استحدث بمتحف الفنون و التعابير الثقافية التقليدية قصر الحاج أحمد باي قبل مدة، فضاء جديدا يحاكي بتفاصيله و ديكوراته مكونات « دار عرب»، أو البيت القسنطيني القديم حيث تعرف جدرانه المزينة بالزليج و زواياه المؤثثة بعناصر من الإرث المادي للمدينة، من خلال ما يتوفر عليه الفضاء من مفروشات تقليدية  و أوان قديمة للطهي و  التخزين،
و أدوات تخص الحرف اليدوية التي كانت تمارسها النساء، وهي  قطع معروضة بعناية في جناح «وسط الدار»  أين يمكن للزائر السفر عبر الزمن لما يزيد عن قرن كامل ليتعرف على جوانب من حياة أهل سيرتا خلال ما مضى من الأزمنة.

  أسماء بوقرن

جهز  الفضاء الجديد في القصر منذ قرابة تسعة أشهر، من قبل أعضاء جمعية أصدقاء المتحف الوطني سيرتا، بالتنسيق مع إدارة قصر الحاج أحمد باي، و ذلك في إطار فعاليات الطبعة الماضية من تظاهرة شهر التراث، بهدف إضفاء حلة جميلة على غرف القصر، تعبر عن هوية البيت القسنطيني. و اختير للفضاء جناح وسط الدار، الموجود في المقر الشتوي بالقصر، و الذي اكتسى ديكورا  تقليديا أصيلا   وزين بقطع و مستلزمات قديمة يزيد عمر بعضها عن 100 سنة، وضعت بطريقة فنية دقيقة لتجسد «قعدة العصر»، أو تلك الجلسة المسائية التي تجتمع خلالها سيدات الدار حول صينية القهوة، و تعد جزءا مهما من عادات أهل المدينة.
ديكور يرتبط بعادات اجتماعية

حسب إبراهيم لازري، أمين عام جمعية أصدقاء المتحف و أحد المهتمين بالحفاظ على تراث المدينة وتدوينه، فإن الفضاء هو معرض مفتوح على يوميات المرأة القسنطينية    و توثيق مادي للعادات المحلية المرتبطة ارتباطا مباشرا بدار عرب و ما تزخر به من تفاصيل، تعكس نمط الحياة و تترجم الثقافة السائدة، وهو أيضا الصدر الذي يحتضن جميع سكان المنزل، أين تتعزز العلاقة الاجتماعية و تقوى أكثر خصوصا بين سيدات الدار، اللواتي يجتمعن حول سينية قهوة العصر وسط ديكور تقليدي، تزينه ملابسهن و مفروشات الفتلة و تحف نحاسية مثل «  الوضاية» و  «الكفاتيرا» وهي أدوات كانت تستعمل للوضوء، فضلا عن تصميم البئر، الذي يوجد «في كل دار» كما قال لنا.
وأضاف المتحدث، أن النساء كن قديما و بعد تفرغهن من أشغال البيت، يغيرن ملابسهن و يرتدين قندورة من قماش القطيفة تكون مطرزة بالفتلة، لكن بطريقة أبسط بكثير من القندورة المخصصة للمناسبات، وهناك من كن يكتفين بارتداء قندورة من قماش الكتان، ليظهرن في أحسن حلة خاصة بعدما يتزين بالحلي.
تحضر كل واحدة منهن نوعا من الحلوى، و تقدم الطيبات من « غريبية و كعك و مقروض و طمينة اللوز و مقرقشات» خلال  القعدة التي لا تكتمل إلا  بتفاصيل صغيرة على الصينية مثل «مرش الزهر المقطر».
 تقضي النساء كما أضاف، فترة ما بعد العصر في تجاذب أطراف الحديث، و قراءة البوقالات أو الغناء على وقع دف إحداهن، وكلها عادات مرتبطة ارتباطا وثيقا بسينية العصر  و تعتبر شكلا من أشكال الترويح عن النفس آنذاك، ولذا فقد حاول  أعضاء الجمعية رسم صورة حية عن هذه العادة ذات الصلة بنمط الحياة في دار عرب.
صورة عن تنوّع الحرف اليدوية
داخل الغرفة المجهزة بشكل جميل، وجدنا قطعا قديمة جدا علمنا من مرافقنا، بأن بعضها يعود إلى قرن كامل من الزمن كانت كل قطعة موضوعة وفق تنظيم مدروس لتخدم الغرض منها، ففي زاوية من الزوايا جمعت أدوات  تخص حرفا يدوية كانت تمارسها النساء و الفتيات، على غرار السداية و المشطة و الحداية و القرداش، وكلها أدوات تستخدم في النسيج و صناعة الزرابي و غزل الصوف، و وضع في جانب آخر ما يعرف بـ «القرقاف» و هو إطار من الخشب مدعم بأربع ركائز، يستعمل للتطريز، كما تعرض في المكان آلة خياطة صنعت سنة 1908.
إرث مادي ثري  

