تشكل أغنية  "من زينو نهار اليوم صحة عيدكم" للراحل عبد الكريم  دالي، رمزا من رموز الهوية الموسيقية الجزائرية و الموسيقى الكلاسيكية الأندلسية عموما، تحولت إلى ما يشبه النشيد، فحضورها في كل عيد وسماعها عبر الأثير أو مشاهدتها في قنوات التليفزيون، تعبير عن الفرح و عادة مكرسة منذ ستين سنة كاملة في بيوت جزائريين، يحفظون كلماتها و ينتشون بروعة اللحن.

لينة دلول

دالـــي الجـزائـــــر
"من زينو نهار اليوم صحة عيدكم ... من زينو نهار اليوم مبروك عيدكم مبروك عيدنا و فرحنا ...مع لحباب جمعنا... و إن شاء الله ربي يخلينا فارحين كل يوم.. "  كلمات تحفظها القلوب قبل الآذان وتختزنها ذاكرة الجزائريين بالصوت والصورة، منذ أكثر من 60 سنة، أي منذ قدمها الشيخ عبد الكريم دالي أول مرة سنة 1952احتفالا بعيد الفطر، حيث كتبها و لحنها بنفسه، لتصبح عنوانا يختزل مساره الفني الحافل.
ويعتبر صاحب الأغنية الشيخ دالي كما يعرف، من أعمدة الفن الأندلسي  ولد بتلمسان سنة 1914، و دخل المجال الموسيقى مع عبد السلام بن صاري وهو مؤد للمديح ضمه إلى جوقته كناقر على آلة الدربوكة في بداياته، ثم  تتلمذ بعد ذلك على يد الشيخ دالي يحيى، والتحق بعدها كناقر على آلة الدربوكة بجوق الشيخ عمر البخشي، الذي أصبح بمثابة الأب الثاني لعبد الكريم دالي.
 الراحل واحد من بين أشهر فناني الجزائر خاصة في فن "الحوزي"، عُرف عنه ولعه بالعملاقين العربيين الراحلين أم كلثوم و محمد عبد الوهاب، لكن ورغم حبه للموسيقى المشرقية والطرب تحديدا، إلا أنه اختار فن الحوزي الجزائري الأصيل، وترك إرثا من مئات الأغاني الرائعة.
سحـــر الأبيــض والأســـود
سنوات طويلة مضت بعد رحيل الفنان، لكن ذكراه ظلت حاضرة في الأذهان، حيث تعود مع كل عيد بفضل أغنيته الشهيرة التي تميز فيها صوتا وأداء، ورغم عشرات بل ومئات الأغاني التي أنتجت على مر العقود الماضية من قبل أجيال من الفنانين، إلا أن أغنيته لا تزال متصدرة و لحنا رسميا لفرحة العيد، يسكن الذائقة و يعبر الأزمة و يناسب كل الأذواق، حيث يمنح سماعها شعورا بالألفة و ترتبط كلماتها برمزية العيد كمناسبة جميلة سعيدة للقاء و التفاؤل.
مواطنون سألناهم عن الأغنية قالوا، إن تلك النسخة الأصلية بالأبيض         والأسود التي تبث صباح العيد عبر القنوات تعد الأفضل على الإطلاق، رغم أن هناك عددا من الفنانين من أعاد أداء العمل أو أدى أغان مشابهة للعيد على غرار الفنان نوري كوفي، لكن مجال المنافسة كان مغلقا تماما فلا لحن واحد منها استطاع أن يبرز حتى أو يزيح "لحن الفرح" عن عرش أغاني العيد.
وحسب أنيسة معلمة في الطور الابتدائي، فإن أغنية "من زينو نهار اليوم" لا يمكن أن تستبدل لأنها عنوان لبهجة العيد، حتى أنها شبعتها بصافرة البداية، فعندما ينطلق اللحن عبر الإذاعة والتلفزيون يمكن القول بأن العيد قد حل، أما السبب فهو أنه لحن عبقري لا يمل ولا يتقادم كما أن الكلمات جميلة و متناسبة و مناسبة جدا للمناسبات الاجتماعية والدينية.
