«أحلامنا بسيطة.. نريد الغاز والماء فقط» هي عبارة يرددها سكان المشاتي والمداشر المحيطة بقرية قطار العيش بولاية قسنطينة، حيث تعكس ظروفا صعبة ومظاهر توحي بأن هؤلاء السكان يعيشون في مناطق ظلام لم تصل بعد إلى مرحلة أن تكون نقاط ظل، فالعائلات ما تزال تستعمل الحمير للتزود بالمياه الصالحة للشرب، كما يضطر تلاميذ دون العشر سنوات لقطع كيلومترات من أجل الوصول إلى المدارس، ليضطر جلهم للتوقف نهائيا عن الدراسة والتوجه إلى رعي الأغنام.
و رافقت النصر لجنة من بلدية الخروب خلال عملية إحصاء مناطق الظل بمنطقة قطار العيش، حيث زارت أكثر من 10 مشاتي ومداشر، و قد كانت بداية الرحلة من وسط هذه المنطقة باتجاه المداشر المحيطة بها والتي لا تبعد عنها بأكثر من 7 كيلومترات، لتتوزع على مسافات متقاربة.
سلكنا الطريق الشمالي المؤدي إلى المداشر الواقعة بأعالي المنطقة، و ذلك عبر مسلك مهترئ وضيق يضطر السائق للتوقف من أجل مرور المركبة القادمة في الاتجاه المعاكس، وقد مكنتنا السرعة البطيئة، من الانتباه لإحدى القرى التي كان بها بنايات يحتسب عددها على أصابع اليد الواحدة، لنتوقف هناك ونكتشف أنها خالية من السكان، وعند استفسارنا لأحد الرعاة الذي كان مارا بالمنطقة، تبين أنها تدعى «المالح» و قد هجرها قاطنوها بعد سرقة أغنامهم، إضافة إلى انعدام أدنى متطلبات الحياة بها. واصلنا طريقنا لنصادف دشرة أخرى أكد عنها أحد السكان أن اسمها «أولاد سي عمر» و قد هجرتها العائلات أيضا.
الأمطار تعزل منطقة «بولشفار»

بعد مسافة 4 كيلومترات تواجدنا في مزرعة «بولشفار حسين» التي تقطن بها 93 عائلة، حيث كان المسلك المؤدي إليها طينيا ومهترئا تماما، فيما وجدنا القرية شبه شاغرة باستثناء بعض الشباب الذين تطرقوا إلى وضعهم، وقالوا إنهم يعانون من البطالة، كما تحدثوا عن عدم تمكنهم من القيام بتوسعات بمحاذاة سكناتهم الحالية لعدم الحصول على ترخيص بالبناء أو التزود بالغاز والكهرباء، ما أدى لتواجد 4 عائلات في مساحة لا تتجاوز 8 متر مربع حسبهم.
كما يوجد خزان مياه كبير عند مدخل المزرعة، أكد بخصوصه رئيس جمعية الحي أنه أنجز سنة 2014، و يسيّر من طرف شابين متطوعين يشرفان على عمليات الفتح والغلق، حيث طالب بتوظيفهما في مؤسسة «سياكو»، و أضاف المتحدث أن السكان يعزلون نهائيا في حالة تساقط الأمطار، حيث يتحوّل الطريق الطيني إلى زلج وبالتالي يستحيل الدخول والخروج من القرية باستعمال مركبة. وبعد تواجدنا بالمكان لدقائق تنقلنا للشطر الثاني من المزرعة، حيث يقع بمحاذاة الطريق الولائي الرابط بين ولايتي أم البواقي وقسنطينة، و تحيط به أراض فلاحية من كل جهة.
«الأميونت» تهدُّد حياة القاطنين في الشاليهات

