الخميس 3 جويلية 2025 الموافق لـ 7 محرم 1447
Accueil Top Pub

النصر على درب قوافل السلاح و الأسلاك الشائكة وادى الشحــم: هـنا يرقـدُ فتيـةٌ واجهـوا فرنـسا بأيـدٍ عاريـة

بين شعاب و أودية موغلة وسط الجبال، جنوبي قالمة، يرقد 280 شهيدا، في مقبرة ببلدية وادي الشحم، على الحدود مع ولاية سوق اهراس و على بعد مسافة قصيرة من خطي شال و موريس المكهربين، بعضهم دفن هناك، و البعض جرفته الأودية و نهشته الذئاب الجوعى، كانوا نحو 320 من الفتية الذين آمنوا بربهم و وطنهم، فخرجوا من منطقة القبائل، معقل الولاية الثالثة، قاطعين مسافات طويلة وسط جغرافيا صعبة، متوجهين إلى القاعدة الشرقية، و منها إلى تونس، لجلب السلاح و المؤن، شباب في مقتبل العمر ودعوا الأهل و الأرض التي ولدوا فيها، و اتجهوا شرقا عبر الولاية التاريخية الثانية، يطوون المسافات البعيدة يمشون على الأقدام ليلا و يختفون نهارا، من دوار الى دوار، و من مشته إلى أخرى، و من جبل الى آخر، حتى بلغوا جبال قالمة بين شهري جانفي و فيفري 1958، و هناك بإحدى الشعاب المتخفية انتهت مسيرتهم، بحمام دم أراقه الجنرال بيجار و العقيد جون بيار، في واحدة من جرائم الحرب التي ستظل تلاحق الاستعمار الفرنسي بالجزائر على مر الزمن.

فما قصة جيش الشبان هذا، و ما قصة الفتية الذين ودعوا متاع الدنيا، و خرجوا للجهاد في سبيل الله و الدين و الوطن، في سبيل الحرية و العدالة و الشرف، في سبيل امة أنهكها الاستعمار الطويل، و طمس هويتها و تاريخها، أبشع استعمار عرفه القرن العشرين، تنكشف مآسيه و مجازره، و فضاعته كل يوم، هنا بقالمة و على أرض الجزائر، التي لم تلتئم جراحها بعد، و مازالت تنزف، إلى اليوم.
النصر سارت على درب قوافل السلاح المتجهة الى تونس، تقتفي أثر، جيش الأحرار الحفاة، عبر مسالك وعرة، موغلة وسط الجبال تارة، و أخرى تنحدر بشدة نحو شعاب سحيقة متخفية عن الأنظار و ضوء الشمس.
كان دليلنا العارف بجغرافيا المنطقة و تاريخها، الباحث ناصر حمايدية، لأنه بدون دليل متمرس لن تبلغ موقع تلك المقبرة البعيدة المتخفية.
المسيرة الطويلة إلى النهاية المأساوية

