يسأل بصوت خافت وملامح جادّة: أرأيت الطائرات؟
-أية طائرات؟
- الحربيّة التي عبرت الأجواء، وخلّفت دخاناً لم ينتبه إليه أحدٌ.
ثم يشتاط غضبا من عدم الانتباه إلى طائرات خلّفت دخاناً قاتلاً في الجوّ، ويقول بتصميمٍ: لن أمكّنهم من القبض عليّ حيّاً.
حين عبر الثمانين، بدأ يختلقُ شخوصاً تترصّده في أزقّة المدينة، ولم يتردّد في تهديد الخونة المحتملين الذين رجّح أنهم سيدلّون عليه!
ولم يأسف على شيءٍ كما أسف على عدم قدرته على استخدام السّلاح بالدّقة التي يقتضيها الوضع، كما فعل في الحرب الثانيّة التي تلت الحرب الكبيرة، بسبب رعشةٍ مشؤومةٍ في اليدين.
لم نشف تماماً من الحربين: الصغيرة التي اختلقناها والكبيرة التي فُرضت علينا. وعوض أن نعالج الصّدمات فردياً واجتماعياً، قدّسنا الموت في أدبيّاتنا، ولا تستغرب إن وجدت اليوم، بين السّاسة، من يدعو إلى تلقين “الشّهادة” لتلاميذ المدارس، أو يقرن بين حبّ الوطن والموت، وتجد بين خطباء المساجد من يهجو الحياة كلّ جمعة.
لا يكفي التكفلّ المادي بالمحارب والمعطوب و المصدوم ، بل نحتاج إلى علاجٍ سريري للحالات المعذّبة، وإلى “وقاية” تقتضي تغيير الكثير من الأدبيات السياسيّة والدينيّة التي لا تتوقّف عن توقّع حربٍ وشيكةٍ والإشارة إلى أعداءٍ واقفين على الأبواب.
لقد تحوّل التوجّس إلى أسلوب حياةٍ لدى الجزائريين، من السيّاسي الذي ينتظر الغزاة إلى الشاب العاطل عن الحياة الذي يتوقّع مستقبلاً غائماً لإعفاء نفسه من تعبٍ غير مجدٍ.
ويؤثر المتوجّسُ سلبياً، حين يكون في موقع اتخاذ القرار أو قيادة اجتماعيّة، أو حين يتولى موقعاً على صلةٍ بالجمهور الواسع، فينقل «حالته» إلى الآخرين.
وللخروج من هذه الحالة المُربكة، المشوّشة، يجب الشّفاء من جميع الحروب  والفصل بين «المحاربين « و البنائين»، فالحياة تستمرّ بعد الحربِ بنواميسها الخاصّة وليس بتكتيك المعارك ومكائدها السريّة.
ويجب الانتساب إلى العصرِ الحديث والأخذ بما توصّلت إليه الإنسانيّة من حلول علميّة  وتدابير لتسهيل العيش وجعله مُمتعاً!
ويجب أخيراً، الكفّ عن البحث عن المستقبل في الماضي، أو الإيمان بالمعجزات والأساطير، التي يمكن أن تكون مادّة للدراسة وليس «دليلاً» في الحياة.

سليم بوفنداسة

    • صعلكة

        أصبح "خطاب الحق" عنوان ضعفٍ في عالم اليوم الذي باتت تتحكّم في مفاصله قوى ولوبيات لا تبالي بالقوانين ولا بالمبادئ التي راكمتها الإنسانيّة في خروجها الفاشل من الصّراعات الدموية. بل إن "التصعلك" تحوّل إلى ما يشبه العرف في العلاقات الدولية،...

    • ضرورة التفكير في المجتمع

        سليم بوفنداسة انتفض المجتمع المدني في ولاية خنشلة ضدّ "الراقي الزائر"، الذي أثار الجدل على مواقع التواصل، ودعا السلطات لفتح تحقيق حول قيّامه بنشاط غير مرخص، في مبادرة حضاريّة تكشف عن وعي الجمعيّات وتحمّلها مسؤوليّة التصدي لآفات ظلّت لفترة...

    • المخفيّ

      حين مات محمد ديب لم تجد وسائل الإعلام الوطنيّة، مادة سمعية بصريّة عن الكاتب تقدّمها للجمهور، كان ذلك سنة 2003، أي قبل ظهور وسائل التواصل الاجتماعي، وكان محمد ديب أكبر كاتبٍ جزائري، عاش عمرًا مديدًا يكفي لاستدراجه إلى توثيق يخدم...

    • اختراق

      شهدت الفترة التي تلت اندلاع الحرب المدمرة على غزة، تسخير ذباب إلكتروني لتسفيه الخطابات المؤيدة للفلسطينيين، ويمكن أن نقرأ ما يندى له الجبين في تعليقات عربيّة على الجهود الدبلوماسيّة لوقف المذبحة، أو على التضامن مع الضحايا، حيث...

    • خِفّـــة

      يبحثُ المتحدّثُ عن العبارة التي ستبقى  في أثير الله الأزرق بعد أن يفنى الكلام، عبارةٌ واحدةٌ تكفي كي يبقى، لذلك صارت استراتيجيات التّواصل تُبنى على عبارات يوصى بإلقائها وسط موجة الكلام، في حملات الانتخابات وفي الخُطبِ والتدخلات في وسائل...

    • وصفُ السّعادة!

      تجري الحياة في فضاءات أخرى وليس على المُستطيل الأخضر، رغم المُتعة التي توفرها كرة القدم، باعتبارها مسرح فرجةٍ في عصرنا، يلتقي فيه الشغف الكونيّ. صحيحٌ أنّ هذه اللّعبة، تجاوزت حدود الرياضة بعد ظهور "المستثمرين" والتجّار من باعة...

    • القيمة والشّعار

      يخترقُ المنتوج الثقافيّ الحدود واللّغات، بجودته أولًا وأخيرًا، وقد يفوق تأثيره التوقّعات، لذلك استغلّت بعض الأمم المُتصارعة على المسرح الكونيّ الفنون لتمرير رسائل تستهدف وجدان البشر و تستدعيه في لعبة استدراج و تماهٍ، عبر صوغ...

    • كبارُ "الباعة"!

      سخر كمال داود من الصّفة التي يطلقها العرب والمسلمون على ضحايا العدوان الهمجي على غزّة، ووجد الوقت والمتعة للتّنكيل اللّغوي بمنكّل بهم في الواقع، لكنّ اللّغة ستخونه، قطعًا، في وصف القتلة، لأنّ حريّته تتوقّف عند جثث الضحايا،...

    • مقبرةُ جماعيّة للإنسانيّة

      في هذه الأرض المزدحمة، حيث يتعايش الأحياءُ والموتى، تُحفر القبور على عجلٍ في الأسواق السّابقة والأرصفة السابقة، لا أزهار هنا في وداع النّازلين إلى ترابهم من حياة، هي مجرّد استراحة بين ميتات مُختلفة. قد يُسرف القتلى في النوم حيث...

    • في وصف الشّر

      تدفعُ المقتلةُ الجاريّة هذه الأيّام ومحاولات تأويلها وتغطيّتها نحو التفكير في "الشّر"، ليس كمصطلح خاضت فيه الفلسفات، ولكن كعنوانٍ بديعٍ لعصرنا الذي صدّقنا أنّه يشهد ذروة تطوّر الإنسانيّة، في العلوم والمعارف وفي النظم السيّاسيّة...

    << < 1 2 3 4 5 > >> (5)
الرجوع إلى الأعلى