ويتكون الشطر الثاني من مزرعة بولشفار من 40 سكنا، 34 منه عبارة عن شاليهات أنجزت في شكل أفقي منظم ومتلاصقة ببعضها البعض لتشغل مساحات متقاربة، وقال أحد السكان إن هذه المنازل كانت مخصصة لفلاحين رفضوها، لتقوم البلدية بتحويلها إلى عائلات سنة 1986، غير أنها و مع مرور السنوات أصبحت تشكل خطرا وتهديدا على حياة قاطنيها، بسبب مادة «الأميونت» السامة التي أنجزت بها. وأكد مواطنون أن أبناءهم أصيبوا بأمراض مزمنة وجلهم يعانون من الحساسية وأمراض الجلد، كما أضافوا أن السكنات غير مزودة بالغاز ما جعلهم يعيشون «الجحيم» في فصل الشتاء، بحكم البرد القارس الذي يميز المنطقة الواقعة في أعلى الهضبة.
كما أضاف قاطنون في تلك الشاليهات في حديثهم للنصر، أن إحاطة الأراضي الزراعية بسكناتهم يشكل خطرا عليهم، حيث و في حالة نشوب نيران بها فإنها ستحرق معها السكنات التي لا تبعد عنها إلا بخمسة أمتار، وعليه طالبوا بمنحهم مساحات غير مستغلة بالقرية من أجل إنجاز منازل. و نحن نغادر المزرعة شدتنا رائحة كريهة تنبعث من إحدى المساحات القريبة من السكنات، ليتضح أن مصدرها مياه قنوات الصرف الصحي التي يؤكد السكان أن الأشغال بها لم تنته.
غادرنا مزرعة بولشفار نحو مشتة خلفة، وفي طريقنا إليها رأينا قصرا يشبه البنايات التي يقطنها الأمراء والملوك، حيث يقع على مساحة واسعة وهندسته المعمارية تشبه كثيرا القصور الآسيوية، لنعلم من السكان، أن القصر أنجز سنة 1900 وكان يقطنه «ميلار» وهو مسؤول فرنسي كان يشغل منصب رئيس بلدية قطار العيش وقت الاستعمار، حيث تقطنه حاليا إحدى العائلات، ورغم روعة بنيانه وتناسق ألوانه علمنا أن القصر غير مزود بمادة الغاز، كما أن المسلك المؤدي إليه مهترئ.
عند مواصلة طريقنا صادفنا جسرا صغيرا يربط مزرعة بولشفار ببقية المشاتي القريبة منها، وبإلقاء نظرة على حجر أساسه، تبين أنه منجز سنة 1881، كما يقع بالقرب منه منبع مياه طبيعية تزود سكان المشاتي منذ 1874. واصلنا طريقنا على مسلك ترابي به حفر كثيرة جعلت السيارة تتأرجح يمنيا وشمالا وكأننا على متن قارب تتلاعب به أمواج البحر، لنصل بعد مسافة 1.5 كيلومتر إلى مشتة صغيرة تدعى «أولاد خلفة» بها سكنات أرضية لونها يدل على قدمها.
الأكياس و الأحذية البلاستيكية للسير

توجهنا مباشرة إلى أحد الشيوخ الجالسين أمام مدخل سكنه مستعملا كرسيا صغيرا من الخشب، و القطط والدجاجات و طيور البط محيطة به، حيث كان المسن شاردا غير مبال بتواجدنا إلى حين إخطاره بأن لجنة بلدية قد حلت بالمكان لإحصاء مناطق الظل بحضور النصر، حيث شرع في الحديث عن الظروف التي يعيشها موضحا أنه وبقية سكان المشتة يضطرون للبقاء في سكناتهم عند تساقط الأمطار بسبب انغلاق المسلك الوحيد المؤدي من وإلى خارج المنطقة، كما أكد شاب آخر أنهم يستعملون الأكياس والأحذية البلاستيكية من أجل التنقل وخاصة عند هطول الأمطار.
بعدها سلكنا وجهتنا نحو مشتة أخرى، مستمتعين بتلك المناظر الطبيعية الخلابة، والتي زادتها جمالا الخيول التي كانت تركض بسرعة فائقة، حيث تكررت تلك المشاهد الجميلة طيلة الطريق الممتد على مسافة كيلومترين، لنصل إلى مشتة أخرى تدعى «كبابي» أنجزت سنة 1940، وتبعد بحوالي 6 كيلومترات عن قرية قطار العيش، لكنها لم تربط بالغاز إلى اليوم.
بعدها توجهنا إلى «دوار المعاضيد» وكان مسلكه الترابي أكثر تدهورا، حيث تتصاعد كميات كبيرة من الغبار عند مرور المركبات حتى أن السائق وجد صعوبة في رؤية الطريق، وبعد مسافة 3 كيلومترات من السير، وصلنا إلى مدخل المنطقة والذي كان يطل شمالا على قريتي الغرايب والذهبية المقابلتين للوحدة الجوارية 18 بعلي منجلي، بينما تحده قرية قطار العيش شرقا وغربا عين السمارة. عند التوغل بالمكان وجدنا منازل مهترئة منتشرة بطريقة فوضوية فيما انعدمت المسالك بين البنايات لضيق المكان، وأخبرنا بعض السكان أن مشاكلهم تنحصر في انعدام قنوات الصرف الصحي والمياه الصالحة للشرب والغاز والإنارة العمومية.
عائلات شتتها التقسيم الإداري

