السعي على التنشئة الاِجتماعية وتشجيع الأبناء والمراهقين الإقبال على ميمات التربية (المسجد-المدرسة)، للأسف تغيرت سلوكات الشباب والمراهقين سواء في تصرفات الحديث والهندام حتّى أنّه بات لها تأثير سلبي على التربية المجتمعية وخاصةً التحصيل الدراسي، مِمَا قد يُؤثر على مردود التلميذ أو الطالب في دراسته، فمن الناحية النفسية وما توصلت له الإحصائيات أنّ هذه الظاهرة أفقدت التلميذ الرغبة في طلب العِلم مِمّا تراجع في مستواه العلمي وكذا مستوى الذكاء والتركيز بلا اِستثناء». الدكتور مهداوي، يؤكد قائلاً: «المُؤثر الحقيقي يجب أن يتمكن من صناعة محتوى قيم وهادف، وبإمكان أي شخص أن يكون مُؤثراً يهدف إلى نشر الوعي والقيم والتحسيس في مجالات مختلفة، فهناك من المؤثرين من يُنتجون أفكارًا قيمة في مختلف المجالات الاِجتماعية والدينية والصحية والثقافية والعلمية الغرض منها نشر المعرفة وتوعية الفرد بسلوك مُعين ليغرس فيه أُسس مقومات المجتمع النامي والراقي». مُشيراً هنا، إلى أنّ تيك توك -مثلاً- يمكن أن يكون مقصداً للاِستثمار والتسويق والتوعية والتربية والتعليم ونشر القيم الدينية إذا تمَ اِستغلاله اِستغلالاً ناجعًا. وفي ذات المعطى، أردف قائلاً: «فهذه الفجوة بين الصناعة الهادفة والرديئة راجع إلى ثقافة اِستخدام التكنولوجيات وكذا مُؤشر التربية الإعلامية الّذي نعتبره أحد مرتكزات محاربة الظاهرة، نحن أهل الاِختصاص ندعو دومًا إلى إطلاق مادة التربية الإعلامية كمادة أساسية في الأطوار التعليمية من أجل تربية وتوعية التلميذ أو المُتمدرس بثقافة اِستخدام هذه المنصات، لاسيما إرساء معارف وسلوكات قيمة تهدف إلى تدريب وتعليم المتمدرس بأخلاقيات اِستخدام المنصات الاِجتماعية ومعايير صناعة المحتوى الهادف».و-حسب رأيه دائماً-: فإنّ «هذه الظاهرة تفرض إرادة حقة لتطهير الفضاءات الرقمية من هذا التلوث المُثبط في جداراتنا لِمَا تحمله من تحديات ومخاطر قد تُهدّد نسيجنا الاِجتماعي. كما تحتاج أيضا إلى آليات لتقنين مُمارسة نشاط صناعة المحتوى، من قِبل المؤثرين على مستوى الشبكات الاِجتماعية، لاسيما سن نصوص تشريعية تضبط هذه المُمارسة تحت غطاء قانوني وأخلاقي لحماية الفرد والمجتمع من هذه السلوكيات الدخيلة، وكذا تحديد مهام المُؤثر الهادف الّذي يُعد (عصب هام) في المجتمع مثله مثل الإمام والمُعلم والمُربي يقوم بأدوار فاعلة في تنوير وتثقيف وتوعية وتربية المُجتمع». وخلص إلى القول: إنّ مؤثر اليوم إطار الغد.. وسلاحٌ ذو حدين يجب أن يكون نموذجا وقدوة نفسه وقدوة المجتمع يُقدم جهوداً فاعلة ويرسي قيمة مضافة تسهم في رقي مجتمعه ونموه...