يجد الزائر لفضاء دار عرب بالقصر، كثيرا من القطع الأخرى المختلفة، على غرار المطحنة و التقعيدة و طاولة تحضير التريدة و غيرها من معدات صناعة العجائن، وهي أشياء كانت تعتبر أساسية في البيت القسنطيني، و دليل على تنوع وثراء المطبخ المحلي، وحسب مرافقنا إبراهيم، فإن تجهيزات المطبخ كانت في السابق، بسيطة جدا مثل المجمرة أو الكانون المصنوع من الطين  أو»الريشو» و «البابور» الذي يتم إشعاله بواسطة محلول كحولي، فيما تتنوع أشكال قدور الطهي بتنوع الاستعمالات فنجد منها ما هو مخصص لطهي العجائن، و منها ما يخصص لتحضير «شربة الفريك» و غيرها.
 و تكون القدور فخارية بالعموم أما «الطنجرة» و «الطاجين» فمصنوعان من النحاس و مخصصان لتحضير أطباق أخرى، مثل « طاجين الحلو»  فيما كانت «الشقالة» تستخدم لحفظ مياه الشرب صيفا.
 أما تحضير القهوة فيمر بمراحل كما أوضح، بداية «بالتحميص»، وقد عرضت في الفضاء آلة يدوية مصنوعة من الحديد عمرها 90 سنة، كانت تستخدم لتحميص القهوة على الفحم، قبل طحنها بآلة أخرى، و تحضيرها في «الجزوة».
الزير لحفظ المؤونة

عرض أعضاء الجمعية، في ركن آخر من الغرفة وسائل  مخصصة لتخزين المؤونة، بينها « الزير» و هو إناء كبير جدا من الفخار يؤدي دور الثلاجة، يوضع في «الدكانة» التي تشير إلى ركن بارد من المنزل يتم اختياره خصيصا للحفاظ على محتويات الزير، تخزن في الزير بالعموم كمية من      « الخليع» أو اللحم المقدد، الذي يضاف إلى أطباق شعبية مثل العيش و البطاطا و المقرطفة.
و يستخدم  الزير حسب محدثنا، لتخزين السمن و حفظ الزيتون و الطماطم المصبرة و الفلفل «الطرشي»، أما «المطحنة» فهي آلة يدوية مصنوعة من الحجر تستعمل لطحن الحبوب «الفريك» و «القمح»، كما تستعمل «التقعيدة» لغربلة القمح و غيره، لأن النساء كن في السابق يحضرن معظم  طعام الأسرة في البيت، حيث يجهزن مؤونة لسنة كاملة تتشكل عادة، من العجائن مثل « الكسكس و المزيت و القريتلية و المجبور و الرشتة و المقرطفة و التريدة و الشخشوخة».
«السابة» و «المحبس» أساس حمام المرأة القسنطينية
يعد الحمام، جزءا مهما من يوميات المرأة القسنطينية، وقد خصص له ركن آخر سمي « غرفة الحمام»، جهز بمختلف المستلزمات التي تخص المرأة عموما و العروس القسنطينية على وجه التحديد، حيث نجد  «السابة» و هي سلة مصنوعة من الخيزران، مخصصة لجمع أغراض العروس من ألبسة و غيرها، كما نجد «المحبس» أين توضع مستلزمات الاستحمام، مثال «الطاسة النحاسية» و «صابون المسلمين» وهو نوع تحضره النسوة بمكونات بسيطة منها زيت الزيتون و اللوز ، زيادة على « الطفال» الذي يحضر فيه «الطفل» أو غسول الشعر المكون من الصلصال و المسك و الأعشاب المفيدة للشعر، و في المحبس يوضع كذلك « خزم» مصنوع بالقشرة و الصوف، و «المدّة» أو القارورة الخاصة «بالحرقوس» المصنوع من المسك و زيت اللوز و مكونات تمزج معا وتستعمل للتزين.
« الشبرلة و السبع قنادر»

