دعم الصحافـة يجـب أن يكــون وفــق معاييــر الجــودة والاحترافيــة والـدور الاجتماعــي
يتوقع الصحفي والأستاذ الجامعي عبد الكريم تفرقنيت في هذا الحوار الذي خص به النصر بأن الصحافة الورقية لن تزول، لكنها لن تبقى بنفس الحجم والمكانة التي كانت عليها، مضيفا بأنه ممن يعتقدون بأن ظهور وسائل إعلام جديدة لا تلغي وسائل الإعلام التي سبقتها، كما يري بأن الصحف العمومية من واجب الحكومة أن تمولها وتضمن لها البقاء ، ودعا إلى ضرورة تضافر الجهود داخل المجتمع من قبل الأطراف المعنية بالعملية الإعلامية من السلطات العمومية والمجتمع المدني والمؤسسات الإعلامية وذلك لإنقاذ الصحافة المكتوبة .
النصر:كيف تنظر لتداعيات الأزمة الاقتصادية التي يمر بها البلد على قطاع الإعلام في الجزائر؟
تفرقنيت: من الصناعات التي تتأثر بشدة بالأزمات الاقتصادية والمالية، صناعة الإعلام، كونها صناعة هشة، ترتبط بالصناعات الأخرى، ومنها صناعة الورق ومستلزمات الطباعة، كما ترتبط بالتمويلات المالية المباشرة وغير المباشرة، مثل الاشتراكات والبيع، والإشهار والإعلانات والرعاية، وتربط أيضا بسوق الجمهور، وقد تسبب تراجع أسعار البترول من 110 دولار في جوان 2014 إلى حوالي 50 دولار حاليا في أزمة اقتصادية ومالية في الجزائر، ومن التداعيات المباشرة للأزمة الاقتصادية على الصحافة المكتوبة في الجزائر، اختفاء عدد من الجرائد، فمنذ بداية الأزمة في عام  2014، بلغ عدد العناوين التي توقفت عن الصدور60  صحيفة،  26 جريدة يومية و 34 أسبوعية حسب تصريحات وزير الاتصال جمال كعوان، ويقدر حاليا عدد العناوين الناشطة في الساحة الإعلامية بـ  140 عنوانا، كما أدت الأزمة الاقتصادية إلى تراجع حجم الإشهار العمومي بنسبة 65 %خلال سنتي 2015 و2016، وهبوط أرقام السحب في المطابع الحكومية، حيث انخفضت أرقام سحب الجرائد عام 2012بنسبة 16 %، ليصل الانخفاض في عام 2016 إلى نسبة 45 %في المطابع الحكومية، وفي القطاع الخاص تشير إحصائيات نشرها عام 2014 مكتب الاعتماد والتوزيع المتخصص في نشر إحصائيات العديد من وسائل الإعلام العالمية، إلى تراجع طبع عدد من الصحف الجزائرية الواسعة الانتشار بسبب انخفاض مبيعات نسخها الورقية.
من واجب الحكومة أن تمول الصحف العمومية وتضمن لها البقاء
النصر: في ظل هذه الأزمة الاقتصادية وتراجع الإشهار الموجه للصحف، كيف تنظر إلى مستقبل الصحافة المكتوبة في ظل هذا الوضع الذي يميزه أيضا منافسة الصحافة الالكترونية ؟ وإلى أي مدى يمكن للصحافة المكتوبة أن تصمد ؟
تفرقنيت: لا أتصور عالم دون كتب ودون جرائد، ولا أعتقد أن الكتب الورقية ستزول، وأن الجرائد الورقية ستزول هي الأخرى، رغم انتشار الكتاب الالكتروني، والجرائد الالكترونية على نطاق واسع، فالكتب والجرائد الورقية ستبقى، ربما ليس بنفس الحجم ولن تلقى نفس الاهتمام الموجود في أأيامنا هذه، ولكنهما لن ينقرضا، ونحن من الذين يعتقدون أن ظهور وسائل إعلام جديدة لا يلغي وسائل الإعلام التي سبقتها، فعندما ظهرت الإذاعة في الثلاثينات من القرن العشرين، قيل أن الصحف والجرائد ستزول، ولكن لم يحدث هذا، وعندما ظهر التلفزيون في الخمسينيات، قيل أن الإذاعة ستزول، ولكن لم يحدث هذا، وعندما ظهر الانترنيت، وتطور النشر الالكتروني، قيل أن الجرائد الورقية والكتب ستزول، وأتوقع أن هذا لن يحدث.
