تتعطر مدينة الصخر العتيق هذه الأيام، بنسائم الزهر والورد، الذي يفوح عبقه من بيوت ألف أهلها عادة التقطير، التي ظهرت بداية كموروث شعبي يرتبط بالاحتفال بالربيع، ليتحول في السنوات الأخيرة، إلى حرفة تأخذ بعدا اقتصاديا متناميا، مع تزايد توظيف منتجات التقطير في صناعة الحلويات و مواد التجميل الطبيعية و المواد شبه الصيدلانية كذلك.

عرفت عملية تقطير الورد والزهر،  في السنوات الأخيرة انتعاشا كبيرا بولاية قسنطينة خصوصا بعد ظهور مهرجان « تقطير الورد والزهر» المكرس منذ 2015، و الذي أعطى لهذه العملية قيمة أكبر، بفضل الحركية الاقتصادية التي ترافقه و تستمر طوال موسم ينطلق مطلع أفريل و يستمر إلى نهاية ماي و بداية جوان، إذ تتميز الفترة بجو احتفالي كرنفالي مع برمجة فعاليات مرافقة في الهياكل الثقافية، تحتضن بالأساس عشرات الحرفيين طوال الموسم فيما ينشط العشرات أيضا انطلاقا من منازلهم و يسوقون منتجاتهم عبر الفضاء الالكتروني، الذي فتح أبواب أوسع لتنويع المنتجات و ضمان زبائن لها على المستوى الوطني وأبعد من ذلك أحيانا.
الطريقة التقليدية ضمان جودة الماء المعطر
ويؤكد حرفيون، بأن  التقطير على الطريقة التقليدية مع اتباع كل التعليمات بحذافيرها، يضمن جودة الماء المقطر و بالتالي جودة المنتج الذي يستخدم فيه مستخلص الورد أو الزهر أو غيرها من الأعشاب ذات الاستعمالات الصحية والغذائية و التجميلية.
 تكون البداية حسب السيدة ساندرا حرفية في المجال، بتحضير الموقد وتثبيت قطار النحاس التقليدي، توضع الزهور في الجزء السفلي منه ويسمى «الطنجرة» ويعمل القطار وفق طريقة تبخير ذكية تسمح بالحصول على ماء مقطر معطر طبيعيا  يتم حفظه في قارورة محكمة الغلق تعرف بـ «المقفلة» تسمح ببقائه صالحا للاستعمال لأطول مدة ممكنة.
وتتم خلال عملية تقطير الورد والزهر مراقبة الماء العلوي باستمرار لضمان برودته أو حتى تغييره إن تطلب الأمر، حفاظا على النبات من التلف بفعل الحرارة، وهي عملية تستهلك جهدا وصبرا ويوماً كاملاً تقريبا.


التقطير شعبة منتجة فلاحيا اقتصاديا
يرى أستاذ التكوين المهني و عضو الاتحاد العربي للطهاة أكرم رسيم باي، وهو واحد من أبناء قسنطينة المهتمين بالتراث، بأن نشاط التقطير أخذ بعدا اقتصاديا مهما في السنوات الأخيرة و خرج نسبيا من الإطار التقليدي الضيق إلى مساحة أوسع للنشاط، بفضل الفعاليات التجارية التي تصاحب موسم التقطير في الولاية، وهو أمر ينعكس إيجابا على وضعية الحرفيين و على أصحاب المشاتل و المزارع و منتجي الزهور والورود عموما، خصوصا وأن إنتاجها قليل حاليا مع تراجع المساحات التي كانت تتوفر عليها مناطق شهيرة كحامة بوزيان، ولذلك فإن  توفر الزهور و زيادة الطلب على الماء المقطر و منتجاته يشجع المزارعين على العودة للنشاط و توفير المادة الأولية، وهو ما يساعد على التحكم في السعر مستقبلا.