واصلنا طريقنا نحو قمة الهضبة، ليزداد الجو برودة بعد أن كان حارا في المشاتي الأخرى وكأننا عبرنا من بلد لآخر، كما زادنا الهواء النقي حيوية من أجل مواصلة الطريق نحو قرى تقع على مسافات متقاربة جدا، وهي دوار العطفة وغار القط والحراكتة، والتي تعتبر مميزة عن بقية المشاتي بسبب موقعها الجغرافي المميز، حيث تقع في حدود ثلاثية لكل من قسنطينة وأم البواقي وميلة.
و أخبرنا السكان أن بعض العائلات متمثلة في أخوين أحدهما يقطن في سكن تابع إداريا لولاية ميلة فيما ينتمي الآخر لولاية قسنطينة، وذلك بحكم وقوع منزل الأول على بعد أمتار من حدود دوار العطفة، كما شاهدنا سكنات تابعة لولايتي ميلة وأم البواقي من أعلى المشتة دلنا عليها أهل المنطقة، أما  في ما يخص النقائص فلم تختلف عن المشاتي الأخرى.
الاستعانة بالحمير للتزود بالمياه بدشرة السعايدية

عدنا أدراجنا لنسلك طريقا آخر باتجاه دشرة «السعايدية»، والتي تقع في حدود مدينة الخروب وصالح دراجي وعلى بعد 5 كيلومترات من المقاطعة الإدارية علي منجلي، وعلمنا من أحد القاطنين في المنطقة أنها أنجزت سنة 1790، وكان التوجه إليها أصعب من المرات السابقة بما أن موقعها جاء خلف الطريق الوطني 79 على مسافة 4 كيلومترات، وأكد سكان هذه المنطقة أن حالهم قبل حوالي 20 سنة كان أفضل بكثير مما هو عليه في سنة 2020، حيث تحدثوا عن انعدام الغاز والماء، وهو ما كان متوفرا سنة 2002، مضيفين أن موقع الدشرة جعل ظروف سكانها معقدة مقارنة بالمشاتي والمداشر الأخرى، بما أنها لا تظهر للعيان و منسية حسبهم.
وهدد سكان هذه الدشرة بالنزوح نحو قرية قطار العيش والسكن بأحد الأكواخ القصديرية على غرار ما قام به العشرات من سكان المشاتي والمداشر المحاذية لهم،  مرجعين السبب إلى الظروف القاسية التي يعيشونها، حيث قالوا إنه و رغم مرور السنوات مازالوا يستعملون الحمير من أجل التزود بالمياه الصالحة للشرب، لنرافق أحد السكان الذي وضع قارورات بلاستيكية على ظهر الحمار وتوجه على مسافة 3 كيلومترات مباشرة إلى منبع المياه، وعند انتهاء عملية التزود عاد الحيوان مباشرة إلى نقطة الانطلاق، وأضاف أحد السكان أن هذه هي الطريقة الوحيدة للتزود بالمياه، وقال إن التزود بالغاز يعتبر حلما يصعب تحقيقه، كما لم يختلف حال سكان دوار شلغوم الواقع بالقرب من دشرة السعايدية.
تلاميذ يسيرون لكيلومترات وآخرون يتحولون لرعي الأغنام

شدتنا خلال عمليات التنقل بين المشاتي، صور سير عشرات الأطفال لمسافات طويلة من أجل التنقل إلى مختلف المؤسسات التربوية، حيث كانت تلك الوجوه البريئة متعبة ومرهقة من الذهاب والإياب وعابسة بسبب ظروف جعلت من الدراسة أشبه بالكابوس، حيث وقفنا على حالات بقرية المعاضيد يقوم فيها الأطفال برعي الأغنام، فيما تواجد بعضهم على متن جرارات، وعلمنا من أوليائهم أنهم توقفوا عن الدراسة بسبب الظروف الصعبة، كما أضافوا أن بعضهم كانوا متميزين ويحتلون الصف الأول في الأقسام.
و وفرت بلدية الخروب حافلات النقل المدرسي لتلاميذ الابتدائيات، ولكن المحطات النهائية تبعد بمسافات طويلة عن تلك المشاتي، حيث يسير المتمدرسون لمسافة تتراوح ما بين 5 إلى 7 كيلومترات ذهابا ومثلها إيابا، من أجل الوصول إلى محطة النقل المدرسي على غرار القاطنين في «المعاضيد» و»المطارفة» و»الغرايب»، كما يضطرون للخروج من سكناتهم في ساعات مبكرة على أن يعودوا في الظلام الحالك خاصة وأن المشاتي غير مزودة بالإنارة العمومية، كما انتقد السكان مخطط النقل الذي يعتمد على دورتين فقط، وطالبوا بثالثة إضافية من شأنها أن تجنب بقاء التلاميذ لساعتين من الزمن بمفردهم أمام المدارس بالخروب في انتظار توفر النقل المدرسي في الساعة الخامسة مساء.
ح.ب

الرجوع إلى الأعلى