يرى الكاتب والباحث الدكتور بومدين بلكبير أنّه وبالرغم من شيوع وانتشار وتداول كلمة "المعرفة" إلّا أنّها تبقى كلمة فضفاضة وتحمل معاني عديدة ومختلفة في أذهان الكثيـر من النّاس. لذلك وانطلاقًا من العديد من الأدبيات والدّراسات يمكن اِعتبار المعرفة على أنّها خليطٌ من التّعلم والخبـرات والتّجارب المتراكمة، والبيانات والمعلومات، والبـرامج والتّطبيقات التّكنولوجيّة التي يستخدمها الأفراد أو المنظّمات.
حوار: نـوّارة لحــرش
وهذا -كما يُؤكد- جعل الدّول والشّركات تسعى بخطى حثيثة لاِمتلاك المعارف بالكميّة الكافية والجودة المناسبة لكي تزيد من فُرص نموّها وتحسّن من ترتيبها ووضعها في الاِقتصاد الجديد، من خلال تنمية وتطوير أنظمة التّعليم والتّعلم، واِكتساب المعرفة كمورد مُتجدّد ودائم النّموّ يُساهم في خدمة التنمية.
كما يرى من جهة أخرى أنّ الاِقتصاد الثّقافي والإبداعي يُتيحُ فُرصًا جديدة تُحفّز الإبداع والاِبتكار في قطاع الثّقافة والفنون. مِمَّا يدفع عجلة النّموّ إلى الأمام ويسهم في تحقيق التنمية الشّاملة والمُستدامة. مُؤكدًا في هذا المعطى أنّ الصناعات الثّقافيّة والإبداعية ليست حكراً على قطاعٍ دون آخر، ما يستلزمُ قيام مبادرات على أساسٍ مُشترك بين قطاعات مختلفة.
للإشارة، بومدين بلكبير، أستاذ جامعي وباحث وروائي متحصّل على شهادة الدكتوراه في إدارة الأعمال والإستراتيجيّة عام 2013. عضو الجمعيّة العموميّة لمؤسّسة المورد الثّقافي ببيروت. له العديد من الكُتب البحثية العلمية، من بينها: "إدارة التّغيير والأداء المُتميّز في المنّظمات العربيّة" 2009، "عصر اِقتصاد المعرفة" 2012، "الثّقافة التّنظيمية في منظمات الأعمال" 2013، "قضايا مُعاصرة في إشكاليّة تقدم المجتمع العربي" 2015، "العرب وأسئلة النّهوض" 2016. "الاِقتصاد الثّقافي والإبداعي: رُؤى واتجاهات مستقبلية"، طبعة أولى 2022 عن دار بهاء الدين. وطبعة ثانية عن دار الألمعية صدرت شهر جوان 2025.
الاِقتصاد الثّقافي والإبداعي يُتيحُ فُرصًا جديدة
تُحفّز الإبداع والاِبتكار في قطاع الثّقافة والفنون
كما صدرت له ثلاث روايات: "خرافة الرجل القوي" 2016، "زوج بغال" 2018، و"زنقة الطّليان" عام 2021، وهي الرواية التي كانت ضمن القائمة الطويلة للبوكر (الجائزة العالمية للرواية العربية) لعام 2022. كما صدر له كتاب نُصوص بعنوان "النص الأخير قبل الصمت" 2014. شارك أيضا في تحكيم العديد من البرامج والمشاريع الثّقافيّة محليًا وعربيًا، كبرنامج "وجهات" (بيروت2017) لدعم سفر وتنقل المبدعين والفنانين، وبرنامج "المكوّن الاِستثنائي" لدعم الفنانين والمثقفين والتقنيين في الفنون، المتضررين من جائحة كوفيد19 (بيروت 2020).