لكن وضعية الصحافة المكتوبة في الجزائر، ليست متعلقة فقط بمنافسة الصحافة الالكترونية، بل أنها مرتبطة بعديد من العوامل التي جعلت من الجرائد اليومية والأسبوعيات تعيش واقعا هشا، نقص الإشهار  انخفاض المبيعات و تقلص نسب التوزيع وغيرها، ولذا ينبغي معالجة هذا الواقع بمجموعة من التدابير.
النصر:ما هي التدابير أو الحلول التي تراها مناسبة لإنقاذ الصحافة المكتوبة من هذه الأزمة ؟
تفرقنيت: ينبغي أن تتضافر الجهود داخل المجتمع من قبل الأطراف المعنية بالعملية الإعلامية من السلطات العمومية والمجتمع المدني والمؤسسات الإعلامية وذلك لإنقاذ الصحافة المكتوبة كما تفضلتم بقوله في سؤالكم، وذلك من خلال مبادرات الفاعلين والمساهمين في العملية الإعلامية والاتصالية عموما، سواء في القطاع الحكومي أو الخاص .
فبالنسبة السلطات العمومية، ممثلة في الهيئة التنفيذية، الحكومة والوزارة الوصية، ينبغي عليها التحرك لتنظيم القطاع بتشجيع جرائد القطاع الحكومي وتحفيز جرائد القطاع الخاص، ودعمها ماليا بحوافز وإعانات حسب المجهودات التي تقدمها المؤسسات الإعلامية وطبيعة مضمونها الإعلامي من حيث الجودة والاحترافية ودورها الاجتماعي، وليس من حيث خطها الافتتاحي وتوجهها السياسي سواء أكانت  موالية للحكومة أو معارضة لها أو ملتزمة بنوع من الحياد.
ويكون دور السلطات العمومية من خلال  تقنين  عملية توزيع   الإشهار الحكومي وتنظيم عملية منح الإشهار الشركات الخاصة على الجرائد  بطرق وأساليب شفافة، وإصدار قانون للإشهار يحدد ميكانيزمات توزيعه على القطاع العمومي والخاص حسب متطلبات السوق وقدرات وكفاءات المؤسسات الإعلامية ومكانتها المهنية.  
مع إعطاء أدوار وصلاحيات للهيئات الاستشارية والضابطة مثل سلطة الضبط الصحافة المكتوبة، التي سيتم إنشائها مع حلول العام المقبل حسب تصريحات وزير الاتصال جمال كعوان، وهذه الهيئة من الممكن أن يكون لها دورا مهما في عملية ترشيد العمل الصحفي في الجرائد والمجلات، ومتابعة نشاطاته والارتقاء بالأداء الإعلامي .
أما في ما يتعلق بالمؤسسات الإعلامية، مهما كانت حكومية أو خاصة أو حزبية، عليها أن توضح خطوطها الافتتاحية وتوجهاتها الإيديولوجية بشكل شفاف، ولا تبقى تقفز على الحبال، وتتبنى كل الاتجاهات .
فالجرائد الحكومية تسجل أنها موالية للحكومة، وبالتالي من واجب الحكومة أن تمولها وتضمن لها البقاء، فمن حق الحكومة أن تكون لها جرائدها، لكن لا ينبغي أن تكون هذه الجرائد تمولها الدولة وتستغلها الحكومة، فمفهوم الدولة يختلط بمفهوم الحكومة، ومفهوم الخدمة الحكومية يختلط مع مفهوم الخدمة العمومية في العالم الثالث والدول العربية، وهذا ما تسبب في متاعب كثيرة لهذا النوع من الجرائد، ومن الممكن أن تنال الجرائد المتخصصة في الثقافة والعلوم والمعارف و الموجهة للأطفال دعما خاصا من طرف الحكومة حتى ولو كانت جرائد خاصة، مثلما هو معمول به في بعض الدول  المتقدمة .