* أستاذة العلوم السياسية سمية أوشن
الظَّاهرة أصبحت بمثابة نظام مُعقَّد والبيئة الرَّقميَّة تحتاجُ إلى مُراقبة ومُعاينة
أستاذة العلوم السّياسية بجامعة قسنطينة3، الدكتورة سمية أوشن، تقول بهذا الخصوص: «فرضت ظاهرة المؤثرين في وسائل التواصل الاِجتماعي نفسها على الحياة اليومية في مُختلف المجالات وفي مُختلف أنحاء العالم، وأصبحنا نلمس تداعياتها على الأفراد والمجتمع وعلى الحياة السّياسية والثّقافية والاِقتصادية حتى أضحت بمثابة صناعة عالمية رائجة. ويرجع هذا الاِرتفاع حسب تفسير الكثير من الباحثين إلى فقد الملايين من الأشخاص وظائفهم في أعقاب الأزمة المالية العالمية عام 2008، الأمر الّذي دفعهم إلى اِستخدام منصات التواصل الاِجتماعي للتعبير عن خبرتهم المهنية واهتماماتهم الشخصية على أمل جذب أصحاب العمل». وتضيف في ذات الشأن: «إنّ التفكير في تحديث مفهوم قادة الرأي العام في وسائل التواصل الاجتماعي أصبح مُتزايدًا في ظل التطورات المُتسارعة، فقد كان يُنظر إليهم على أنّهم حلقة الوصل بين وسائل الإعلام التقليدية وبين الجمهور، وعليه يمكن القول إنّنا نشهد اليوم عمل اِنتقال سلطة الإعلان من وسائل الإعلام التقليدية إلى مواقع التواصل الاِجتماعي، وعليه أضحت الضرورة مُلحة لتوفير حماية جنائية للمُستهلك الاِلكتروني أو كما يُسميه البعض بالضحية الاِفتراضية».لذلك فإنّ ظاهرة المُؤثرين وانتشارهم الكبير في وسائل الميديا -حسب الدكتورة أوشن- أصبحت بمثابة نظام مُعقد، وعليه فإنّ البيئة الرقمية اليوم تحتاج إلى مُراقبة ومُعاينة من طرف هيئات في الدولة، حيثُ أنّ العديد من الشركات أصبحت تعتمد عليهم في تسويق المُنتجات والسلع، نظراً لطبيعة محتواهم الّذي يتميز بقوّة الإقناع والتأثير في المُتلقي.ثم أردفت: «لقد وصلت عملية الوجود أو ما يمكن تسميته بـــ»الحضور الاِقتحامي» للمُؤثرين في وسائل التواصل الاِجتماعي وفي عملية الدخول اليسير إلى التأثير في المجتمع ككلّ، وفي صناع القرار والنُخب السياسية والتفاعل معهم، وهو ما يؤدي بالضرورة إلى الخضوع نوعاً ما من قِبل النُخب إلى منطقهم والاِستماع إلى رأي الجمهور الّذي يُمثلونه في تلك المنصات عند الشروع في اِتخاذ القرارات بشأن موضوع ما يهم الجميع».المُتحدثة، تعتقد من جهةٍ أخرى أنّ الّذي يُميز وسائل التواصل الاِجتماعي اليوم هو تنامي دور الفرد المُستخدم لوسائل الاِتصال الاِلكترونية وفاعلية الوسائط الاِلكترونية الجديدة في اِنتشار هذا النوع الجديد من الإعلام، كما أنّ عدم إمكانية بعض وسائل الإعلام التقليدية من التفاعل مع المواطن هو ما يترك المجال مفتوحاً للفاعلين في وسائل التواصل الاِجتماعي لسد الفراغ والوصول إلى هذه الجماهير من المجتمع تحت أسماء وشعارات وحملات وبرامج تسهم في تعلق الأفراد بهم وكذا إتباعهم والتأثير عليهم.ولذلك -تُؤكد في الأخير- أنّه لا بدّ من القول إنّ ظاهرة جديدة يتلقاها العالم أجمع عبر الشبكة العنكبوتية أسست لعالم جديد من المُؤثرين في وسائل التواصل الاِجتماعي شكلت مخيلة لعالم غير واقعي ولجمهور حقيقي مُضطر للاِنسياق والتفاعل مع التغيرات الحاصلة برغبة منه أو من دونها.
