إصرار على مطلب الاعتذار و تسوية ملف الضحايا  
يحي سكان قالمة اليوم ذكرى أخرى من ذكريات مجازر 8 ماي 1945 التي ارتكبها الاستعمار الفرنسي في حق المدنيين العزل عندما خرجوا إلى شوارع المدن و القرى احتفالا بنهاية الحرب العالمية الثانية، و المطالبة بالحرية و الاستقلال، و تذكير فرنسا بوعودها التي قدمتها للجزائريين الذين وقفوا معها على جبهات القتال لدحر النازية و تحريرها من قبضة الألمان.
اليوم يمر 74 عاما على واحدة من أبشع المجازر ضد الإنسانية، مجازر أودت بحياة الآلاف من سكان قالمة و مناطق أخرى من الوطن المحتل، و ما زالت آثار هذه المجازر تسري في كيان الأمة إلى اليوم رغم مرور 7 عقود كاملة لم تنس سكان قالمة و سطيف و خراطة، و غيرها من مواقع الانتفاضة الأخرى، و لم تثنهم عن مطلب الاعتذار و تسوية ملف الضحايا الذين مازالوا مقيدين كأحياء في سجلات الحالة المدنية إلى اليوم.  
و يقول مؤرخون و شهود عايشوا أحداث ماي الأسود بقالمة بأن الاستعمار الفرنسي عمد إلى طمس معالم الجريمة، و رفض تقييد الضحايا في سجل الوفيات، و حتى الأهالي الذين عثروا على جثث ضحاياهم لم يتمكنوا من الحصول على تقرير طبي و شهادة وفاة من السلطة الاستعمارية الحاكمة، و استحال عليهم إثبات سبب الوفاة و المطالبة بالحق حسب ما ينص عليه القانون الفرنسي الساري المفعول آنذاك، لأن الجزائريين كانوا خاضعين لقانون الأهالي و الجزائر الفرنسية، لكنهم يعيشون التمييز و القهر و الإذلال، و حرموا حتى من دفن ضحايا المجازر و تقييدهم في سجلات الوفيات، و قليل منهم فقط من عثر على جثة القتيل بضواحي قالمة، ميلي زيمو، هليوبوليس و غيرها من المناطق المجاورة التي ظلت مسرحا للقتل و التعذيب أشهرا طويلة.   
  و في كل ذكرى من ذكريات المجازر الرهيبة ترفع جمعية 8 ماي 1945 بقالمة نداءات تدعو  السلطات الجزائرية إلى تسوية ملف الضحايا و اعتبارهم شهداء، و جبر أهاليهم و مساعدتهم على تجاوز آثار تلك الحقبة الدامية من تاريخ الجزائر.  
و ترى الجمعية التي تنشط تحت شعار «لكي لا ننسى»، بأنه من غير المقبول أن تغض الجزائر المستقلة الطرف عن هذا الملف الهام الذي يخص الذاكرة الوطنية، داعية أصحاب القرار إلى الاعتراف بصفة الشهيد لكل القتلى و المفقودين في تلك المأساة و الجريمة التي تحاول فرنسا الاستعمارية إسقاطها بالتقادم، و إجهاض كل محاولة لتجريم فعلها، و إدانتها وفق القانون الدولي المتعلق بجرائم الحرب و الجرائم ضد الإنسانية و الإبادة و التطهير العرقي.  
و إلى اليوم لا يستطيع أهالي الضحايا استخراج شهادة وفاة ذويهم الذين سقطوا في تلك المجازر قتلى أو اختفوا بلا رجعة، و مازالت بعض ملفات الملكية و الميراث عالقة إلى اليوم بسبب هذا التصرف البشع الذي قام به الاستعمار الفرنسي عندما أبقى على هؤلاء الضحايا مقيدين كأحياء في سجلات الحالة المدنية كما قال عبد الله يلس، أحد الشهود الذين عايشوا تلك الحقبة الدامية، في لقاء سابق مع النصر.
