يعتبر الشعر الشعبي أو الملحون، حاملا ثقافيا وهوياتيا مهما حسب ابن ميلة الشاعر أحمد قاجة، فهذه النصوص على اختلافها تصب في قالب اللهجة البيضاء التي تعكس كما قال، الثقافة المحلية وتعبر عنها بلغة يفهمها الجميع، وغالبا ما يكون لها وقع النغم على القلوب وتأثير الحكمة على العقول خصوصا القصائد التي تعنى بحرب التحرير.
وتحدث الشاعر للنصر، عن علاقته بهذا اللون الشعري الذي أحبه منذ الصبى، واكتسب فصاحة نظمه وإلقائه بفضل حفظ كتاب الله، كما اشتغل عليه لسنوات خصوصا في جانب وصف الثورة، يقينا منه بأن للقصيدة الشعبية دورا فاعلا في نقل التاريخ مشافهة وتدوينا.
النصر: أحمد قاجة شاعر ميلة وأحد فصحائها، كيف بدأت قصتك مع القصيدة ولماذا الملحون تحديدا؟
أحمد قاجة: قبل أن أكون شاعرا أنا أستاذ تعليم قرآني متقاعد، من مواليد سنة 1950، بمنطقة أولاد بوحامة ببلدية ميلة، ترعرعت وسط عائلة محافظة، حفظت القرآن الكريم في سن مبكرة، رغم الظروف القاسية التي عشتها في القرية بسبب المستدمر الفرنسي الذي عاث في أرضنا فسادا، ولعل هذه الظروف هي ما غذى شغفي بالتعبير، فكان الشعر نافذتي، والشعر الشعبي تحديدا.
واصلت اشتغالي على القصيدة بعد الاستقلال ولي قصائد ودواوين أشهرها «قصائد وأشعار من ثورة الأحرار» نشر لي سنة 2011، بالإضافة إلى أعمال أخرى لم تنشر بعد، بينها ديوان أعرف وطنك من خلال سفريات شاعر في ربوع الجزائر».
أنا عاشق للشعر بكل أنواعه لكني تعلقت بالشعبي منه منذ بداياتي لأني وجدته أبلغ في وصف الثورة والثوار، ولذلك تخصصت فيها منذ السبعينيات، وكان تركزي منصبا على الجانب الثوري كوني ابن بيئة ومنطقة شهدت العديد من المعارك والأبطال الذين دافعوا عن الوطن بالنفس والنفيس لاسترجاع السيادة الوطنية.
شعري ابن بيئته
إلى أي حد أثرت البيئة التي نشأت فيها في تشكيل وعيك الشعري وتوجيه قلمك؟
كان انتقالي تدريجيا كشاب انطلقت في عالم الكتابة من بوابة الخواطر والرومانسيات، وكلما كان وعيي ينضج أكثر كلما كنت أتخصص فتوجهت إلى اللون الشعبي في مرحلة لاحقة لأنتهي شاعرا شعبيا يكتب كثيرا عن التاريخ والثورة، ويصف معارك وأبطال الوطن ومنطقة «ميلاف» تحديدا.
تغنيت في قصائدي ببطولات عبد الحفيظ بوالصوف، ولخضر بن طوبال، وعلي زغدود، و ذكرت معركة «الفكالين» التي راح ضحيتها 39 شهيدا في 31 ماي 1956. كتبتها سنة 1972 وكانت أولى قصائدي الشعبية، لقد كنت أكتب بإحساس عميق لأني عشت ظروف الحرب وعايشت البطولات و بلغني أنين الضحايا في تلك المعارك.
أرسم البطولات وأصور المآسي
هل هو السبب الذي دفعك إلى التخصص في وصف الثورة وصناعها؟
الشعر الشعبي من بين أكثر الفنون التي حفظت الذاكرة التاريخية للجزائر، هي نصوص تخدم وترسخ القيم الوطنية، والفن الأقرب للمستمع نظرا لبساطة لغته فهي لهجة عامية أو دارجة بيضاء مفهومة، نابعة من البيئة المحلية للشاعر وثرية بما تستقيه من الفصحى.
أما عن التخصص، فأود أن أشير إلى أني أكتب عن العديد من المواضيع الاجتماعية، والدينية والوطنية، لكن ركزت في عديد من القصائد على الثورة، من منطلق وعيي بضرورة أن ننصف تاريخنا ونضعه دائما ضمن الأولويات، ولذلك فقد حاولت التعريف ببعض المناطق وبالمعارك التي شهدتها.