* الأستاذ والباحث الأكاديمي محمّد لخضر حرزالله
من الضروريّ وضع منظومة قانونيَّة فعّالة لتهذيب المحتوى
يُؤكد الباحث وأستاذ العلوم السياسية الدكتور محمّد لخضر حرزالله، أن: « مصطلح التأثير يُشير إلى القدرة على إحداث تغييرات فكرية أو سلوكية في الآخر، عَبْرَ سلسلة من العلميات العقلية والنفسية المُخطّطة بشكلٍ مُسبق، والتي تؤدي إمّا إلى: تعزيز القيم الإيجابية وتنمية الحس الرفيع وإشاعة المُمارسات الطيبة داخل المُجتمع، أو محاربة ومحاصرة المظاهر السلبية. وإمّا إلى الإغراق في مادة الترف والسفه، عبر تكريس مظاهر وسلوكات دخيلة، من شأنها الإضرار بالسلوك العام، والعدوان على القيم المجتمعية، وتحجير الفكر في قفص التفاهة القاتلة».
مُضيفاً: «ويعتبر جيل اليوم جيلاً رقميًا باِمتياز في لغته ومُمارساته وسلوكاته، فهو شغوفٌ بكافة المُستجدات الطارئة في عالم التكنولوجيا والذكاء الاِصطناعي، مُتابعٌ لكلّ تفاصيلها وإبداعاتها بشكلٍ يومي، وقد أثر ذلك على نمطه الفكري والاِجتماعي والثقافي، فأصبح مُستهلكًا نَهِمًا لكلّ ما تطفحُ به الانترنت من أفكار وسلوكات، وما ينضحُ به المؤثرون من مشاهد وحكايات، وكثير منهم لا يقف عند حدود المُتابعة، بل يستلهم من هذه المواد الإعلامية أو الشخصيات التأثيرية قيمه ومبادئه وطقوسه التي يرى أنّها نموذجه الأمثل، فيقع في شِراك الاِغتراب والاِستلاب الثقافي».
و-يرى المُتحدّث- أنّ وسائل التواصل الاِجتماعي أو ما يُسمى بالإعلام الجديد تُشكلُ بيئة مُغذية للتحوّلات الثّقافية والفكرية، فبحكم طبيعتها المُتسمة بالاِنكشافية والتعقيد والتشابك والذكاء التقني، يمكنها أن تُشكل ميداناً للتأثير العابر للحدود.
وفي ذات السياق، واصل قائلاً: «كما أنّ تطور التطبيقات وعِلم البرمجيات ساعد على صناعة المواد المُزيفة المُؤثرة في سلوك وعقول الجمهور المُتلقي، وهنا نُشيرُ مثلاً إلى تقنية: (الذباب الإلكتروني) التي تُعبر عن: مجموعة من الحسابات الآلية المُبرمجة على نشر منشورات أو تغريدات مُعيّنة وذلك بهدف التأثير في الرأي العام أو جلب الاِنتباه والنظر إلى فكرةٍ ما مُقابل تهميش أخرى قد تكون ذات أهمية، ويتم ذلك عن طريق روبوت مُبرمج».