أفران الجير الرهيبة..
موقع لطمس معالم الجريمة و التملص من المساءلة الدولية  

بعد انتشار أخبار مجازر ماي الأسود بقالمة، و وصولها إلى المحافل الدولية و منظمات حقوق الإنسان سارعت مليشيا السفاح آشياري، التي قادت عمليات التصفية الجسدية بمدن و قرى قالمة، إلى نقل جثث القتلى إلى منطقة أفران الجير الواقعة بقرية حمام برادع ببلدية هليوبوليس، و قامت بحرقها و تحويلها إلى رماد حتى لا يبقى منها أثر يقود إلى كشف الحقيقة.  
  و عندما وصلت لجنة أممية لتقصي الحقائق إلى قالمة لم تعثر على جثث الضحايا من الجزائريين، و اكتفت بمعاينة قتلى المعمرين و سماع بعض شهادات الجزائريين الذين فقدوا ذويهم في تلك المجزرة الدامية، دون أن تتمكن من الوصول إلى الحقيقة، و تقديم دلائل تدين الحكومة الفرنسية التي أعطت الضوء الأخضر لقمع الانتفاضة السلمية، و الترخيص بتكوين مليشيا الخطف و القتل و الإعدام الجماعي.  
و قد لعب المعمر «لافي» المسيطر على أراضي هليوبوليس و الفجوج، دورا كبيرا في تشكيل مليشيا القتل و الاختطاف، و حول منطقة هليوبوليس ميدانا للإعدام و الحرق بكاف البومبة و أفران الجير الرهيبة التي بقيت إلى اليوم شاهدة إلى جرائم فرنسا الاستعمارية، و مع حلول كل ذكرى من ذكريات ماي الحزينة يتنقل الكثير من سكان قالمة إلى مواقع الحرق الرهيبة للتنديد بالجريمة و المطالبة بالاعتذار الصريح، و جبر الضحايا، وفق القانون الدولي الذي ينص على أن جرائم الحرب و الإبادة العرقية لا تسقط بالتقادم.  
و حسب المؤرخين و بعض الشهود فإن أفران حمام برادع بناها المعمر «لافي» لصناعة الجير، و كان عمالها من الجزائريين الذين يعملون بمزارع القمح و بساتين الحوامض و الكروم.  
و عندما قررت مليشيا آشياري حرق جثث الضحايا تم إبعاد كل الجزائريين من مزارع «لافي» حتى لا تنكشف الجريمة المروعة، لكن أخبار حرق الجثث انتشرت بسرعة و انكشفت الجريمة عندما وصلت رائحة اللحم البشري إلى مسافة بعيدة، و عندها أدرك الأهالي العزل بأن الشاحنات التي كانت تتحرك ليلا عبر القرى و الأودية و الشعاب كانت تجمع الجثث و تلقي بهم وسط الأفران الملتهبة.  
سكن الخوف و الرعب سهول و مداشر و مدن و قرى قالمة، و أطبق الموت على الأبرياء العزل، لكنهم ظلوا صامدين و قرروا الدفاع عن أنفسهم بشن هجمات ليليلة على مزارع المعمرين لنقل الرعب إلى الطرف الآخر و تخفيف الضغط عن الأهالي الهاربين من الجحيم.  
كاف البومبة.. إعدامات جماعية بلا محاكمات  


يقول المؤرخون و الباحثون الذين تناولوا مجازر ماي الأسود بقالمة في السنوات الأخيرة، بأنه لا يوجد جزائري واحد خضع للمحاكمة خلال و بعد المجازر بقالمة، و هذا دليل قاطع على جريمة القتل مع سبق الإصرار و الترصد، و دليل أيضا على نية فرنسا الاستعمارية و عزمها على إجهاض الانتفاضة بتصفية رموز المقاومة و النضال، و ثني الجزائريين عن مطالب التحرر و تقرير المصير.  