ذكرت بطولات الشهداء، وسعيت أيضا إلى تصوير مأساة الغزو الاستعماري الفرنسي الذي استهدف الدين والثقافة والعادات والتقاليد، وحاولت من خلال قصائدي توثيق الأحداث وإيصالها إلى الشباب.تناول شعري محطات ملحمية مثل الفاتح من نوفمبر، وأحداث 17 أكتوبر 1961، بالإضافة إلى أحداث 8 ماي 1945،وجاء في مطلع قصيدة عن هذا اليوم الدامي مايلي: « يوم الثلاثاء كان نهار مشؤوم .... ألاف الأرواح سقطوا في دفعة، خرجوا للتعبير شعارهم مفهوم .... مطلبهم رحيل عصابات القلعة كمثل الشعوب اللي حقهم مهضوم .... تقرير المصير كرها وطوعة، في مثل هذا اليوم الثامن من أي عدوم ... خمسة وأربعين ألف شهيد مروعة ألف وتسعمائة يا قاري المنظوم .... فالخمسة وأربعين مجزرة بشعة، يوم الثلاثاء الطائرات تحوم .... ذبابات مدججة في كل بقعة.»
هكذا خدم الملحون الجزائريين إبان الاستعمار
هل تعتبر شعرك وعاء لحفظ الذاكرة؟
فعلا، حاولت من خلال هذه القصيدة مثلا رسم أحداث ذلك اليوم فالشعر الشعبي يشبه الشعر العربي الفصيح الذي تغنى بالمعارك والبطولات، وكرس صورة البطل الذي يحمل عديد الصفات والقيم السائدة في الثقافة العربية مثل الوفاء والشجاعة. بالنسبة لي، قد يختلف اللونان في الأسلوب واللغة المستعملة لكنهما يتفقان في كونهما شكلا من أشكال التدوين التاريخي لطبيعة المجتمعات ولنمط الثقافة، فالشعر الشعبي كذلك يصور صفات البطل ويرسم صورة الوطن، وهو ما أحاول أن أقوم به عندما أخصص قصائدي وأشعاري لمدح أبطال ثورتنا المجيدة.
قلت إن الشعر الشعبي يساهم في ترسيخ الهوية الوطنية كيف ذلك؟
يستعمل الشعر الملحون اللهجة الشعبية التي يتكلم بها المجتمع ويعالج عن طريقها قضايا اجتماعية مختلفة،وهذا اللون الشعري لعب دورا مهما في تمرير الرسائل وشحذ الهمم إبان الثورة، لأن الأغلبية ما كانت متعلمة ولا تفهم الفصحى، لكنها كانت تستقبل بوعي ما ينظمه شعراء الملحون.
يمكن القول أيضا، إن الشعر الشعبي أو الملحون بجماله استطاع أن يكرس تعلق الجزائري بلسانه المنطوق على اختلاف لهجاته في وقت كان الاستعمار يحاول طمس كل معالم الهوية بما في ذلك اللغة، ولذلك أقول إن الشهر ساهم في ترسيخ الهوية الوطنية.
لا يمكننا أيضا نسيان ما قدمه هذا الشعر للمقاومة الشعبية والحرب التحريرية، لأنه خدمها وكان بمثابة الدعاية لها وصناعها عن طريق تمجيد بطولاتهم.
أي واقع يعيشه هذا اللون الشعري اليوم؟
الشعر الشعبي حظي بمكانة خاصة منذ القدم في وجدان الشعب الجزائري، لكنه يتخبط اليوم ويواجه تحديات لأجل الاستمرار، ولذلك أتمنى لو توليه الجهات الرسمية عناية أكبر خصوصا وأنه يعبر عن أرقى مستويات التعبير في اللهجة الشعبية، وهو جزء مهم من الثقافة حيث يحمل في طياته رسائل تاريخية، ثورية وصورا عن الحياة الاجتماعية.
أقترح مثلا، تنظيم لقاءات ومهرجانات أكثر للحديث عنه والبحث فيه وقراءته، كما آمل أن يوليه الأكاديميون اهتماما أكبر من حيث الدراسة والتدوين.
حاوره: مكي بوغابة