في شارع قديم وسط مدينة عين مخلوف الواقعة جنوبي قالمة، يزدحم الناس في طابور طويل أمام محل صغير للحلويات التقليدية، ينتظرون دورهم للحصول على زلابية عين مخلوف، التي سطع نجمها في السنوات الأخيرة، و تحولت إلى قبلة للصائمين المهووسين بالتجوال و السياحة الرمضانية، و البحث عن كل ما هو مميز، من حلويات و منابع مائية طبيعية، و خبز و لحوم  خروف و ماعز و أرانب و دجاج مشوي.
فريد.غ                 
جاؤوا من أم البواقي و جيجل و سطيف و الطارف، و سوق أهراس و سكيكدة و عنابة و قسنطينة، قطعوا مسافات طويلة للوصول إلى عين مخلوف، لشراء زلابية العيد مرزوق الذي سار على خطى بومنجل ملك زلابية وادي الزناتي على مدى عقود من الزمن، قبل أن يترجل و يورث الصنعة العريقة إلى مزيد من الحرفيين المتمرسين الذين طوروا فيها، و حافظوا على شهرتها، كما فعل العيد الذي قضى أكثر من 30 عاما يداعب العجين الأبيض بلطف، و يواجه المقلاة العملاقة،  و حرارة المواقد المستعرة بصبر كبير، حتى لا تضيع الصنعة التقليدية العريقة، و تبقى صامدة أمام متغيرات الزمن و البشر.
دخلنا أشهر محل لصناعة الزلابية بقالمة، و ربما بشرق البلاد أيضا، و عشنا بعض الوقت مع العيد و أبنائه الذين قرروا السير على خطى والدهم، و المحافظة على هذا الإرث التقليدي العريق، عاقدين العزم على مزيد من التحدي و التطور حتى تبقى عين مخلوف أو «ريني» كما يسميها أهلها، متربعة على عرش الزلابية على مدار العام، و تزداد شهرة كلما حل رمضان.
كان المحل الصغير يعج بالحركة و النشاط من الداخل، و بابه مملوء بالزبائن، حتى أنك لا تكاد ترى الشارع أو ضوء الشمس، الكل يريد الحصول على زلابية عين مخلوف قبل العودة إلى الديار، لكن الفريق العامل الذي يقوده العيد البالغ من العمر 66 عاما، بدا غير قادر على مواجهة الطلب الكبير هذا اليوم، و هو يوم السوق الأسبوعي لمدينة عين مخلوف، حيث يتوافد الناس و التجار من مختلف مناطق ولاية قالمة، و من الولايات المجاورة لزيارة المدينة و التسوق و شراء الزلابية ذات النكهة المميزة.
كانت الحرارة داخل المحل الصغير مرتفعة، ربما تتجاوز الأربعين درجة عندما تشتغل المواقد عند الذروة، و يكثر الازدحام عند الباب، و كان علينا تحمل هذه الأجواء الرمضانية المميزة حتى نعرف بعضا من قصة عمي العيد و زلابية عين مخلوف ذائعة الصيت.
زلابية الشعير الأكثر طلبا
يقول العيد مرزوق، و هو يلقي بالمزيد من قطع العجين الأبيض داخل المقلاة العملاقة « بدأت صناعة الزلابية سنة 1988 كعامل عند قدامى الصانعين بالمنطقة، أحببت هذه الحرفة العريقة و قررت الاستمرار فيها و تطويرها بالجد و العمل، لا أريد أن أبقي أجيرا عند الغير بعد أن تعلمت صناعة الزلابية، كان هدفي منذ البداية الاعتماد على النفس، و تأجير محل صغير وسط مدينة عين مخلوف المليئة بصناع الزلابية في رمضان و على مدار العام، لم تكن المهمة سهلة في البداية، كان سلاحي الوحيد هو الجودة و التميز و احترام الزبائن و الوفاء لهم، إذا أردت ان تنجح في أي مهنة و في أي مجال عليك ان تكون محبا لهذه المهنة و تعمل على تطويرها و تستمتع بالنجاح الذي تحققه».
و يصنع العيد 4 أنواع من الزلابية أشهرها زلابية الشعير التي يكثر عليها الطلب في رمضان، و على مدار العام، ثم تأتي زلابية الكاكاو و زلابية البيض، ثم الزلابية العادية ذات النكهة المميزة. و في كل موسم حصاد يشتري العيد ما يحتاجه من الشعير، و ينقيه من الشوائب قبل طحنه و تحويله إلى دقيق خاص بصناعة الزلابية، كما يستعمل أيضا طحينا مميزا تنتجه مطاحن بوشقوف و مطاحن هليوبوليس بقالمة، لصناعة باقي أنواع الزلابية الأخرى.
و يبدأ عمل الفريق على الساعة الرابعة صباحا، و يستمر إلى الثانية زوالا في شهر رمضان، و يتم تحضير العجينة كل مساء حتى تبلغ النوعية المطلوبة و تأخذ شكلها المحدد، و لا يقبل العيد أي تقصير أو تهاون من مساعديه، حتى تحافظ الزلابية على نفس المذاق و اللون و النكهة على مدار العام دون تغيير.
و بالرغم من وصول الغاز الطبيعي إلى عين مخلوف منذ عدة سنوات مضت، فإن العيد مرزوق صانع الزلابية الشهير مازال يستعمل قارورات البوتان، و يرفض التخلي عنها، مؤكدا للنصر بأن هذه القارورات تساعده على التحكم في درجة حرارة المقلاة حسب نوع الزلابية، فلكل نوع درجة حرارة متدرجة تبعا لمراحل القلي.
و واجه العيد أزمة زيت حادة هذا العام بسبب التهافت الكبير على هذه المادة عشية رمضان، بالإضافة إلى نقص السميد و ارتفاع أسعار البيض بالسوق المحلية، و رغم كل هذا كان في الموعد عندما حل شهر الصيام.
تجارة اللحوم المستفيد الأول
و قد تحولت عين مخلوف إلى قبلة للصائمين الباحثين عن الزلابية الشهيرة، فقد جاء مسيعودي أحمد و عقاب عبود، و أصدقاء آخرون من مدينة قصر الصبيحي بولاية أم البواقي لشراء زلابية عين مخلوف، و استكشاف المنطقة في جولة سياحية رمضانية، مؤكدين بأن قصر الصبيحي تتوفر أيضا على صناع جيدين للزلابية، لكن مذاق زلابية العيد بمدينة عين مخلوف يبقى مميزا، و يستقطب هواة هذه الحلوة التقليدية التي لا تخلو منها موائد الإفطار عند الجزائريين في مختلف مناطق البلاد.
يقول خباز و جزار مجاوران لمتجر الزلابية الشهيرة، بأن عين مخلوف تعرف حركية تجارية مميزة في رمضان بسبب الإقبال المتزايد على زلابية العيد من مختلف مناطق ولاية قالمة، و من الولايات المجاورة، و إلى جانب الزلابية يشتري هؤلاء الزوار لحم الغنم و البقر الممتاز، و خبز النخالة المفيدة للهضم خلال شهر الصيام، فقد صارت زلابية عين مخلوف فأل خير على تجار المدينة العريقة، التي يعيش سكانها على التجارة و الزراعة و تربية المواشي و الدواجن بمرتفعات جبل العنصل و سهل الجنوب الكبير، حيث الربيع الفاتن، و حقول القمح و رعاة قطعان المواشي يعزفون الناي و لحن الأمل.
ف.غ                 

الرجوع إلى الأعلى