اِكتساب المعرفة كمورد مُتجدّد ودائم النّموّ يُساهم في خدمة التنمية
أي دور يمكن أن تلعبه المعرفة في خلق فُرص تحقيق الأهداف الاِقتصاديّة؟
بومدين بلكبير: بالرغم من شيوع وانتشار وتداول كلمة "المعرفة" في السنوات الأخيـرة في الكثيـر من دول العالم، إلّا أنّها تبقى كلمة فضفاضة وتحمل معاني عديدة ومختلفة في أذهان الكثيـر من النّاس. لذلك وانطلاقًا من العديد من الأدبيات والدّراسات يمكن اِعتبار المعرفة على أنّها خليطٌ من التّعلم والخبـرات والتّجارب المُتراكمة، والبيانات والمعلومات، والبـرامج والتّطبيقات التّكنولوجيّة التي يستخدمها الأفراد أو المنظّمات. مِمَّا جعل الدّول والشّركات تسعى بخطى حثيثة لاِمتلاك المعارف بالكميّة الكافية والجودة المُناسبة لكي تزيد من فُرص نموّها وتحسّن من ترتيبها ووضعها في الاِقتصاد الجديد، من خلال تنمية وتطوير أنظمة التّعليم والتّعلم، وتكثيف الميزانيات المخصّصة لدعم مشاريع البحث والتّطوير، وزيادة كفاءة وفعّاليّة برامج التّكوين والتّدريب لمواردها البشريّة. وقد خلص الخبـراء الذين صاغوا تقرير التنمية الإنسانية العربيّة لسنة 2003 إلى أنّ اِكتساب المعرفة كمورد مُتجدّد ودائم النّموّ يُساهم في خدمة التنمية، إضافةً إلى تحقيق الأهداف الاِقتصاديّة؛ كتخفيض التّكلفة أو تقليص الزّمن اللازم للإنتاج، وكذلك إسهامها في إيجاد حلول مناسبة لمشاكل التّنمية في مجتمع معيّن وفي وقت معيّن.
الثّقافة عامل إستراتيجي مُحرّك للتّنمية وما انفكّ دورها يتعاظم مع مرور الزّمن
إلى أي حد يُتيح الاِقتصاد الثّقافي والإبداعي فرصًا جديدة تُحفّز الإبداع والاِبتكار في قطاع الثّقافة والفنون؟ وما مدى فعاليّة هذا النوع من الاِقتصاد؟
بومدين بلكبير: طبعًا، يُتيحُ الاِقتصاد الثّقافي والإبداعي فُرصًا جديدة تُحفّز الإبداع والاِبتكار في قطاع الثّقافة والفنون، مِمَّا يدفع عجلة النّموّ إلى الأمام ويسهم في تحقيق التنمية الشّاملة والمستدامة. وعلى هذا الأساس فالثّقافة عامل إستراتيجي مُحرّك للتّنمية وما انفكّ دورها يتعاظم مع مرور الزّمن، وقد أوردت مجلة الإيكونوميست المعروفة في عالم الأعمال، في أحد أعداها، أنّ البلدان بدأت تُدرج عند حسابها لإجمالي ناتجها المحلّي مجالات من الاِستثمارات المتّصلة بالاِقتصاد الإبداعي، ولاسيَّما فيما يخص منتجات الملكيّة الفكرّية (مثل أنشطة البحث والتّطوير، والأنشطة التّرفيهيّة، والأعمال الأدبيّة والفنيّة، والبرمجيات).
يُشكّلُ التّنوع الثّقافي الّذي تتميّز به الجزائر ميزة إستراتيجيّة من المُهمّ اِستغلالها
ما المبادرات والمشاريع التي يمكن اِقتراحها للنّهوض بالاِقتصاد الثّقافي والإبداعي في الجزائر؟
بومدين بلكبير: يمكن التّأكيد على الإمكانات الضّخمة ومنها المُهملة والمغفلة وغير المُستغلّة في الاِقتصاد الثّقافي والإبداعي في الجزائر، في المُقابل يعتبر الاِقتصاد الثّقافي والإبداعي في العالم كقطاع اِقتصادي ناشئ وقوي، يعتمد بشكلٍ كبير على الرّقمنة والتّطوّر في الخدمات. الأمر الّذي يجعلنا نفكّر في تقديم مبادرات واقتراح مشاريع بمثابة رؤى واتّجاهات مستقبليّة من أجل اِستغلال الإمكانات الهائلة لهذا الاِقتصاد الجديد في الجزائر، وتهيئة الظّروف المُواتية له كي يصبح دعامة أساسيّة للأداء الاِقتصادي الوطني.
