تحولت مواقع التواصل الاجتماعي في الآونة الأخيرة إلى بيئة سلبية بدرجة كبيرة،  فالسعي لتحقيق الانتشار و التأثير « البوز»، كرس فكرة الغاية تبرر الوسيلة، وأباح الاعتداء على الخصوصية و نشر المحتوى المسيء ، حتى وأن تطلب ذلك فبركة صور أشخاص و المساس بشرفهم، عن طريق نشر أمور شخصية أو تسريب فيديوهات فاضحة، وكل ذلك من أجل مضاعفة عدد المستخدمين و زيادة التفاعل مع المنشورات، بغرض رفع قيمة قناة يوتيوب أو صفحة فايسبوك أو حساب انستغرام ، طمعا في الحصول على الإشهار التجاري، وبالتالي تحقيق ربح مادي سهل وسريع.
الإثارة سوق يستهوي صفحات فايسبوك و قنوات الإعلام
كثيرا ما نصطدم و نحن نبحر عبر الإنترنت، بعبارات تتعمد الإثارة والتهويل، من قبيل شاهد فضيحة فلان أو فلانة،  اضغط هنا لترى صورة صادمة للممثل أو اللاعب،  شاهد فيديو الحادثة الفلانية، وقد لا نكون مهتمين في العادة بهذا النوع من المحتوى، لكن مواقع التواصل تقترحه علينا بطريقة أو بأخرى، لأن هذه القصص تحقق الرواج أو ما يعرف في قاموس التكنولوجيا الحديثة ب» البوز أو التوندونس أو الترند» و تحقق غالبا ملايين المشاهدات في وقت قصير، و لعل الصور المفبركة و الفيديوهات الفاضحة، تعد أكثر هذه المواد انتشارا ، خصوصا على موقع فايسبوك الذي يتسم بالسلبية بشكل كبير، و الملاحظ أن هذا المحتوى هو أكثر ما يثير اهتمام الكثير من الجزائريين، على اختلاف أعمارهم و مستوياتهم الثقافية، بدليل أننا نجد مادة مماثلة على صفحات و حسابات فنانين و إعلاميين و أساتذة جامعيين و أطباء و غيرهم.
 من جانبهم يشتكي صناع محتوى و مؤثرون جادون، في كل مرة من ضعف التفاعل مع المادة الإيجابية والبناءة التي ينشرونها، مقابل سرعة انتشار المحتوى الهابط، بدليل أن فيديو الممثلة    بشرى عقبي مثلا، حقق في ظرف ساعة واحدة 25 ألف مشاهدة، كما تم تداوله بشكل كبير، قبل أن يتم حذفه، كما أن قصتها رغم كونها تعد على الخصوصية ، صنعت الحدث على مواقع التواصل الاجتماعي، و سيطرت على فوائد الترند على فيسبوك و انستغرام ، كما دخلت الترند على تويتر.
 أما أسوأ ما في الأمر، فهو التأثير السلبي لما يتم تداوله عبر هذه المواقع، على الإعلام، فالرغبة في مواكبة الحدث و شد اهتمام المشاهدين، دفع ببعض القنوات إلى الاستثمار في قضايا مماثلة، حتى أن إحدى القنوات الجزائرية الخاصة، نشرت القصة عبر شريط أخبارها اليومي، كما أنه منحى باتت تسلكه حتى القنوات الإعلامية الكبرى، بدليل التداول الكبير لصور وفيديوهات     « معتدي المعادي في مصر» فتحولت إلى مادة إعلامية هامة عبر عديد القنوات العربية.