من جبال تيزي وزو و بجاية، و جيجل و سكيكدة، إلى جبال قالمة و سوق أهراس و الطارف، كانت قوافل السلاح في حركة دؤوبة ذهابا و إيابا، نظام محكم وضعته الثورة لفك الحصار المضروب عليها، و الوصول إلى مخازن السلاح المكدس بتونس، قادما من الدول الشقيقة و الصديقة، التي وقفت الى جانب الشعب الجزائري، عندما قرر العمل المسلح في واحدة من أعظم الثورات في القرن العشرين.
نظام تموين محكم أثار قادة العدو، و دفع بهم الى بناء الخطوط المكهربة، و زرع الألغام فيها، لقطع طرق الإمداد بالسلاح و المؤن، و خنق الثورة المتأججة.
و قد واجهت الثورة تحديات كبيرة على خطي شال و موريس شرقا و غربا، و كان «السيلان» كما كان يسميه الثوار، و من بعدهم سكان المنطقة الى اليوم، من اكبر المخاطر التي كانت تهدد قوافل السلاح المتجهة الى تونس، أو العائدة منها، و دارت معارك طاحنة على طول هذا الجدار العازل، على مدى سنوات الثورة المقدسة، بينها معارك وادي الشوك بسوق اهراس، و بئر لعناني و قلعة فيالة، و عيون القصب، و دباغ و مرمورة و مليلة و مجزرة البسباسة و موقعة الجيش العريان بجبال القلالة و أودية المقرون، بقالمة.
حسب المصادر التاريخية فإنه عندما اشتدت المراقبة على الطريقين الرئيسيين للقوافل، عبر جبال هوارة بنشماية و وادي فراغة و بوشقوف شمالا، و الجبل لعكس بحمام النبائل جنوبا، اتخذت القوافل طريقا ثالثا عبر حمام النبائل و الدهوارة و وادي الشحم، نحو معبر رزقون السري، الموجود اليوم على الحدود الفاصلة بين ولايتي قالمة و سوق أهراس، غير بعيد عن موقعة الجيش القادم من الولاية التاريخية الثالثة.
وصل هذا الجيش المتجه الى تونس، منطقة المقرون، قاطعا مسافة تتجاوز 350 كلم، و انتشر بمشاتي المنطقة للاستراحة و التزود بالمؤن الغذائية، حيث كان سكان المناطق الجبلية الملاذ الآمن لجيش التحرير، كلما اشتد عليه الحصار و وقع في كمائن قاتلة، و خاض معارك طاحنة.
معركة غير متكافئة.. حمام دم و جريمة حرب
حسب سكان المنطقة الذين تحدثوا للنصر، فإن هذا الجيش الأعزل بقي هناك يومين متخفيا داخل المنازل و في الجبال و الشعاب، قبل أن يكتشف أمره، و يتعرض لحصار من كل الجهات، حيث سدت عليه كل المنافذ، و تعرض لما وصفه الباحث ناصر حمايدية، لحمام دم و مجزرة مروعة، حيث كان الجيش الفرنسي قادرا على أسره، لكنه قرر إعدام 320 مجاهدا اعزلا من السلاح، منهك القوة من الجوع و البرد و المسير الطويل.
و نقل سكان المنطقة، عن الأجداد الذين عايشوا الواقعة المأساوية قولهم، بأنه من بين 40 مجاهدا كان واحدا فقط يحمل بندقية تقليدية للحماية الذاتية، و ليس للحرب و مواجهة قوة عاتية، و كان قادة العدو يعرفون هذا، لكنهم اختاروا القتل الجماعي لهذا الجيش البطولي، الذي ذهب ضحية جريمة حرب مروعة لن تسقط بالتقادم.
الزين روابحية حارس المقبرة الطاهرة...ما حدث جريمة مروعة

يقول الزين روابحية أحد سكان المنطقة، البالغ من العمر 61 عاما، بان هذا الجيش القادم من منطقة القبائل كان يرتدي ملابس و أحذية بالية، كان اغلبه من الشباب المقبل على الحياة، كاد البرد و الجوع يفتك بهم، قبل أن يصلوا الى جبال و مشاتي المقرون، ربما يوم 18 فيفري 1958، و كان الفصل شتاء باردا مثلجا، و هدير الأودية الجارفة لا يتوقف، و هنا تعرض هذا الجيش للإبادة، على مدى يوم كامل، و نجا خمسة، و عندما أشرقت شمس الثاني و العشرين من شهر فيفري سنة 1958، خرجوا يبحثون عن الدفء، فتعرضوا للقتل، و ليس للأسر كما تنص عليه قوانين الحرب.
عندما تتحول الجغرافيا من ملاذ آمن إلى طوق خانق
و بقدر ما كانت الجغرافيا ملاذا آمنا لجيش القبائل، كما يسميه بعض السكان هنا، بقدر ما كانت عائقا كبيرا، حال دون تمكنهم من الاختباء و الخروج من الحصار، المفروض من طيران العدو و مدفعيته و دباباته، التي اعتلت رؤوس الجبال، تمطر الجيش المنكشف، كما يقول ناصر حمايدية، مضيفا بان كبار القادة الفرنسيين كانوا على علم بان هذا الجيش اعزل، ذاهب للتسلح و بالإمكان أسره كله، لكنهم قرروا إعدامه بوحشية، رميا بالرص و بالحرق.

