لفتت آخر إحصائيات رسمية حول أرقام حالات الخلع والطلاق نظر الكثير من الهيئات الفقهية والحقوقية والمجتمعية؛ التي رأت فيها خطرا حقيقيا ما انفك يتنامى تباعا؛ ما لم تبادر مختلف الجهات الوصية والمؤسسات للبحث في عوامل الظاهرة وتقديم حلول عملية؛ تربوية واجتماعية وقانونية، تحد من تفاقمها؛ حفظا لكيان الأسرة؛ والحيلولة دون شرحها وما يترتب على ذلك من آثار سلبية على الأولاد والزوجين؛ وإذا كان الإسلام قد أباح الطلاق ثم أباح الخلع مقابلا له فإن هذا لا يعني أن يترك الأمر على إطلاقه دون قيود وضوابط وإرشادات تربوية؛ فكونه حقا لا يعني أن يمارس في أي وقت ودون سبب؛ بل ينبغي أن تكون له دوافع حقيقية موضوعية يتحول في ضوئها من مشكل إلى حل.

ولئن رأى البعض أن الاستقلال الوظيفي والمالي للزوجة قد أسهم في تنامي مثل هكذا ظاهرة؛ وفق سنة الله في البشر
(إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى)فإن الحل لا يكون في حرمان الزوجات من الحق في العمل والاستقلال بالذمة المالية؛ لأن هذا حق مكفول شرعا؛ علاوة على كون القاعدة نفسها قد تتكرر في حالة الطلاق لمن بيده القوامة، والطلاق لا يقل خطرا على الخلع وهو أكثر تفاقما. وفي هذا الملف يعرض أساتذة جامعيون بعض عوامل الظاهر ويقترحون جملة حلول للحد منها.

ينبغي مراعاة الكفاءة في الزواج وعدم استعجال الطلاق
 انتشر مؤخرا خبر ارتفاع حالات الخلع والطلاق في المجتمع الجزائري، فوصلت حالات الطلاق بالخلع إلى 10000حالة فيما وصلت حالات الطلاق الأخرى إلى 44000 حالة، فالمجموع54000 حالة بما يعادل تطليق ست نساء في كل ساعة، ليطرح السؤال عن أسباب هذا الارتفاع؟ وكيف يمكن تخفيضه مستقبلا؟ على العموم فإن لارتفاع نسب الطلاق أسباب عديدة وأبرزها في نظري ثلاثة:
(الأول): يعود إلى الرجل المطلق بالدرجة الأولى لأن طلاقه دليل فشله في إدارة العلاقة الزوجية، إما أنه دون المسؤولية، وإما أنه فاشل في سياسة الضلع الأعوج الذي عنده، خصوصا إذا عرفت أن الكثير من حالات الطلاق أسبابها تافهة، فهو يطلق دون أن يراعي الشهود الذين حضروا عقده، ولا يراعي والديه ولا والدي زوجته ولا جيرانه، تأتيه نزوة طلاق فيطلق دون اعتبار للأوقات، فهناك أوقات يحرم فيها الطلاق.
لقد كان الرجل يطيل النظر قبل الطلاق، فيبدأ بالوعظ ثم الهجر، ثم يتربص وقت جواز الطلاق ليوقعه، وقبل ذلك يتساءل: لعلّي ظلمتها، كيف يكون رد فعل أهلها وأصدقائي وشهودي وأسرتي؟ فإن كان له أولاد تداعت الأسئلة كثرة؛ لكنه اليوم في لحظة نزوة عابرة يختفي خلف كلمة أنت طالق متشبها بالرجال.
(الثاني): غياب عنصر الكفاءة في الزواج، ومعناه أن تتزوج المرأة من يماثلها أو هو أفضل منها في الأمور المعتبرة في ذلك الزمان والمكان، والكفاءة تشترط في الرجال، وهي شرط كمال وليست شرط صحة، فما يليق أن تتزوج الغنية فقيرا، ولا المتعلمة جاهلا؛ لأن القوامة التي يتمتع بها الرجال تتطلب منهم الكفاة، فكيف يكون قواما على امرأة تنفق عليه؟ أو على امرأة ترى أنها أعلم وأذكى؟ وإذا رأيتم زواجا مستقرا دام بغير كفاءة فاعلم أن الرجل قد تنازل عن قوامته، أو استطاع أن يعوض ما فاته منها بأمور أخرى، وعندنا الكثير من الموظفات تزوجن بطالين، والكثير من الجامعيات تزوجن من دونهن في ذلك. وهذا السبب يشجع على الخلع.
(الثالث): يعود إلى القضاء، فمن الطبيعي أن تحدث الخلافات بين الزوجين، وقد تتطور إلى القضاء، والقرآن الكريم أولا، والقانون ثانيا أمرا بالصلح بين الزوجين؛ فقال تعالى: ((وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما))؛ فهل رأيتم قاضيا دعا حكمين وكلفهما بالسعي في الإصلاح ثم دعا الزوجين إليه قبل أن يحكم بالطلاق؟
إن الكثير من القضاة يستدعي الزوجين ثلاث مرات ثم يحكم بالطلاق حضروا أو لم يحضروا، كأنه يستعجل التخلص من هذه القضية!، ولذلك ينبغي أن يكون القاضي المكلف بشؤون الأسرة فوق الأربعين وأن تكون له أسرة حتى يحكم عن علم وتجربة وحكمة.
وفي ضوء ما تقدم أوصي بثلاث: (1) خلق دورات للإرشاد الأسري وتشترط شهادات حضور الدورات في العقد. (2) مراجعة شروط من يتولى قاضي شؤون الأسرة من حيث التكوين والسن والحالة الأسرية. (3) تعميم تدريس قانون الأسرة على كل التخصصات لأن الكل ستكون له أسرة.