لا أعتقد بأن الصحافة الورقية ستزول لكنها لن تبقى بنفس المكانة
أما الجرائد الحزبية، عليها أن تسجل أنها تابعة لحزب معين، ومن واجب ذلك الحزب أن يمولها ويضمن لها مستحقات الطبع وأجور الصحفيين، وليس كما يحدث عندنا حاليا، فهناك جريدة حزبية في المضمون، ولكنها ليست كذلك في التمويل، حيث لا يمولها الحزب التابعة له، وهي معرضة للتوقف عن الصدور ولا تدفع أجور صحافييها وعمالها سوى بصعوبة .
وفي ما يخص الجرائد الخاصة، فعليها أولا الرفع من مستوى أدائها الإعلامي و تقديم خدمة عمومية بعيدة عن  الموالاة  للهيئات الرسمية  وبعيدة أيضا عن المبالغة في الإثارة  المفرطة، مع إقرار  بعض الإجراءات التقنية مثل رفع أسعار الجرائد، تفعيل أسعار الإعلانات، اعتماد نشاطات أخرى مكملة للصحافة كطبع الكتب والمنشورات وتنظيم ملتقيات والمساهمة في النشاطات الاقتصادية والتجارية ...
وعادة الجريدة الخاصة تكون ملكا لفرد، أو جماعة أفراد، رجال أعمال مثلا، وهؤلاء عليهم أن يضمنوا بقاء جريدته وإيجاد أساليب استمرارها على الساحة الإعلامية، وفي الجزائر إضافة إلى هذا النوع، يوجد نوعا آخرا يتمثل في «صحافة التعاونيات» أو ما كان يطلق عليه الصحافة المستقلة، التي أنشأتها الحكومة في بداية التسعينات بمجموعات من الصحفيين، ولكنها لم تستطيع الآن في أن تكون جرائد تخضع لمنطق صناعة الإعلام، وهي مهددة حاليا إذا لم توسع استثماراتها إما بالزوال أو بالبيع لرجال الأعمال أو حتى للدولة.
النصر :عاد  الحديث عن صندوق دعم الصحافة المكتوبة في مخطط الحكومة الأخير، هل تتوقع أن يرى هذا الصندوق النور ويساهم في حل الأزمة المالية للصحافة المكتوبة؟
تفرقنيت: اقتصرت مهام صندوق دعم الصحافة في الجزائر الممول من طرف الدولة  خلال بدايات إنشائه في منتصف التسعينات من القرن العشرين على دعم الصحافة المكتوبة على الخصوص، ولكن الاستفادات المالية التي وزعت آنذاك كانت محل نقاش واحتجاج من قبل أعضاء الأسرة الإعلامية نظرا لأن كيفيات وصيغ توزيع الإعانة الموجهة لم تكن واضحة ودقيقة المعالم والميكانيزمات.
و قد تعرض هذا الصندوق لعمليات تجميد عدة مرات، فقد جمد من عام 2005 حتى عام 2012، كما جمد مع نهاية 2016 وبداية عام 2017 .
وفي عام 2012 بعد إعادة ظهوره بصدور مرسوم تنفيذي رقم 12-412 المؤرخ في 8 ديسمبر 2012 ، وضعت الحكومة في عهد وزير الاتصال السابق محمد السعيد شروط الاستفادة من هذا الصندوق، وخصص له مبلغ 390 مليون دينار جزائري، و أصبحت إعانته تشمل كل وسائل الإعلام ، وليس الصحافة المكتوبة فقط، وأطلقت عليه تسمية « صندوق دعم الصحافة المكتوبة والسمعية البصرية والالكترونية ونشاطات تكوين وتحسين مستوى الصحفيين والمتدخلين في مهن الصحافة  «.
وهو يشمل المؤسسات العمومية والخاصة، ومن شروط الحصول على إعانته حسب المرسوم المذكور هو أن يكون مقر المؤسسة في الجزائر، أي أن القنوات التلفزيونية  الخاصة وأغلب الجرائد الالكترونية الخاصة ليس لها الحق في الاستفادة من الإعانة، كون مقراتها في الخارج، كما يشترط أن تكون المؤسسة متحصلة على سجل تجاري، وهنا أيضا غير متوفر للقنوات التلفزيونية الخاصة والجرائد الالكترونية الخاصة، التي ليس لديها سجلات تجارية لوسائل الإعلام التي تصدرها، وما لديها هو سجلات تجارية لشركات إنتاج وإشهار تابعة لها.