وأكد المتحدث، أن بريق حرفة تقطير الورد بقسنطينة، لم يخفت أبدا وهذا راجع إلى توارث المهنة عبر الأجيال، بدليل إقبال شباب وشابات من مختلف الأعمار على تعلمها، مضيفا أن تقطير الورد في قسنطينة تراث ثقافي تقام له طقوس خاصة مستمدة من تقاليد عريقة، أهمها مهرجان تقطير الورد والزهر الذي ينظم شهر ماي من كل سنة.
وذكر، أن ماء الورد المقطر تقليديا لغرض الاستعمال الخاص، يتفوق من ناحية الجودة على الماء الصناعي أو التجاري الذي يباع في المعارض سواء من ناحية تركيز المنتج، أو طريقة استخلاصه، إذ يقطر تجار 25 لترا من ماء الورد في غضون ساعتين من خلال مضاعفة كمية الماء، في حين يتطلب تقطير لتر واحد من ماء الورد الأصلي المركز أكثر من 6 ساعات كاملة.
وأضاف، أن هناك  ولايات أخرى تشتهر بتقطير الورد والزهر في موسم الربيع  و هي تلمسان و البليدة و عنابة، لكن تبقى قسنطينة المنطقة الوحيدة التي تنتج النوعين في نفس الوقت بسبب طبيعة مناخها المناسب، مشيرا  إلى أن هذه العادة الربيعية أندلسية الأصل، وقد انتشرت في الجزائر مع هجرة الأندلسيين.
وعن سبب ولوج عدد كبير من الحرفيين لمجال تقطير وبيع الورد والزهر في الآونة الأخيرة، قال إن ذلك متعلق بكثرة الطلب على الماء المقطر متعدد الاستخدامات و على المنتجات ذات الصلة.
عيد الحرفيين
يبدأ الموسم حسب رئيسة جمعية زهرة المدائن سمية خلف الله، بتقطير الزهر أولا في شهر أفريل، ثم ماء الورد في شهر ماي، وقالت بأن هذا التقليد له أبعاد اقتصادية الآن، لأن التقطير يعد اليوم مصدر دخل عائلات بأكملها تعتمد على المهرجانات والمعارض، التي تتيح فرصة التسويق والاحتكاك بالزبائن.
والدليل على توسع نشاط تقطير الزهر والورد في فصل الربيع، بحسب المتحدثة هو كثرة المعارض بوسط المدينة لبيع الماء المقطر من الزهر والورد و نباتات النعناع واللافندر والعطرشة.
وقالت، بأن الإقبال على ماء الورد والزهر، لم يعد يقتصر على زبائن يقتنونه من أجل استهلاكه منزليا، بل يطلبه أيضا صيادلة وخبراء تجميل لأجل صناعة منتجات شبه صيدلانية وتجميلية، مضيفة بأن  ماء الورد والزهر المقطرين، من المنتجات الحرفية التي يشتريها الأجانب أيضا، وقد وقفت على ذلك خلال مشاركتها في معارض دولية قائلة، بأن من يتذوق حلوياتنا التقليدية، ينبهر بمزيج الذوق و رائحة الورد  والزهر.
ويعد استخدام ماء الزهر والورد المقطر بحسب خلف الله، من العادات الشعبية السائدة  بقسنطينة، لأنه يدخل في عملية الطبخ لتعزيز مذاق الحلويات التقليدية مثل البقلاوة و المقرود، كما يستخدم في تزيين مجالس القهوة والشاي عند استقبال الضيوف أو في الأعراس.
وتتطلب عملية التقطير تضيف رئيسة الجمعية، صبرا كبيرا لأن الكمية المستخلصة تكون قليلة وتستغرق وقتا طويلا، وتسمى أول كمية بـ«رأس القطار»، وهي مفيدة جدا ومركزة، وثمنها يكون أغلى بكثير من الكميات الأخرى، وعادة ما يتم الاحتفاظ بها للاستعمال في المناسبات العائلية الخاصة ولإعداد حلويات الأعراس والأعياد.