لحــن الذكريـــــات
وقالت السيدة رشا، البالغة من العمر 52 سنة، بأنها  كبرت على  صوت الشيخ عبد الكريم  دالي، الذي لطالما رافقت  أغانيه  المناسبات الدينية وقالت إنها متعلقة بأغنية "من زينو نهار اليوم"، ليس لجمال اللحن والكلمات فقط، بل لأن كل نوتة تنفجر في رأسها كبالون زاهي من ذكريات الطفولة والشباب في بيت العائلة الكبيرة، فالأغنية حسبها رافقت أجيالا.
من جهتها أوضحت ريم، بأنها تحمل الكثير من ذكريات العيد المرتبطة بالأغنية، حيث اعتادت وهي شابة أن تجلس أمام التلفاز صباح العيد، قبالة صينية "يزينها المقرود و خبز الدار وتعبق برائحة القهوة وماء الزهر"، لتناول فطورها على أنغام " من يزينو نهار اليوم" وهي عادة لا تزال تحتفظ بها إلى اليوم و هي أم لطفلين.
واعتبر الشاب فارس، أن أغنية عبد الكريم دالي، هي الشيء الوحيد الذي يجعله يشعره ببهجة العيد  وصفاء القلوب الذي عهده منذ طفولته، قبل أن  تؤثر التكنولوجيا على العلاقات الاجتماعية  وتكرس العزلة، مؤكدا أن أفراد عائلته يجتمعون صباحا  على طاولة  الإفطار، ويشغلون التلفاز  من أجل الاستماع  إلى الأغنية الخالدة التي تحمل  كلماتها الكثير من المعاني النبيلة.
وتعتبر لمياء شابة مقيمة بفرنسا منذ عشر سنوات، أغنية "من زينو نهار اليوم"، جزءا من أجواء العيد الأساسية، فبعد أن تقوم بمعايدة أهلها عن طريق مكالمات الفيديو، تقوم بتشغيلها على اليوتيوب، أو تبحث عنها في القنوات التلفزيونية الجزائرية عبر الساتل، لتحتسي فنجان القهوة على أنغامها وتستذكر أيام العيد التي كانت تقضيها مع عائلتها في الوطن.
 وأكد لطفي تاجر ملابس، بأن الأغنية تثير في نفسه الشجن وتسيل دموعه أحيانا، لأنها تذكره بطفولته عندما  كان يذهب هو وشقيقه التوأم الذي رحل عن الدنيا منذ 8 سنوات، لمعايدة  الأهل، وكانت الأغنية تنبعث من الشاشات كنشيد رسمي للعيد في الجزائر.
تتصدر مواقع التواصل الاجتماعي  في أول أيام العيد
تتصدر الأغنية مواقع التواصل الاجتماعي أيام العيد منذ سنوات، وتلفت انتباه المستخدمين في أول يوم تحديدا، حيث  يتداول الرواد مقاطع من الأغنية مع صورهم  وفيديوهاتهم الخاصة والعائلية،  للتعبير عن بهجة اليوم السعيد، كما تنهال التعليقات على الصفحات التي تنشر مقطع الأغنية مشبعة بنوستالجيا الزمن الجميل. ومن بين الردود الإيجابية التي شدتنا عند قراءتنا لبعض  التعليقات "مهما توالت الأجيال وزادت الأعمار تبقى هذه الأغنية راسخة في  الأذهان وبها يكتمل العيد"، وكتب آخر "بدون هذه الأغنية  لا أشعر   بأجواء العيد"، وجاء في تعليق لشابة " الزلابية في رمضان، وأغنية عبد الكريم دالي في العيد".
بالإضافة إلى تعليقات من قبيل "أجمل أغنية مهما كبرنا ومرت السنين   تبقى أغنية العيد المفضلة " وأيضا "مهما كبرنا تظل هذه الأغنية رمزا للعيد في الجزائر و وبدونها لا طعم  له شكرا لملحنها".  