فالموجودات والموارد والإمكانات الثّقافيّة في البلد متنوّعة للغاية، وبالإمكان أن يُساهم اِستغلالها بكفاءة وفعّاليّة في تحسين الأداء الثّقافي وتوفير وظائف جديدة وقدرات هائلة على تحقيق النّمو الاِقتصادي. خصوصًا إذا تم اِستغلال تلك الإمكانيّات الهائلة في التّغلّب على التّحدّيات في مجال توسيع قاعدة الشّركات النّاشئة في قطاع الثّقافة والفنون، ودعمها في تسويق منتجاتها على المستوى المحلّي والدّولي على حدٍ سواء، وفي كيفيّة توظيف حقوق الملكيّة الفكريّة في إضافة قيمة إلى أنشطتها التّجاريّة، علاوةً على مساندتها في الحصول على التّمويل والتّكنولوجيا اللّازمين لتوسيع وتنمية نطاق عمليّاتها.
ويُشكّلُ التّنوع الثّقافي الّذي تتميّز به الجزائر ميزة إستراتيجيّة من المُهمّ اِستغلالها، خاصّةً في ظلّ التّحمس من قِبل الشّباب المُبدع لخوض غمار إنشاء مُؤسّسات صغيرة ومتوسّطة في مجال الثقافة والفنون واستحداث المضامين الإبداعية الرّقميّة. كما ينتظر كذلك أن يسهم قطاع السّياحة بشكلٍ كبير في دعم تنمية الاِقتصاد الثّقافي والإبداعي.
الجزائر من البلدان التي تُعاني من التّقليد والقرصنة وهما يُشكّلان مشكلة كبيرة (كما هو الحال في عدّة بلدان) على نموّ وتطوّر الاِقتصاد الثّقافي والإبداعي، ومن المُهمّ بذل جهود إضافيّة في مجال مكافحة القرصنة والتّعدي على الملكية الفكريّة، خصوصًا في قضيّة القرصنة عبر الإنترنت.
يجب إدراك الدّور الجوهري الّذي تُساهم به الثّقافة في تنمية وترقية السّياحة
كيف يصبح الاِقتصاد الثّقافي والإبداعي قطاعًا حيويّا في الاِقتصاد الجزائري؟
بومدين بلكبير: من المُهم العمل على تعزيز هذا القطاع الاِقتصادي الإستراتيجي، وفي هذا السّياق يمكننا تقديم واقتراح (كما أسلفنا الذِكر) مجموعة من المبادرات والمشاريع ستكون بمثابة رُؤى واتجاهات مستقبليّة. من بينها: أهميّة نشوء وقيام قطاع أعمال جديد في مجال السّياحة الثّقافيّة. أهميّة الاِستثمار في السّياحة الثّقافيّة كقطاع شبه مهمل في مُدننا، إذ ظلّ لعقود من الزّمن مُعطلًا وبعيدًا عن تحقيق الفعّاليّة والرّشادة في اِستغلال وتوظيف الموارد والموجودات الثّقافيّة المُتاحة على ثرائها وتنوّعها وتعدّدها في مختلف مناطق وجهات البلد.
فمن الأهميّة بمكان على الشّباب المبدع والفنّانين وأصحاب الأفكار الرّياديّة أثناء التّفكير في إنشاء مؤسّسات صغيرة ومتوسّطة في قطاع الثّقافة والفنون إدراك الدّور الجوهري الّذي تُساهم به الثّقافة في تنمية وترقية السّياحة وكذلك الدّور الرّئيسي للسّياحة في دعم الثّقافة والتّرويج لها، خاصّةً وأنّ السّياح والزّوار تجذبهم الثّقافة وتدفعهم إلى السّفر واكتشاف ومعرفة المُدن والأماكن المُختلفة قبل أي شيءٍ آخر. فيقصد الزّائر أو السّائح، أثناء سفره، المتاحف والمسارح والمقاهي الثّقافيّة وحضور المعارض والمهرجانات والعروض الثّقافيّة والأدائيّة، علاوةً على اِقتنائه منتجات وخدمات ثقافيّة وإبداعيّة أخرى، كالكُتُب والمنتوجات الحِرفيّة والتّراثيّة والألبسة المحليّة والسّلع الثّقافيّة المتنوّعة الأخرى كوجبات الطّعام التّقليدي، وغيرها.