و حسب المتحدث فقد شارك في الحصار و المجزرة المروعة، كل من الفوج الأول للمظليين بقالمة، و الفوج التاسع للمظليين بسوق اهراس، بقيادة العقيد بيشو، و الفوج الأول للمغاوير بقالمة، بقيادة العقيد جون بيار، و دارت هنا معركة غير متكافئة، ببنادق صيد ضد اعتي قوة عسكرية، و وقعت مذبحة باتم معنى الكلمة، و لعبت الجغرافيا دورا كبيرا في الحد من تحركات الجيش المنهك، و حالت دون خروجه من الحصار المفروض عليه من كل الجهات، وسط طبيعة مكشوفة تماما، حيث تم سد منافذ الفرار عبر الأودية و السيطرة على قمم الجبال المطلة على المشاتي التي لجأ إليها هذا الجيش الغريب عن المنطقة، عندما كان في طريقه الى تونس لجبل السلاح و المؤن، حيث وقع 320 مجاهدا بين فكي كماشة، و كان مصيرهم القتل بوحشية.
و قال المؤرخ عبد الله بن الشيخ، متحدثا للنصر بأن كل ما يعرفه عن قصة هذا الجيش انه جيش التحرير القادم من المنطقة الثالثة، القبائل الكبرى، التي تحولت سنة 1956 الى الولاية التاريخية الثالثة، و نظرا للظروف القاسية التي كان يعيشها هذا الجيش أطلق عليه السكان هذا الاسم.
المرأة الجزائرية...الدرع الحامي للثورة
و عندما وصل المجاهدون الى المنطقة، بدأت المواقد في الاشتغال بقوة و سرعة، لإطعام هؤلاء الجوعى، و تزويدهم بالمؤن الكافية لبلوغ التراب التونسي المجاور، و لعبت نساء المنطقة دورا كبيرا في إعداد المؤن الغذائية، لهؤلاء الضيوف الأبطال، الذين توقفت مسيرتهم هنا بين هذه الجبال، و الشعاب السحيقة، التي تؤرخ لحقبة دامية من تاريخ الجزائر المليء بالأحداث و المآسي و البطولات.
و مازالت نساء المنطقة ينظرن الى هؤلاء الأبطال، الذين يرقدون اليوم في مقبرة تتوسط هذه المشاتي النائية، بفخر و يصفن هؤلاء الضحايا بالأبطال الشجعان، الذين اختاروا بين النصر أو الشهادة، فكتبت لهم الشهادة بين هذه الجبال و الشعاب، البعيدة عن موطنهم و ارض أجدادهم القدامى.
أرض الخيرات التي احتضنت الثورة و قوافل السلاح على تخوم الأسلاك الشائكة
و تمتاز منطقة وادي الشحم، التي دارت فيها المعركة، في شهر فيفري 1958 بالتنوع الطبيعي، و بها مراعي خصبة، و أودية دائمة الجريان إلى اليوم، و بساتين للعنب و التين، و الرمان، و منابع مائية عذبة، لم تتأثر بالتغيرات المناخية، موجات الجفاف المتعاقبة على المنطقة، و لذا كانت مقصدا لقوافل السلاح، قبل تخطيها الأسلاك الشائكة، التي تبعد مسافة قليلة من هذه الموقعة الخالدة، التي تعد من أكبر المعارك التي خاضها جيش التحرير، على تخوم القاعدة الشرقية و خطي شال و موريس، و حقول الألغام، التي بقيت تحصد أرواح الجزائريين تنكأ جراحهم سنوات طويلة بعد استقلال البلاد.
و يتطلع سكان المنطقة اليوم، إلى مشروع كبير لإعادة الإعمار، و تشجيع النازحين على العودة من خلال فك العزلة الخانقة، و التغطية الصحية و الهاتفية، و توصيل مياه الشرب انطلاقا من المنابع الطبيعية الدائمة الجريان، و صيانة المقبرة، و دعم التنمية الزراعية و تربية المواشي، التي تعد المصدر الرئيسي لمعيشة بقايا السكان، الذين كانوا يعمرون هذا الوادي الخصيب.
فريد.غ

آخر الأخبار

Articles Side Pub
Articles Bottom Pub
جريدة النصر الإلكترونية

تأسست جريدة "النصر" في 27 نوفمبر 1908م ، وأممت في 18 سبتمبر 1963م. 
عربت جزئيا في 5 يوليو 1971م (صفحتان)، ثم تعربت كليًا في 1 يناير 1972م. كانت النصر تمتلك مطبعة منذ 1928م حتى 1990م. أصبحت جريدة يومية توزع وتطبع في جميع أنحاء الوطن، من الشرق إلى الغرب ومن الشمال إلى الجنوب.

عن النصر  اتصل بنا 

 

اتصل بنا

المنطقة الصناعية "بالما" 24 فيفري 1956
قسنطينة - الجزائر
قسم التحرير
قسم الإشهار
(+213) (0) 31 60 70 78 (+213) (0) 31 60 70 82
(+213) (0) 31 60 70 77 (+213) (0) 6 60 37 60 00
annasr.journal@gmail.com pub@annasronline.com