ومن بين الأركان الأخرى التي نجدها في فضاء دار عرب بقصر الباي، ركن الأزياء التقليدية القسنطينية القديمة الأساسية في تصديرة العروس، و يتعلق الأمر بسبع قطع تختلف حسب اللون و التصميم و نوعية القماش و طريقة التطريز، و هي القندورة الوردي و القندورة البيضاء و القندورة الخضراء «الفريكي» و الشامسة و القندورة                « التبني» ذات اللون البني الفاتح «،  و قندورة القطيفة.  وقد كانت العروس كما قال المتحدث، تلبس هذه الأزياء في الأسبوع الأول من زفافها، و في الأفراح بعد ذلك ويكون ارتداؤها وفق ترتيب معين، بداية بالقندورة البيضاء ثم الزهرية، كما تعد الملاية رمزا من رموز المدينة ، وقد عرضت في الفضاء إلى جانب الفساتين، و قدمت حولها بطاقة تفصيلية تشير إلى تاريخها الذي يعود إلى دولة الفاطميين.
أما الشبرلة أو «البلغة» فهي حذاء أو نعل المرأة القسنطينية قديما، وقد عرضت في الفضاء قطعة عمرها  200 سنة  قال السيد إبراهيم، بأن القسنطينيين كانوا يلجأون إلى صانع الأحذية لطلب ما يناسب زوجاتهن و بناتهن، و يتخذون الشبر كوسيلة لتحديد مقاس رجل المرأة، لذلك سمي الحذاء  « بشبر لالة»، لتختصر التسمية لاحقا و تصبح «شبرلة»، كما يسمى الحذاء أيضا بالنعل المطرز. يوجد في الغرفة إلى جانب كل ما تم ذكره،  أجهزة راديو قديمة و منبه و لوحات فنية عن المدينة وعن الحياة فيها     و عن الحرف الرجالية القديمة، و الأغراض التي كانت تلازم الرجل مثل  «القرن» و «ساعة الجيب» و الكبوس و «الشملة»، و هو حزام من القماش يحيط به الرجل حوضه عند ارتداء «سروال عرب»   لتجنب الإصابة بالتمزق العضلي عند حمل الأشياء الثقيلة.
تقطير الورد عادة مقترنة بدار عرب
و قد خصص جناح من الفضاء للتعريف بعادة تقطير الورد و الزهر، و هي عادة لا يزال القسنطينيون محافظين على إحيائها مع بداية  شهر أفريل و إلى غاية منتصف ماي   حيث قدمت الجمعيات معدات قديمة خاصة بالتقطير، منها القطار و الطنجرة و الكانون و الكيروانة و القصعة و المغلفة، مع الحرص على التعريف بالعادات المقترنة بالتقطير المتمثلة في تزين صينية القهوة «بالطمينة البيضاء». زوار قابلناهم في المكان خلال زيارتنا له، عبروا عن انبهارهم بتنوع المعروضات و دقة توزيعها، منهم سيدة في العقد السادس من العمر، قالت بأنها تحن لأجواء دار عرب التي تعد رمزا للتلاحم الاجتماعي وأن هذا الفضاء أشبع حنينها، فيما قال زوار من خارج الولاية، بأنهم يكتشفون لأول مرة خصوصية البيت القسنطيني القديم، و ثمنوا المبادرة كثيرا.                        
أ ب 

الرجوع إلى الأعلى