لم تأت قصة نجاح الشابة شذى الإسلام منال بن محسن، ابنة مدينة ورقلة الواقعة جنوب الجزائر، وليدة الصدفة، فوصولها اليوم إلى منصب مسؤولة بعملاق الصناعات التكنولوجية الأمريكي «جينيرال إلكتريك»، كان نتاج أعوام من النشاط الجمعوي و التدريبات المكثفة التي أهلتها لدراسة هندسة الكمبيوتر و إدارة الأعمال بالجامعة الأمريكية بالقاهرة وجامعة كولورادو، لتشق بعدها طريقها نحو التميز، و تصنع صورة مشرقة و مشرفّة عن امرأة الجنوب القادرة على تجاوز كل الحواجز بثبات.
تخبرنا شذى ذات الـ 27 ربيعا، أنها زاولت الدراسة بمدينة ورقلة التي وُلدت و كبرت بها، لكن انخراطها في العمل الجمعوي بدأ منذ أن كانت تدرس بمرحلة التعليم المتوسط، فوالدتها الأستاذة الجامعية و والدها الطبيب شجعاها على ذلك، وقد كانت البداية مع جمعية القصر للثقافة والإصلاح التي نظمت دورات تكوينية عدة ونشاطات شبابية بعضها موجهة للنساء.
وبعد انتقالها إلى مرحلة الثانوية بمعدل 18 من 20، الذي أهلها لتكون من الناجحين الأوائل في ولاية ورقلة، اختارت شذى شعبة العلوم وفي الوقت نفسه سجلت بمدرسة خاصة لتعليم اللغة الإنجليزية، وانضمت عبرها إلى برنامج «أكسس» للغات الذي أطلقته السفارة الأمريكية بالجزائر، والذي بدأت به رحلتها مع التدرب على مهارات القيادة، فقد اختيرت الشابة بعد ذلك وهي ما تزال في مرحلة الثانوي ضمن برنامج مكثف للقيادة مخصص للشباب الجزائري وتابع للسفارة الأمريكية أيضا، حيث يدربهم على العمل ضمن فريق وإدارة مشاريعهم الخاصة.
اخترت مغامرة الدراسة في الخارج بدل الطب
بالموازاة مع ذلك، كانت شذى تُتم دراستها في مرحلة الثانوي إلى أن أجرت امتحان شهادة البكالوريا وهدفها كان آنذاك، مثلما أخبرتنا، الحصول على معدل 18 والالتحاق بتخصص الطب، لكن في السنة ذاتها فتحت السفارة الأمريكية باب التقديم لأول مرة، ببرنامج يطلق عليه اسم «رواد الغد»، فقدمت له ومرت على عدة اختبارات، فكانت ضمن الثلاثة الناجحين الذين قدمت لهم منح لمدة 4 سنوات للدراسة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة في التخصصات التي يختارونها، لكن قبل ظهور هذه النتيجة بأيام، كانت نتائج البكالوريا قد أعلنت في 2011 و نجحت فيها الطالبة المجتهدة بمعدل 17 من 20، فسجلت في كلية الطب بالعاصمة، حيث رتبت ضمن الثلاثة الأوائل بولاية ورقلة.
وتضيف شذى بحماس، أنها اختارت خوض مغامرة الدراسة في الخارج في عمر 17 سنة، رغم أنه كان بإمكانها تحقيق حلمها بدراسة الطب، و رغم أن التخصصات الموجودة في الجامعة الأمريكية بالقاهرة لا تتضمن الطب و لا تُدرّس حتى هندسة البترول في فترة 4 سنوات، وهو تخصص أحبته أيضا، و هنا تعلق شذى «كنت مرنة جدا في خياراتي وهذه من المهارات التي تعلمتها في الحياة، فبعدما اتضح لي أنه لن أستطيع دراسة الطب وهندسة البترول بالجامعة الأمريكية، سجلت في هندسة البرمجيات، وقلت في نفسي، لن أضيع هذه الفرصة بعدما حصلت عليها من بين حوالي ألف طالب متقدم من كل أنحاء الجزائر».
تخصص الإعلام الآلي كان اختيارا جيدا، فقد أحبته الطالبة اليافعة، واكتشفت خلال دراسته أنه ما يمكن القيام به في الجامعات الأمريكية، ممكن التطبيق في الجزائر، فالكفاءات والمهارات موجودة لكنها تحتاج فقط لإمكانيات، حيث كانت الأولى على الدفعة ونجحت في مسابقة نظمت في ولاية كولورادو الأمريكية خلال فترة التبادل الدراسي التي أجريت هناك لحوالي 5 أشهر.