فضلًا عن التّوصية بأهميّة مساهمة الإدارة المحليّة للمُدن في شرح الأبعاد الاِقتصاديّة وطاقة القطاع الإبداعي، وفي وضع إستراتيجيّة موحدة ودقيقة وواضحة للثّقافة والسّياحة، بالإضافة إلى السّعي الحثيث على تشجيع إدارة الّثقافة والفنون وتنمية مهارات التّسويق والّتوزيع والتّفكير الإستراتيجي في هيئات ومؤسّسات القطاع الثّقافي والإبداعي الرّبحيّة وغير الرّبحيّة على حدٍ سواء، الأمر الّذي يتطلّب تعاونًا مع الجامعات ومراكز وهيئات ومؤسّسات التّدريب على الصّعيد المحّلي أو الدّولي.
من المهمّ قيام مبادرات مشتركة بين عِدة قطاعات في مجال تسويق وتوزيع الصّناعات الثّقافيّة والإبداعيّة الوطنيّة
الصّناعات الثّقافيّة والإبداعيّة ليست حكراً على قطاع دون آخر. ما يستلزم ربّما قيام مبادرات على أساس مشترك بين قطاعات مختلفة؟ ما رأيك وما تصورك للمسألة؟
بومدين بلكبير: صحيح، الصّناعات الثّقافيّة والإبداعيّة ليست حكرًا على قطاع واحد، وفي هذا السّياق من المهمّ قيام مبادرات على أساس مشترك بين عِدة قطاعات في مجال تسويق وترويج وتوزيع الصّناعات الثّقافيّة والإبداعيّة الوطنيّة في الأسواق المحليّة أو العالميّة.
ومن المُمكن أن يجري في إطار تلك المبادرات تنظيم مرفق أو هيئة مشتركة منوط بها مجموعة من المهام الشّاملة، وقد تُعْنَى كذلك بمجموعة من الأنشطة التي تدعم مختلف فروع العمل في مجال الصّناعات الثّقافيّة والإبداعيّة. ويرمي ذلك إلى تحفيز النّشاط الاِقتصادي وتعزيز تبادل المعلومات والرّبط الشّبكي عبر مختلف أنحاء البلد، وتعريف العالم بجودة الصّناعات الثّقافيّة والإبداعيّة الوطنيّة وبقدراتها التّنافسيّة ومدى تنوّعها (سواء في فنون الأداء، والإنتاج السّمعي-البصري، وفنّ التّصميم، والنّشر، والموسيقى، وألعاب الفيديو، وغيرها).
يجب إدراك الدّور الرّئيسي للسّياحة
في دعم الثّقافة والتّرويج لها
ومن المهمّ على سبيل المثال لا الحصر تعاون تلك القطاعات أيضًا على اِستحداث "سوق خاص بالصّناعات الثّقافيّة والإبداعيّة"، وأن يجرى تنظيمه على أساس اللّامركزية في تنفيذ العمليّات في عِدة مناطق تشمل كلّ جهات الوطن وخارج الوطن كذلك، ومن المنتظر أن يُحقّق هذا السّوق نتائج باهرة، بحيث من المُمكن أن يضمّ مئات الشّركات والمؤسّسات النّاشئة الصّغيرة والمتوسّطة، وأن يكون منبرًا لتحاور المهنيين والحِرفيين في مجال التّجارة والأعمال الثّقافيّة والإبداعيّة، كما سيستفيد منه كذلك الحِرفيين والمُصمّمين والفنّانين في مجال الفنون ومُمارسي العمل الحر على نطاقٍ صغير، ويرمي إلى توفير فرص جديدة للعمل ويُيسر النّفاذ إلى أسواق جديدة داخليّة وخارجيّة، ويُشجع أيضًا على اِعتماد تنظيم جماعي لمُختلف مراحل العمل على نحو يُعزّز القدرة على التّعامل التّجاري، ويزيد قوّة الاِقتصاديات المحليّة في المناطق والجهات.
من المُهم كذلك التّعاون بين القطاعات المُختلفة على إقامة "حاضنات لمُمارسي العمل الحرّ في مجال الثّقافة والإبداع"، والعمل فيما بعد على اِختيار مجموعة من المشروعات لتزويدها بالتّدريب في المجال التّقني ومجال الشّؤون الإداريّة، وبالمشورة. علاوةً على إنشاء هيئة أو مركز مُتعدّد المرافق، وذلك بتنظيم سلسلة من حلقات العمل المُتنقلة عن الاِقتصاد الإبداعي، والمُدن المبدعة، والتّنمية المحليّة، وذلك كخطوة أولى نحو إقامة البرنامج الثّقافي والإبداعي الوطني.