* محمد الأمين ميزو مؤثر و خبير في التسويق: « البوز» وسيلة لرفع عدد المتابعين و الحصول على الإشهار


يعود السبب وراء الاهتمام الكبير بصناعة الإثارة ، أو ما يعرف بـ  «البوز»، على مواقع التواصل الاجتماعي، حسب صانع المحتوى و المختص في مجال التسويق الالكتروني محمد الأمين ميزو، إلى عوامل تجارية محضة، فكلما زاد عدد متابعي الصفحات و الحسابات التي تروج له، كلما زادت أهميتها، وبالتالي  تضاعفت فرصها في الحصول على الإشهار التجاري، موضحا بأنه في ما يتعلق بيوتيوب، فإن هناك أيضا عائدا ماديا معينا، يمكن لصاحب القناة التي تبثه، أن يجنيه عن كل ألف مشاهدة إضافية، بعد تسجيل أول 10 آلاف متابعة، وهو مبلغ يقدر  بحوالي 1700دج عموما عن المشاهد الجزائري، ويصل حتى 5000 إلى 7000دج، في حال كان المشاهدون من قارات أوروبا و آسيا، لأن هؤلاء أكثر أهمية بالنسبة لشركات الدعاية التي  تبث إعلاناتها عبر قنوات يوتيوب ، أما السبب فهو استعداد هؤلاء الزبائن لابتياع المنتج و قدرتهم على الدفع إلكترونيا، وكلها معطيات يتم تحليلها عن طريق خوارزميات متخصصة، تأخذ بعين الاعتبار مدة مشاهدة الإعلان و مدى اهتمام المشاهد به.
هكذا تساعد خوارزميات مواقع التواصل على انتشار المحتوى المثير
أوضح المتحدث، بأن انتشار المحتوى المثير و الباعث على الجدل عبر مواقع التواصل الجزائري، يعود بالدرجة الأولى إلى نوعية اهتمامات المستخدمين، فهناك خوارزميات  مسؤولة عن التقاط المادة الأكثر انتشارا و تفاعلا عبر الشبكة « توندوس» أو «ترند»، و هي مهيأة آليا لإبراز المحتوى الأكثر تداولا أو الأكثر بحثا عبر محركات البحث على اختلافها، بمعنى أن العملية تخضع لنظم تعتمد على «كلمات مفتاحية»  يكفي كتابتها أو على الأقل كتابة ما يشير إلى المحتوى الرائج،  حتى يقترح عليك يوتيوب مثلا، الفيديو أو الصور محل الجدل، لذلك تعمد الصفحات التي تروج لهذا النوع من المادة، إلى نشر الفضائح مثلا أو الصور المفبركة مع استخدام مفرط للكلمات المفتاحية و تداول هاشتاغ سريع الانتشار، ناهيك عن اهتمام أصحابها برفع نسبتي التفاعل و المشاركة، لأن ذلك ضروري لإبراز المحتوى المذكور و تسريع انتشاره، ما يضاعف عدد متابعيها و مشتركيها، وهو سلوك شائع جدا على صفحات فايسبوك، باعتباره بيئة سلبية مقارنة بانستغرام، كما قال.
 المتحدث أوضح أيضا، بأن للعملية جانبا آخر، فشركات التواصل الاجتماعي تفرض على أصحاب الصفحات أو القنوات، مضاعفة عدد متابعيهم و المتفاعلين مع محتواهم، كشرط لرفع حصتهم من البث والتي لا تزيد في الغالب عن 3 بالمئة ، فإن لم يتمكنوا من ذلك، فإنهم سيكونون مجبرين على الدفع للحصول على التمويل الكافي  « سبونسور»، لزيادة انتشار القناة أو الصفحة.


 من جانبه قال،  رامي زموشي، صاحب قناة « تيك أوب  تشانل» بأن هناك جانبا تقنيا  مسؤولا عن انتشار محتوى معين، دون غيره، و هو تحديدا ما يحقق « البوز» أو الرواج و يصنع الإثارة و الجدل،  فهناك لوغريتمات في مواقع التواصل الاجتماعي، تساعد على تداول المحتوى الشائع بكثرة، بحيث تعمل على تحليل تفاعل المستخدمين عبر الشبكة، و  تقترح هذه المادة على المستخدمين بطريقة آلية، حتى و إن لم يبحثوا عنها، إذ يكفي أن تدخل في إطار اهتمامات صديق مشترك على موقع التواصل، فترتفع قيمتها و تصبح أكثر تداولا، خصوصا إذا  كثر التفاعل معها و زادت التعليقات عليها.