   و كان موقع كاف البومبة الواقع بين مدينتي قالمة و هليوبوليس مسرحا للإعدامات الجماعية للمختطفين من منازلهم ليلا، و كانت الشاحنات تنقل العشرات من قادة الانتفاضة إلى ميدان الإعدام، و تطلق عليهم الرصاص ثم تحول الجثث إلى أفران الجير لحرقها، في واحدة من أبشع المجازر في القرن العشرين.   و يقول محمد لخضر خلاصي و عبد الله يلس و هما من الشهود القلائل الذين بقوا على قيد الحياة، بأنه و عندما تشرق الشمس يخرج الناس للبحث عن ذويهم بمراكز الشرطة و الدرك، لأنهم كانوا يعرفون بأن المختطفين هم من مليشيا آشياري و كبار الكولون المسيطرون على مساحات واسعة من الأراضي الزراعية.
و في كل مرة يصطدم الباحثون على ذويهم بتضليل السلطات الفرنسية التي كانت تحكم مدينة قالمة، فيخرج الأهالي إلى الحقول و الأودية و الشعاب بحثا عن الجثث لكنهم كانوا يفشلون في العثور عليهم، و يعودون إلى ديارهم منهيكن يمزقهم الحزن و يقتلهم الظلم الكبير.  
و تقول مصادر تاريخية بأن بعض الجزائريين الخونة ربما كانوا ضمن مليشيا الموت، أو على الأقل قدموا المساعدة لاستهداف رموز الحركة الوطنية الذين كانوا يقودون الصفوف الأولى للمسيرة السلمية، التي تحولت في ما بعد إلى مقاومة و انتفاضة دامية لم يوقفها القمع و الاختطاف و الإعدام و الحرق، و التهجير حتى تفجير الثورة المقدسة و تحرير الوطن المحتل.  
و مع حلول كل ذكرى من ذكريات ماي الأسود بقالمة يزور السكان المعلم التاريخي كاف البومبة للترحم على أرواح الضحايا، و تجديد العهد مع الشهداء و تذكير فرنسا بجرائمها، و مطالبتها بالاعتذار و الاعتراف بالجرم المشهود.  
كل سنة مسيرة صامتة و بيانات تنديد و مطالبة بالاعتذار

 تعود سكان قالمة على الخروج في مسيرة صامتة كلما حلت ذكرى جديدة من ذكريات ماي الأسود، مسيرة شعبية حاشدة تتقدمها الكشافة الإسلامية، تنطلق من معلم الكرمات التاريخي و تتحرك عبر المسار الذي سلكه الأجداد مساء 8 ماي 1945، و عندما تصل الحشود إلى الموقع الذي سقط فيه أول شهيد وسط مدينة قالمة يتلى بيان تنديد بالجريمة الاستعمارية، و مناشدة السلطات العليا للبلاد من أجل تسوية ملف الضحايا، و مساعدة أهاليهم على تجاوز الوضع القانوني الصعب الذي يمرون به منذ تلك المجازر الرهيبة.   
و لم تتوقف جامعة 8 ماي 1945 بقالمة عن دعم مطالب السكان الرامية إلى انتزاع الاعتذار، و إجبار الحكومة الفرنسية على الاعتراف بجرائمها في الجزائر خلال مجازر ماي 45 و على مدى 130 عاما، و ذلك من خلال ملتقى دولي كبير يشارك فيه مؤرخون و باحثون من فرنسا و دول أخرى، لم يترددوا في توجيه الاتهام لفرنسا الاستعمارية، و الدعوة إلى ملاحقتها أمام المحكمة الجنائية الدولية، لإجبارها على الاعتراف و تقديم اعتذار صريح للشعب الجزائر الذي يرفض نسيان الماضي الأليم.  
فريد.غ      

الرجوع إلى الأعلى