تخبرنا شذى أنها اكتشفت بأن نظام التدريس الأمريكي مختلف تماما عن ما هو موجود بالجزائر، بدءا من طريقة التنقيط إلى غاية كيفية تعامل الأساتذة مع الطلبة الذين يُسمح لهم بدراسة المواد التي يريدونها في جو أكاديمي مرح، و هو ما أتاح لها دراسة تخصص إدارة الأعمال موازاة مع هندسة البرمجيات، كما أن فترة تواجدها بالقاهرة علمتها الاعتماد على نفسها، وقد ساعدها العمل الجمعوي وسفرها قبل ذلك إلى عدة بلدان، في التأقلم مع الوضع الجديد.
«أنتروجاكس».. مشروع لتدريب المقاولين الصغار
وخلال فترة الدراسة بالقاهرة، كانت شذى تزور الجزائر صيفا وتقوم بنشاطات جمعوية، منها مؤتمرات «تاد إكس» و «آي تيك»، كما أسست قبل ذلك نادي «هوب غروب» وشاركت في قوافل تضامنية بالجزائر، وفي عدة بلدان بالخارج منها فلسطين والهند، لكن عند عودتها نهائيا بعد التخرج سنة 2015، اصطدمت الشابة بعدم الاعتراف بشهادتها وطُلب منها القيام بإجراءات المعادلة، وهو أمر استغرق منها أشهرا، لكنها لم تيأس، فأطلقت بورقلة مشروع «أنتروجاكس» لتدريب المقاولين الصغار على تأسيس مشاريع.
وشاءت الأقدار أن تكون الإجراءات المعقدة التي فرضت على شذى بالجزائر، سببا في تغيير مسار حياتها، فقد اضطرت للسفر مجددا للقاهرة لإمضاء وثائق معادلة الشهادة، وهناك قامت بزيارة مجاملة للجامعة الأمريكية، وتحديدا بمكتب التوظيف الذي كانت قد تدربت فيه لفترة، حيث أخبروها هناك أن «جينيرال إيليكتريك» وهي شركة أمريكية عملاقة مختصة في الصناعة والتكنولوجيا، ستجري دورة تدريبية، لم يسعفها الوقت لحضورها، لكنها قررت أن تقدم على طلب توظيف بهذه الشركة.
و الطريف في الأمر أن شذى لم تكن تحوز على عنوان البريد الإلكتروني لمسؤول الموارد البشرية للشركة بمنطقة الشرق الأوسط، لكنها وضعت عدة احتمالات بناء على اسمه، و أرسلت الطلب إلى عدة عناوين تبيّن أن أحدها صحيح، و تم بموجبه الرد عليها بالقبول المبدئي الذي خضعت بعده لمقابلة، قبل أن توظف بفرع الجزائر ابتداء من جانفي 2016، ثم تصبح منذ 2018 انطلاقا من دبي بالإمارات العربية المتحدة، مديرة التجارة الإلكترونية للمواد البترولية بـ «بيكر هيوز» وهي أحد فروع «جينيرال إليكتريك» و تعتبر اليوم واحدة من أكبر الشركات المختصة في خدمات حقول النفط في العالم، و من هنا تكون قد عادت لهندسة البترول لكن من بوابة مغايرة، تقول شذى بمرح.
«نحن من يتحكم في مسارنا الدراسي وليس المحيط»
و عن هذا الأمر تتابع محدثتنا « كبرت بورقلة أين تتركز الصناعة النفطية، لكن لاحظت أن هناك نقصا في تخصص شباب المنطقة بمجال البترول وكذلك في اللغة الإنجليزية، وعندما تخرجت فكرت بدراسة ماستر هندسة البترول أو العمل بهذا المجال، فوجدت أن عمل جينيرال إيليكتريك يدمج الاثنين، أي الإعلام الآلي و البترول، لذلك اخترت العمل في فرع الغاز و مررت لأجله على برنامج مهني».
و تتابع شذى قائلة «ما يمكن تعلمه من هذه التجربة، أنه باستطاعتنا التحكم في مسارنا الدراسي و المهني، فلا نتركه في يدي الوالدين و المحيط، إذ من المهم القيام بالأمور التي نتقنها. صحيح أن الحياة ليست وردية و لن نصل إلى ما نريد منذ اليوم الأول، لكن يجب أن يكون هناك هدف نعمل على الوصول إليه».