علما أن الأمر قد يشمل أيضا  المحتوى الإيجابي و الهادف، فالتفاعل مع الصورة أو الفيديو، هو ما يدفع فايسبوك أو يوتيوب، إلى تصنيف المحتوى على أنه مهم أو ذو معنى عاطفي، كما يتفق الخبير في المعلوماتية مع المؤثر محمد الأمين ميزو، في الجانب المتعلق بنفسية المجتمع و نوعية اهتماماته، مؤكدا بأن انتشار المحتوى المثير و كونه أكثر ما يصنع الحدث على مواقع التواصل الجزائرية، هو أمر مرتبط بنوعية اهتمامات المواطن و مستوى تفكيره.
* البروفيسور بوقشور محمد أستاذ علم الاجتماع بجامعة سطيف 2 : الخواء الروحي و الفساد الأخلاقي يؤديان إلى الاعتداء على خصوصية الغير


  يرى البروفيسور محمد بوقشور، أستاذ علم الاجتماع بجامعة سطيف2، أنه لا يمكن فهم و تفسير ظاهرة انتشار المحتوى المثير والمسيء على مواقع التواصل الاجتماعي، إلى جانب الميل إلى التهويل و الاستثمار في مصطلح الفضيحة، ناهيك عن التعدي على الخصوصية و عدم احترام الآخر،  بمعزل عن العلاقة التاريخية والبائسة بين من ينتج التكنولوجيا ويجيد تسويقها، ومن يشتريها ويسيء توظيفها، كما عبر.
الأمر يتعلق هنا بالدول الرأسمالية القوية والمتوحشة، التي استطاعت أن تكرس تبعية الدول المتخلفة لها، وجعلت منها سوقا لأسوأ منتجاتها، وحتى يستمر هذا الوضع، فإنها كانت ولا تزال تستفيد من التطور الكبير و المتسارع الذي أحرزته في مجال تكنولوجيات وسائل الاتصال الحديثة،  لتخدير العقول و استمرارية  التخلف، بزرع اليأس والإحباط وإفساد الأخلاق في أوساط المجتمعات المستهدفة.
  لكن هذا لا يعفينا كدولة وكمجتمع، من مسؤولية فشلنا في الحد من تفشي الظاهرة، خصوصا أننا لا نزال نفتقر لمشروع ثقافي وتربوي وطني واضح المعالم والأهداف، يحصن الأجيال ويتصدى لتيارات العولمة الثقافية الجارفة، والتي هي في جوهرها فعل اغتصاب ثقافي، يستهدف الخصوصيات السوسيوـ ثقافية للمجتمعات، ويتحكم في اتجاهات وسلوكات أفرادها ويغذي شعورهم بالنقص ويديم انبهارهم بالحضارة الغربية ، ناهيك عن غياب مجتمع مدني فعلي وفعال، ترتكز الدولة على تنظيماته وجمعياته لتعبئة المجتمع قي محاربة الفساد بكل أشكاله.
ومن الأسباب التي ذكرها الباحث كذلك، غياب إستراتيجية وطنية للتكفل بمختلف الحالات التي تعاني من صدمات العشرية السوداء، و انعدام إستراتيجية فعالة لمكافحة الإدمان بمختلف أشكاله، زيادة على عدم ترقية الفضاء العمومي، وسوء تسيير أوقات الفراغ لفئة الشباب، لا سيما البطالين منهم، إضافة إلى إخفاق مؤسسات التنشئة الاجتماعية ( الأسرة، المدرسة، وسائل الإعلام، المؤسسات الثقافية والدينية..) في تحصين بعض فئات المجتمع، ضد هذه السلوكات المنحرفة والمرفوضة اجتماعيا.