ســر نوبــة الرمـل مايــة
وكانت وهيبة دالي، حفيدة الراحل عبد الكريم دالي، قد صرحت فيما مضى خلال مقابلة سابقة مع النصر، " بأنّ سماع أغنية مزينو نهار اليوم صح عيدكم، كل صباح عيد في الجزائر يعتبر فخرا وشرفا لعائلة الفنان الراحل، معتبرة إياها رمزا مهما  تربى عليه الجزائريون."
كما أكدت " أن الراحل ترك بصمته الفنية للذاكرة بالأسود والأبيض والدليل على نجاحها إعادة غنائها من قبل فنانين آخرين"، مضيفة بالقول   " لم يمت ولا يزال باقيا في أذهان الجزائريين وموروثه الثقافي حاضر في البلد".  حسب فنان موسيقى المالوف أمين بوناح، فإن أغنية  "من زينو  نهار اليوم" للراحل عبد الكريم دالي، تندرج ضمن الطابع الموسيقي الحوزي أحد الأنماط الرئيسية للموسيقى الأندلسية المعروفة في تلمسان وقسنطينة، وقد أداها على شكل نوبة الرمل ماية.وأكد الفنان، أن الأغنية صارت نشيدا رسميا  للعيد، وما يزال تأثيرها على المجتمع قويا، بدليل إعادة أدائها من طرف فنانين آخرين، وأضاف بوناح، أن الأغنية أصبحت تشكل رمزا من رموز المجتمع الجزائري في العيد، ولا يمكن أن يطالها التغيير، كما صارت رمزا من رموز الهوية الموسيقية الجزائرية، والموسيقى الكلاسيكية الأندلسية الجزائرية لأنها مستوحاة من هذا النوع.
وأرجع، سر تعلق الجزائريين بهذه الأغنية إلى إيقاعها الموسيقى  وبساطة  لحنها و براعة أداء الفنان الراحل الذي يأسر القلوب بعد سماع أول مقطع، ما جعلها لحنا راسخا بل خالدا في الذاكرة الجماعية لأكثر من جيل.
تحمل العديد من المعاني النبيلة
من جهته، أوضح الباحث في تراث الملحون وعروضه وشاعر في الملحون، عبد الجليل درويش، أن الراحل عبد الكريم دالي، ألف وكتب الأغنية قبل الاستقلال، وكان من الفنانين السباقين الذين بادروا إلى هذا النوع من الأغاني المرتبطة بالعيد، وذلك لأن الشعراء القدامى لم يكتبوا في هذا الغرض، بل كانوا يلمحون فقط في قصائدهم للعيد، مشيرا إلى الأغراض التي كتب عنها الشعراء و المتعلقة برمضان على غرار مدح الرسول فيما يعرف بالربيعيات.وقال المتحدث، إن من بين أسباب رواج الأغنية على مدى عقود من الزمن، الإعلام الذي أعطى الفرصة لعبد الكريم دالي، لتقديم أغنيته عبر   أمواج الأثير وفي القنوات التليفزيونية، وذلك بفضل تلحينه المميز ونصه الجيد، ما جعل  عددا كبيرا من المعاصرين يعجزون عن منافسته، وإزاحة أغنيته عن صدارة أغاني العيد. وأضاف أن الأغنية تحمل العديد من المعاني  النبيلة في طياتها،  وتشجع على صلة الرحم، وإسعاد اليتيم، من خلال بعض المقاطع التي تبين ذلك على غرار " يسعد من يفرح ليتيم"، كما أشار إلى بعض المدن وخصوصياتها على سبيل المثال وصف أهل الصحراء بالكرم والشجاعة،  وأن الجزائر بلاد الخيرات من مشرقها إلى مغربها.  وأضاف المتحدث، أن ترديد الأغنية أو مقاطع منها أول أيام العيد، طقس مكرس بين جزائريين، كبروا على صوت الفنان منذ أكثر 60 سنة، مما جعل الأغنية خالدة في الذاكرة.

الرجوع إلى الأعلى