وهذا ما يُفسر -حسب الدكتور حرزالله- ظهور موجات هائلة من الأراجيف والإشاعات التي تغذيها مواقع التواصل الاِجتماعي، من خلال ضخّ العديد من المصطلحات والمفاهيم والروايات والشعارات الكثيفة، عبر أسراب من الحسابات الوهمية المُختصة في التشهير والقذف ونشر الدعاية.ثم اِستدرك موضحاً: «وما حصل في مؤسساتنا التربوية كنتيجة لاِستجابة واسعة من التلاميذ لدعوات مجهولة المصدر يُمثلُ أحد صور هيمنة التكنولوجيا على عقول هذا الجيل الرقمي، وقدرتها على إحداث تحولات شاملة في وقت قياسي، مِمَّا يجعلنا ندق ناقوس الخطر ونُلحُ على ضرورة الاِهتمام بهذا الجانب المُغيب في مناهجنا التربوية وبرامجنا الإعلامية».وببعض الاِستطراد، أضاف: «..فالإعلام الجديد هو الإعلام الّذي أصبح يصوغُ عقول الجمهور والناشئة منهم على وجه الخصوص؛ فالشباب من الجنسين، يتعاملون اليوم مع وسائل اِتصالية رقمية إلكترونية لا تخضع للإشراف أو الرقابة، وهذا ما يجعل الإعلام قوةً مؤثرةً على الجميع دون اِستثناء بحكم أنّ مستخدمي الإنترنت من جميع فئات المجتمع وشرائحه». وفي ذات المعطى، يقول: «يضع المفكر الفرنسي سيرج لاتوش Serge Latouche الإعلام الجديد كجزء من شبكة العولمة التكنو-اِقتصادية وثقافية التي تجتاح العالم اليوم، ليبيّن قدرة العولمة الهائلة على زعزعة نظام القيم، وتوليد أزمات أخلاقية في بنية المجتمع الدولي برمته، في ظل بروز هذا النموذج المجتمعي النّاشئ، والقائم أساسًا على الإعلام والاِتصال على المستوى المحلّي والإقليمي والعالمي، الّذي يعد إطاراً للتّلاعب بالعقول». واختتم بقوله: «إنّ ظهور فئة القادة المُؤثرين على منصات التواصل الاِجتماعي، يجعلنا نُؤكد على ضرورة وضع منظومة قانونية فعّالة لتهذيب المحتوى الرقمي، باِعتباره مُرتبطا بالحق العام، ومن شأنه أن ينتهك خصوصيات وقيم المجتمع والأُسر والأفراد، ولما له من تبعات خطيرة على الوعي وتشكيل الرأي العام وإعادة هندسة الأفكار وتأطيرها في مسارات سلبية من شأنها أن ُتذكِيَ الرذيلة وتقضي على الفضيلة».
* المُحاضر والباحث عبد الرزّاق بلعقروز
فئــة مـن المؤثّريــن تقتــرن بهــم ظواهــر الفشـل الأســـريّ والـدّراســـيّ
يقول المُحاضر والباحث الأكاديمي المُتخصّص في فلسفة القيم، بجامعة سطيف2، الدكتور عبد الرزّاق بلعقروز: «فعلاً، باتت ظاهرة التَّأثير بواسطة وسائط الإعلام الجديدة تفعل فعلها، وتتركُ أثرها في الفضاء العام، ويجبُ بدءاً، التّمييز بين التأثير المُفيد والخيّر، وبين التأثير غير المُفيد والسّيء؛ فالأصل في هذه الوسائل أن تكون كُلها خيراتٌ نافعات وحسنات؛ أي مصالح؛ وأن لا تكون شروراً مُضرّات وسيّئات، أي مفاسد».