و يرجع البروفيسور بوقشور، ميل البعض إلى التعدي على خصوصيات الغير وعدم احترام حريتهم، إلى  الخواء الروحي و الفساد الأخلاقي، والإفلاس الثقافي، الناتج عن خلل كبير في بنية العقل، لذلك فعلاقته بمؤسسات التنشئة الاجتماعية واضحة، وهو يعبر بوضوح عن اخفاقها في تنشئة الأجيال على القيم الصحيحة، التي ترتكز بالأساس على الانخراط الطوعي في كل مساعي إنتاج المواطن الإيجابي، و احترام الآخر المختلف، وعدم الاعتداء على حريته وخصوصيته.
المتحدث أشار أيضا، إلى أن اهتمام هؤلاء بالقضايا الهامشية والمستهلكة وانحدار مستواهم الثقافي وضعف وعيهم، نتيجة منطقية للعوامل التاريخية والخارجية التي تسببت في تخلف مجتمعنا و أخرت تحرره من قيود التبعية.
* أستاذ الإعلام بجامعة الجزائر نصر الدين العياضي: مواقع التواصل حلت محل الصحافة الصفراء


يعتبر أستاذ الإعلام و الاتصال بجامعة الجزائر3، نصر الدين العياضي، بأن ما يحصل عبر مواقع التواصل الاجتماعي من سعي نحو معرفة أخبار الناس و تداول للفضائح و استثمار في الإثارة، اتجاه كوني حسب بعض الباحثين،  مضيفا بأن مواقع التواصل بوجهها الحالي ما هي إلا نموذج إلكتروني عن الصحافة الصفراء التي عرفناها في بداية التسعينيات، والتي كانت تروج للنفاق الاجتماعي و تستثمر في المآسي الاجتماعية، فنجدها تؤكد على البعد الديني للمجتمع و ترافع لأجل الأخلاق في الصفحة الأولى، ثم تمطر باقي الصفحات بأخبار الفضائح و غيرها من القصص المثيرة.
و أشار إلى أن الصحف الصفراء بمفهومها العام تعد نموذجا شائعا عالميا، لكن الخصوصية الجزائرية تبقى الأسوأ، ففي كل الدول استطاع هذا النوع من الإعلام بطريقة ما، أن يرفع من المستوى المعرفي للأفراد و  تزيد ثقافتهم في مجالات القانون و علم النفس و الاقتصاد و غيرها لكن في الجزائر نتجه أكثر نحو تسطيح الوعي و تعمد التجهيل كما عبر.
 و قال الباحث في الإعلام بأن نسبة كبيرة مما ينشر في المواقع، مستوحى من وسائل الإعلام التقليدية، فالمستخدمون لفايسبوك و غيره من المنصات، يأخذون القصة الخبرية أو المعلومة من الإعلام و يعيدون نشرها، لكن نوعية التفاعل عبر هذه الفضاء الافتراضي تضخم الأمور، كما تعطيها التعليقات أبعادا أخرى، مضيفا بأن مواقع التواصل ليست جمعيات خيرية، بل هي منصات تحقق ربحها من خلال التفاعل و الإعلانات، و لذلك فإنها تشجع في الغالب هذا النوع من المنشورات، بدليل أن شركة فايسبوك كانت قد قررت سنة2017، تقليص المحتوى الإعلامي الرسمي و تكريس المادة الشخصية لجمع أكبر عدد من المعلومات عن المستخدمين و بيعها لشركات التسويق.
 و أضاف الأستاذ لعياضي، بأن حقيقة تعاطي الإعلام مع بعض المحتويات المثيرة التي تنتثر عبر مواقع التواصل الاجتماعي، مردها النكسة التي يعيشها القطاع،  فنحن إلى غاية اليوم لم نتمكن، حسبه، من بناء منظومة إعلامية وطنية جادة، بل هي مجرد محاولات فاشلة للخروج من العباءة الرسمية، لذلك فإن ما وصف بالانفتاح الإعلامي في الجزائر كان مجرد إجهاض لمحاولة التحرر من الطابع الدعائي، وذلك بسبب عجز الصحفيين على البحث عن الخبر و إيجاده، ناهيك عن أن معظم وسائل الإعلام ولدت من رحم السمسرة و محاولات تصفية الحسابات.

هدى طابي

الرجوع إلى الأعلى