وفي نفس الوقت يشترط الصندوق أن تدفع المؤسسات الإعلامية الأعباء الاجتماعية والجبائي، وهذا الشرط خاصة المتعلق بجانب الضمان الاجتماعي والتقاعد، قد لا تنفذها الكثير من وسائل الإعلام الخاصة، التي تتجه لتجاوز هذه الأعباء وتتفاداها نظرا لقلة مواردها المالية، ولعدم مطالبة الصحفيين والعاملين فيها بحقوقهم الاجتماعية، خاصة بالنسبة المبتدئين، وهم كثر .
ما يمكن الإشارة إليه من خلال تجربة هذا الصندوق في السنوات الأخيرة من 2012 إلى 2016 ، أن شكل الإعانات التي يقدمها، اتخذ طابع تكوين الصحفيين، وقد صرح وزير الاتصال السابق حميد قرين أنه منذ جوان 2014 حتى أواخر 2016 تمت استفادة عدد من الصحفيين من دورات تدريبية قدرت ب 30 دورة، لكن حتى هذه الدورات اتخذت في أغلبيتها شكل المحاضرات التي تدوم لساعة أو ساعتين، وتنتهي بنقاش مع الصحفيين، دون أي جانب ميداني أو تطبيقي، وهذا ما يجعلها تغرق في الجانب النظري مثل الجامعة تماما .
والآن، أعلن الوزير الأول أحمد أويحيى عن بعث صندوق دعم الصحافة من جديد مع بداية العام المقبل أي 2018 ، ولكن مازالت لم تتحدد شروط  الاستفادة من الإعانات التي سيقدمها، فهل أنها بنفس الشروط التي حددها مرسوم 2012 ، أم ستكون شروطا جديدة سيتم وضعها، وهل أن الإعانات ستشمل الصحافة المكتوبة فقط أم كل وسائل الإعلام السمعية البصرية والالكترونية .
 يبقى انتظار الإجراءات الجديدة، خاصة أن الوزير الأول أكد على ضرورة إعادة النظر في تأطيرها، ومع تنصيب سلطة ضبط الصحافة المكتوبة، ربما ستكون الظروف مواتية  أكثر لإعانة الصحافة المكتوبة  التي هي في أمس الحاجة للدعم المالي .     
سحب الصحف في المطابع تراجع بنسبة 45بالمائة في 2016
النصر: إلى أي مدى تأثرت القنوات التلفزيونية الخاصة بالأزمة الاقتصادية، وهل ستصمد في ظل هذه الظروف ؟
تفرقنيت: إضافة إلى المحيط العام التي ترك أثارا وتداعيات على الصحافة المكتوبة، وجعلها تعيش أزمة خانقة، فإن هذا المحيط يؤثر أيضا على القنوات التلفزيونية، ومن مظاهره عدم شفافية توزيع الإشهار الحكومي، وتأرجح منح الإعلانات الخاصة، وشح سوق المعلنين في الجزائر نظرا لضعف ثقافة الترويج والإشهار.  إضافة إلى هذه العوامل، يظهر جليا تأثير انعدام الإطار القانوني لهذه القنوات، حيث أنها قنوات أجنبية لا يمكنها إعلاميا التحرك بأريحية، كما لا يحق لها الإشهار الحكومي ولهذا الغرض لجأ البعض إلى تأسيس شركات إشهار وطنية.
والواقع أن الاستثمار في التلفزيون، أصعب من الاستثمار في الجرائد من حيث أنه صناعة تتطلب أموالا كبيرة لتغطيات نفقات البث عبر الساتل، وإنتاج المواد الإعلامية من حصص وبرامج وغيرها، وقد بدأت القنوات الخاصة تغلق أبوابها وتغادر الساحة الإعلامية ، والخوف أن تلحق بركب المغادرين قنوات أخرى من مجموع القنوات البالغ حاليا ما يقارب 50 قناة، إذا لم تتخذ إجراءات وتدابير عاجلة وسريعة لالتحاق أصحاب الأموال بالمساهمة في هذه القنوات حسب ما ينص قانون السمعي البصري الذي مازال لم يطبق.
ن ع

الرجوع إلى الأعلى