و لم تكتف الشابة الجزائرية الطموحة بهذا المستوى من النجاح، بل خضعت لتدريب في مجال المناجمت، و انضمت للمنظمة الدولية لمهندسي البترول التي كانت قد تعرفت عليها خلال الدراسة بالجامعة، فأصبحت اليوم عضوة بها، و ممثلة لها، كما تقوم بنشاطات عدة كانت من بين آخرها إطلاق تطبيق طبي، تزامنا مع جائحة كورونا، و لم تبخل ابنة ورقلة على الشباب الجزائري بعرض خبراتها، حيث تشارك في لقاءات افتراضية عدة بصورة متواصلة.
بعض النساء لا يتقدمن مهنيا بسبب صورة نمطيَّة رسمنها عن أنفسهن

شذى ترأس أيضا شبكة التنوع والإدماج للشرق الأوسط و شمال أفريقيا والهند، وهي شبكة استحدثتها الشركة التي تعمل بها عبر جميع فروعها من أجل إدماج النساء والفتيات في العمل و تكوينهن حول كيفية مواجهة التحرش، و عن هذا الموضوع، تقول محدثتنا إنها اكتشفت من خلال هذا النشاط، أن العديد من النساء في المنطقة العربية، يحبسن أنفسهن في مستوى معين و يكون ذلك في أغلب الأحيان ناجما عن تفكير داخلي يكرس صورة نمطية.أما بالنسبة للمرأة الجزائرية و خصوصا المقيمة بالجنوب، و ما تصادفه من عقبات في العمل، سيما في مجال البترول، ترى شذى أن مشكل التوظيف هو مشكل عام، لكنه قد يحمل خصوصية بالنسبة لامرأة الجنوب التي يرفض محيطها أن تعمل في القواعد النفطية، وذلك بسبب عادات و تقاليد، تقول محدثتنا إنها تحترمها، لكنها أقحِمت بصورة خاطئة في جوانب عديدة، رغم ذلك تؤكد شذى أن نساء الجنوب «بدأن في كسر الحاجز»، فالأمور اختلفت عما كانت عليه قبل 10 سنوات، عندما سافرت هي للقاهرة للدراسة بمفردها، و هنا عبرت الشابة عن امتنانها الشديد لوالديها اللذين دعماها كثيرا و تحملا ضغط البيئة المحيطة بهما.و عن دور الجامعة الأمريكية في صقل شخصيتها ومهاراتها الحياتية، تستطرد شذى «لقد استثمرت في فترة الدراسة بالجامعة استثمارا حقيقيا، فقد تغيرت لدي الكثير من المعتقدات عن طريقة الحياة، ذلك أدعو الطلبة إلى استغلال هذه الفترة و تجريب كل شيء مهما كان بسيطا (...) الجامعة سمحت لي باكتساب مهارات حول كيفية التعامل مع الآخرين، و التمثيل والقيادة، فهي ليست مكانا للدراسة فقط، إذ أن الأنشطة تضيف للطالب و تجعل مسار حياته أوضح (...) ما يحدد مسار حياتك هي الأمور التي تقوم بها خارج دوام الجامعة وكيفية استغلال وقت الفراغ».و تكشف شذى في حديثها للنصر، أنها تطمح لتطوير مشروع «أنتروجاكس» بورقلة ليصبح أكاديمية، و كذلك إلى إقامة «تيكنو هب»، وهو ملتقى رقمي لتدريب الشباب، كما تخطط لمواصلة الدكتوراه في الخارج لتكون قدوة للمرأة الجزائرية و امرأة الجنوب تحديدا، و تثبت أن هذه الأخيرة قادرة على الوصول إلى الشركات العالمية .و في هذا الخصوص قالت شذى مخاطبة نساء الجنوب «يجب ألا نضع حواجز لأنفسنا بأنفسنا، صحيح أن هناك ضغطا من العائلة و المجتمع إلى جانب السياق العام في البلاد، لكنك أنت الوحيدة التي عليك اتخاذ القرارات المتعلقة بحياتك، امرأة الجنوب قادرة على بلوغ أهدافها، وعليها أن تجد قدوة تساعدها على النهوض كلما سقطت».
ياسمين بوالجدري

الرجوع إلى الأعلى