الخلع حق للزوجة؛ لكن عليها الصبر
 من تمام قدرة الله تعالى وجلال حكمته سبحانه أن جعل لكل بشر زوجا من جنسه يأنس إليه وتسكن روحه له، ليجد من المودة والرحمة ما يعينه على قساوة الطريق وجهد الأيام، فتصير الروح واحدة والجسد اثنين.
  وهذا البناء الذي ينشئه الرجل والمرأة تحت مظلة الزواج هو لبنة المجتمع محضن النشء الصالح المكلف بإعمار الأرض، ولكن عندما يكره الرجل زوجته وتكثر العداوة والمشاحنة، وعند الإخفاق في علاج المشكلات التي تؤدي لانهيار الأسرة بل وقد يؤدي الاستمرار فيه إلى مفاسد قد تصل للقتل والتنكيل، شرع الإسلام الطلاق بيد الرجل وجعل في سبيله عقبات حتى لا ينهار صرح الأسرة بسهولة، كما شرع للمرأة وسيلة للانفكاك من وضع لا تأباه ومن رباط قد أصبح لها أسرا بعد أن تكون قد استنفدت كل وسائل الإصلاح وهو الخلع. فالخلع حق للمرأة التي تجد سوء خلق من زوجها، أو كراهة للعيش معه أو ضيقا ومشقة؛ بل يمضي الخلع ولو لم يكن له مبرر مقنع؛ فيكفيه كره المرأة للحياة الزوجية مع زوجها؛ كما ذكرت زوجة ثابث بن قيس.
 والصورة النمطية التي ترسم في وسائل الإعلام العربية، ونظرة المجتمع العربي للمرأة التي تطلب الخلع من زوجها؛ على أنها امرأة متحررة، هدفها فك رباط الزوجية لتعيش على حل شعرها؛ صورة خاطئة في مجملها؛ بل إن معظم النساء اللائي يطلبن الخلع ويلجأن إليه قد فاض بهن الكيل من زوج مهمل أو عنيف، وقد تحدثت مع بعض المرشدات واللواتي ترد عليهن قصص الخلع يوميا فأكدن لي أن المرأة الجزائرية حريصة على بيتها وعلى أسرتها وتلجأ للخلع مضطرة في كثير من الحالات؛ أين تستحيل الحياة مع زوج يستهين بمشاعرها ويبخس قيمتها وأفكارها وآراءها، و يهددها بالزواج من أخرى ويسلب مالها منها بالقوة، وبعض الأسباب التي تستحي حتى البوح بها، كالشذوذ والأمراض النفسية المختلفة.
وإذ نقر للمرأة بحقها في الخلع والذي كفله لها دينها نؤكد على حقيقة انفتاح المرأة على ثقافات العالم التي تناصر قضاياها وتنادي بحريتها، وذلك بفضل آليات التطور التقني والتكنولوجي والزخم الإعلامي، وما تتيحه الإنترنيت من تقديم نماذج للمرأة المستقلة التي تبوأت أماكن مرموقة في المجتمعات، وهذا مطلوب ولكن ينبغي أن لا يصل لدرجة تشجيعها على الاستقلال عن أسرتها.
 ومن الواضح أن الأسرة المسلمة مستهدفة من هذا التغير الاجتماعي التي ظهرت مخاطره، وتأكد أن المرأة هي المتضرر الأكبر من تجلياته، وعليه نهيب بها أن توطد علاقتها بربها وأن تتأسى بجداتنا اللواتي حافظن على أسرهن رغم ضيم الاستعمار واغتراب الأزواج وشظف العيش، وأن تحتسب الأجر من الله، كما وعلى الرجل أن يعي واجباته ويؤدي مسؤولياته ويصون الأمانة التي وضعت على عاتقه يقول (ص): (استوصوا بالنساء خيرًا، فإنّهن عوان عندكم، أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله).