وفي ذات المعطى، أضافَ مُستدركاً: «إلاّ أنّ واقع الحال، هو كُثرة المُواقع التي تكتسب أهميتها، ليس من القيمة الإيجابية لمضامينها، ولا من المصالح التي يحتاجها النَّاس، بل من سطحيتها وفراغها العلمي وفسادها الأخلاقي، إنَّها تتخفىَّ خلف جمالية الصُّور والتقنيات؛ كي تنشر المحتويات الهابطة، ولعل من مظاهر هذا الهبوط، هو أنّها تفصل بين اللّغة والقيمة، فالأصل في اللّغة أنّها حاملة للمعاني الرَّفيعة، والعبارات الجزيلة، لكنها مع المحتويات التَّافهة والهابطة، أصبحت مجرّد كلام وثرثرة».ثُمَ أردف: «كما أصبح الكلام في هذه المحتويات كلاماً يخدش الحياء ويرفع من أهمية الكلمات المُتفحشة والسُّباب والقذف؛ باتت هذه المحتويات في جزءٍ منها حرباً نفسية على اللّغة الحاملة للقيمة والمعنى، ونشرٌ للخصوصيات الذَّاتية والدفع بالمُتتبعين إلى كسر الأوامر الأخلاقية مع الذَّات وفي الأسرة وفي شبكة العلاقات الاِجتماعية». مُضيفاً: «وقد أدركت هذه الفئات الصَّانعة للمُحتويات التَّافهة، أنّ حصولها على أكثر المُتابعين ودخول المال إلى حساباتها مُتلازم مع التعدي على الحدود الدينية والأخلاقية والاِجتماعية، والتكشّف للجسد واِستعمال الكلام المُنفصل عن القيمة، وكأنّ لسان حالها هو: بقدر ما تبث المجون والخلاعة بقدر ما تكسب أكثر، وأحد الأسباب في كُثرة المُتابعين لهم؛ أنّ الشبيه يُدرك الشَّبيه كما قال اِبن سينا؛ فلولا تماثل نفوسهم لَمَا كان هذا التَّلاقي في الوسائط الإعلامية».صاحب كتاب «روح الثقافة» واصل مؤكداً: «إنَّ صناعة هذه المحتويات التَّافهة، وإيجاد الفضاءات الإعلامية السَّائدة لنشرها، ما هو إلاّ حربٌ على الهوية الأخلاقية للإنسان، إنّها المحتويات المليئة بالوقاحة، ومعروفٌ في تعريف الوقاحة، أنّها اللُّجاجة في تعاطي القبيح من غير اِحتراز من الذَّم، ويمكن القول إنّ من أسباب هذه الوقاحة، المستوى التعليمي المُنعدم لدى هؤلاء، فأغلب الوقحين في نشر المحتويات التافهة؛ نماذجٌ فاشلة في دراستها، والنفس ما لم تكن ملآنة بالعِلم والخير، اِمتلأت بالجهل والفساد، فهذا الوصف مُلازمٌ لهم؛ أي الجهل والغباء والفراغ العلمي والأخلاقي».
بالإضافة إلى ذلك، أنَّ جزءاً منهم، -كما يُضيف المُتحدث- عاش حياة البؤس والضياع الاِجتماعي والفشل الأسري، وهذه الحالة الفاشلة أخلاقيًا ودينيًا واجتماعيًا، يُريد لها أن تكون مثالاً وتجربة لغيره.
ولهذا نُلاحظ –حسب قوله دائمًا- أنّ فئة من المُؤثرين تقترن بهم ظواهر الفشل الأسري والدراسي والرؤوس الفارغة من العِلم والقراءة والمعرفة، إنّهم يُريدون أن يجعلوا من ذواتهم الشَّاردة، نماذج للشباب في الحياة، بينما تمتلئ قلوبهم بالألم والحسرة وفقدان نقطة الاِرتكاز، وهذه الفئة تؤثر سلبًا على المجتمع.
واختتم بقوله: «إذا كانت هذه بعض سمات صناعة التفاهة، فإنَّ شباب الثقافة والقراءة، لابدّ لهم من أن يشرعوا في صناعة محتويات مفيدة، ويستعملوا أيضا جمالية الصُّورة والتقنية، كي يخلقوا مراكز تأثير أخرى، والأكيد أنَّ المجتمع أو العقل الجمعي يرى ويُلاحظ ويُحلل ويزن ما يسود وينتشر، ويتفاعل مع مصالحه التي هي خيراتٌ نافعات حسنات، ويتنكّب عن هذه المفاسد التي تكتسب أهميتها لا من خيراتها، وإنّما من غرابتها، وقد قال اِبن خلدون من قبل، أنّ النفوس مولعة بالغرائب !!!».