يستخدم بكثرة
في الصناعة التجميلة
 من جانبها أضافت المختصة في صناعة الصابون والكريمات الطبيعية، السيدة فتيحة، بأن للصناعة التجميلية علاقة مباشرة بماء الورد، حيث تحتوي أغلب المنتجات التجميلية على مستخلص الورد، لفوائده العديدة على البشرة فهو يمنحها النعومة و الإشراق.
وقالت، إنها تقتني خلال كل موسم تقطير كمية من ماء الورد لاستخدامها في صناعة منتجاتها، مؤكدة بأن معارض شهر التراث التي تشارك فيها  سنويا، تتيح لها الفرصة للتعريف بمنتوجاتها، وأكدت أن الزبائن يميلون أكثر إلى المستحضرات المصنوعة بماء الورد لرائحتها وفوائدها.
وأكدت، أن هذه المعارض ساهمت في رفع الوعي بأهمية العودة إلى الطبيعة وهو ما يعكس الإقبال المتزايد على المنتجات المصنعة بمستخلصات الزهور والأعشاب العطرية.
طلب كبير من الصيادلة على الورد المقطر
من جانبها، قالت ابنة بلدية الحامة الحرفية مفيدة لوصيف، إنها تعتمد على وسائل ورثتها على عائلتها التي تحترف التقطير، و أشارت إلى الطقوس والعادات المرتبطة بهذه العادة مثل تغطية أوراق الورد والزهر بعد جمعها من الأشجار بقماش أبيض لمنع الحسد والعين، بالإضافة إلى صنع الحلويات التقليدية من أولى قطرات ماء الزهور وتحديدا «الطمينة البيضاء» المصنوعة من السميد والزبدة والعسل.


ومن بين العادات المتوارثة كذلك، تعطير المنزل بمستخلص ماء الزهر المعروف محليا باسم « الجر» حيث يوضع في مختلف أركان البيت مع استخدام البخور والعنبر ، إلى جانب إشعال الشموع ووضع كمية من السكر على حواف الموقد الذي تتم عليه عملية التقطير باعتباره «فأل خير»، وكلها تفاصيل للتعبير عن الاحتفال.
وأوضحت المتحدثة، أن ماء الورد بات يستخدم بكثرة في المجال الطبي  حيث تحضر بنفسها كميات كبيرة منه، وتبيعها لصيادلة يوجهون هذا المنتج التقليدي لصناعة مستحضرات علاجية لمشاكل جلدية وأخرى تخص العيون.
مجال مربــــح
أما الحرفية مروة فقالت للنصر، إنها اقتحمت مجال تقطير الورد  منذ سنتين، و تمكنت  بعد مرور أشهر قليلة  من مضاعفة عدد زبائنها المهتمين  بماء الورد، واصفة إياه بالنشاط المربح،  مشيرة إلى أن الحرفة كانت فيما مضى مهددة بالاندثار، ولكنها سجلت عودة قوية في السنوات الأخيرة بفضل المهرجان السنوي، وأصبحت تكتسي طابعا تجاريا.
تطرقت الحرفية زهية من جهتها، إلى التداخل بين البعدين الثقافي والاقتصادي لعملية التقطير، وكيف أن الموسم يسمح بالاحتفال بالعادات والتقاليد و يجمع بين الجانبين الفني و التجاري، عن طريق الفعاليات الفنية التي ترافق الموسم و تستمر طواله، و تنظم جنبا إلى جنب مع المعارض الحرفية التي تعد فرصة مهمة للحرفيين على اختلافهم خصوصا من تتداخل نشاطاتهم، فحرفة صناعة الحلويات لا تكتمل دون تقطير الورد والزهر و كذلك الأمر بالنسبة لصناعة مواد التجميل.
 وأوضحت زهية، أن الدورات التدريبية التي يشرف عليها أساتذة وحرفيون مختصون في تقطير الورد، شجعت العديد من الشباب على اقتحام المجال الذي وصفته بالواعد للتخلص من شبح البطالة من جهة        والحفاظ على تقاليدنا الأصيلة من جهة أخرى.                           لينة دلول

الرجوع إلى الأعلى