غياب التربية المسبقة أهم أسباب ظاهرة الخلع
 لقد اطلع الكثير من الجزائريين على أهم الأخبار المتعلقة بمشكلة الخلع والطلاق في الجزائر وارتفاع نسبتها، وهو مشكل خطير جدا على الأمن الأسري للمجتمع الجزائري، وأنا أرى أن أسباب ذلك تعود إلى ما يأتي:
(أولا)/ انعدام التربية الصحيحة، وضعفها في بعض الأحيان في الكثير من الأسر الجزائرية، فنجد الكثير من الآباء والأمهات يحرصون على توفير الأكل والشرب والدواء والملبس، ولكنهم يهملون التربية إهمالا كليا أو جزئيا، ويعتبرون أن لا قيمة لها، وللتربية ثلاثة أماكن لابد منها، وهي:
(1)الأسرة: ففي رحابها ينبغي أن يتحلى الوالدان أولا بالتربية الصحيحة التي أساسها الدين، والأخلاق الاجتماعية في الفكر والاعتقاد والسلوك. ثم تغرس هذه التربية في الأبناء؛ ابتداء من طريقة الخطاب بين الآباء والأبناء، ثم في جانب الأخلاق، كاللباس، والحديث والأكل والمخالطة وطريقة مخاطبة الكبار، وغيرها. ثم في جانب الشعائر الدينية: كقراءة القرآن وحفظه، وأداء الصلاة في المسجد للذكور خاصة، والابتعاد عن المحرمات في الأقوال والأفعال، كمشاهدة الأفلام الفاسدة والهابطة، وغيرها.
(2) المسجد: يعتبر المسجد في المجتمع المسلم مركز إشعاع ديني وعلمي وأخلاقي وتربوي، فإذا أدى المسجد أدواره المنوطة به نفع المجتمع نفعا عظيما.  وهذا واجب الأئمة سواء في الدروس، أو في المدارس القرآنية، وفي مجالس الصلح.
(3) المدرسة: التي يناط بها هذا الدور باعتبار المدرسة مركز إشعاع علمي وتربوي، مما يفيد المجتمع وينفعه نفعا عظيما؛ فتقوم على التربية الصحيحة وحماية الناشئة من المؤثرات الثقافية والفكرية الغريبة.
(ثانيا)/ سوء الاختيار بين الزوجين: فغالبا ما ينساق الشباب وراء العاطفة، أو الاغترار ببعض المظاهر الجالبة للانتباه، كالغنى، أو الوظيفة وغيرها، دون احتساب للقواعد الشرعية أو العرفية في حسن الاختيار، مما يؤدي إلى وقوع الغرر والخديعة في حالات كثيرة جدا من الزواج، وهذه تفضي في الغالب للفراق المبكر بينهما. وقد بين الإسلام أهم الأوصاف التي تصلح قاعدة للاختيار في الزواج، وهو التدين الصحيح، بخلاف التدين المغشوش، الذي يكون ظاهره صلاح وباطنه نفاق وخداع. واختيار الأسر ذات المعدن الطيب:" الطيبات للطيبين، والطيبون للطيبات". وهذا يتطلب رزنامة تربوية على مراحل؛ تفضي إلى تعليم أفراد المجتمع ضروريات الحياة التي لابد من معرفتها: كأحكام الأسرة  وحقوق الزوجين، وأحكام تربية الأبناء، وغيرها. وهنا لابد من تدخل الهيئات العليا والجمعيات الدينية والمدنية للتعريف بالقواعد الصحيحة في حسن الاختيار، وإجراء دورات تدريبية للشباب قبل الزواج، وَبَعْدَهُ للتعرف على المشاكل الزوجية وكيفية علاجها.
(ثالثا)/ قلة مجالس الصلح التي ينبغي أن يقوم بها أساتذة الشريعة والأئمة، فهم أقدر في الغالب من المحامين والقضاة، وإن اشتركوا مع المحامين والقضاة فهو أفضل، فينبغي أن لا يصدر طلاق غير حتمي ولا لازم إلا بعد إجراء مجالس للصلح. وأول مرحلة أساسية من مراحل الصلح: تدخل أهل الزوجين لردم المشكل، فإن عجزوا، فليتدخل الإمام والوجهاء، فإن عجزوا يتدخل القضاء، لكن الواجب أن تكون إدارة خاصة بمجلس الصلح في المحكمة بمعية أساتذة الشريعة والأئمة والمحامين والنفسانيين والقضاة.
ومن الأفضل لو تستحدث عندنا جمعيات إصلاح ذات البين بين أفراد المجتمع، تعمم في كل أرجاء الوطن؛ على أن يكون القائمون عليها ذوي خبرة في معالجة المشاكل الاجتماعية، فهي ذات طبيعة اجتماعية دينية تقوم على العمل لوجه الله تعالى لإصلاح ما يعجز الأفراد العاديون عن إصلاحه. وضرورة تعديل بعض القوانين: لتقييد الخلع وعرض أسبابه، وضرورة تدخل الجهات الوصية لضمان الأمن الأسري للمجتمع، قال تعالى: (وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته). وتوفير الشروط الكريمة لحياة الأسر بدل التفكير فقط في التعويض المترتب على الطلاق والخلع.
ع/خ

الرجوع إلى الأعلى