هل ساهمت المواقع وثقافة المواقع المعروفة بالسيولة والاِستهلاك التي تفرضها التكنولوجيا الجديدة في إبعاد النّخبة الثّقافيّة و(المُثقف الجزائري على وجه التحديد) عن الواقع وأحداثه؟ وهل أصبحت هذه النُخب بمختلف حساسيّاتها ومشاربها الفكريّة والثّقافيّة وحتّى الإيديولوجيّة، غير قادرة على مُساءلة بعض إشكالات وإرباكات وسيّاقات الواقع، سواء من ناحية المُمارسة أو الأداء؟ و ما مدى قدرة "النُّخبة الثّقافيّة" على مقاربة وتحليل ودراسة الأحداث والواقع، وما مدى فاعليّتها في الحضور على مستوى (الواقع) وارتباطها بتحوّلات المجتمع؟ و هل النُّخبة الحقيقيّة الفاعلة الآن، هي تلك الموجودة/ أو المتواجدة في المنابر الإعلامية والمهرجانات والمؤتمرات والصالونات ومواقع التواصل؟ ومن جهةٍ أخرى، هل تختلف وتتباين أو تتقاطع الرُؤى والتصوّرات والمواقف والأفكار والمشاريع بين نخبة تعيش في غُرف المواقع ونخبة أخرى تعيش على أرض الواقع؟
أعدت الملف: نـوّارة لـحـرش
حول هذا الموضوع ، كان ملف هذا العدد من "كراس الثقافة"، مع مجموعة من الكُتّاب والنقاد والباحثين الأكاديميين، الذين تناولوا وقاربوا الموضوع كلٌ من زاويته وحسب وجهات نظر مختلفة ومتباينة، لكنها تلتقي وتتقاطع في الكثير من النقاط.
الكاتب والناقد عبد الحفيظ بن جلولي
فعّالية النّخبة تنطلق من كلّ المنابر بما فيها المواقع
يقول الكاتب والناقد عبد الحفيظ بن جلولي، من جهته: "اِعتدنا أن نُسمّي الفاعل المجتمعي والثّقافي والمعرفي نخبة، وبالتالي، يتأكد المفهوم عند معنى الشّخص الّذي يملك المقدرة على تحريك الأشياء وفق فكرة ورؤية وتصوّر. لكن بمقاييس الحضور في الواقع نرى أنّ كثيرًا من النّخبة لا تُحرّك ساكنًا اِتجاه ما يعتلجُ في ظاهر أو باطن المُجتمع من أحداث كُبرى، فهل تقع التّسمية (نخبة) على كلّ من تَحَدَّثَ بميزان النّظرية والرّؤية والتصوّر؟ وهل يملك من اِتّصف بهذه المعايير القدرة واقعًا على تحريك الأشياء وخلخلة الرّاكد وبناء التصوّرات بِمَا يتواءم ومنظورات الواقع؟".
ثمَ أضاف مُوضحًا: "أن توجد النّخبة شيء لا غُبار عليه، لأنّ العقل لا بدّ أن يشتغل ضمن إنتاج المُصطلح، وبالتالي، مفهوم (نخبة) باِعتباره نتاج التّفكير موجود على خارطة المُجتمع بمعاييره وخصائصه، ولكن ما ينقص المُصطلح هو كيفية تفاعله مع الواقع وإنتاج الأثر، فالمثقفون باِعتبارهم يصدق عليهم وسم (النخبة) أو هكذا تعارف الوضع المجتمعي على من يتصدّرون أي مشهد، لا يخرجون عن النّموذج القائم في فقدان الفعّالية، وقد لا يكون هذا مُتعلّقًا بهم في ذواتهم كمثقفين، فالمجتمع كتلة واحدة لابدّ أن تتحرك كافة عجلاتها دفعةً واحدة كي تتحدّد الأهداف والغايات وتتركز الجهود في عملية الدّفع حيثُ كلّ عجلة تصرف كمية من جهدها لدفع العجلة المُقابلة".
ومُستدركًا، يُضيف: "ولكن ما ينقص فعّالية المُثقف باِعتباره نخبة هو عدم وعي ذاته باِعتباره سلطة، فالنّخبة قبل كلّ شيء يجب أن تتحدّد عمليًا في مستوى (السلطة)، سلطة في ذاتها بعيدًا عن مفهوم السلطة السياسي، وعدم تحقّق هذا الشّرط يُخِلُّ بوظيفة (النّخبة)، وبالتالي، تُصبحُ غير قادرة على اِحتواء المشهد الثّقافي فضلاً عن بعثه في إطار مُتعدّد ومتنوّع ومُتجدّد. ومِمّا يُؤسف له أنّ الكثير من شرائح النخبة المُتعلقة بالشّأن الثّقافي تُؤمن بالتعدّد والاِختلاف نظريًا لكن لا تُمارسه ولا تقبل به واقعيًا، مِمَّا يدفع إلى ضرورة إعادة النّظر في المفهوم".
وأَرْدَفَ مُواصلاً فكرته: "لأنّنا عندما يُحيلنا الوعي على المُجتمع نكتشف أنّ الواقع يتحرّك بقدرات من لا يصنّفهم (الوعي المزيّف) في خانة (النّخبة)، وهنا نقف أمام إشكاليتين: إشكالية التّعريف، وإشكالية التّصنيف. فالنّخبة تجد مصداقيتها العملية في من يُشكل له الركود هاجسًا مُؤرّقًا، بمعنى أنّ الفاعل بالمفهوم النّخبي هو من يتأسّس ضمن النّخبة الفاعلة، فيصبحُ على مستوى التّصنيف هناك (نخبة فاعلة) و(نخبة خامدة)، ومنه يتأسّس التّعريف وِفْقَ معايير (العمل) و(الميدان)، فالنّخبة هي من تُنتج مفهومًا للعمل في الواقع مِمَّا يسمحُ لها بالنزول إلى الميدان قَصْدَ تحويل الفكرة إلى مشروع".
مُضيفًا في ذات السّياق: "في المجتمع الفاعل تكون الأفكار والأعمال مُتجاورة، ويكون مفهوم النّخبة عمليًا بالدّرجة التي ينخرطُ فيها المُجتمع كليةً في تحقيق المشروع المجتمعي، فلا معنى لنخبة بدون تأثير، والطبقة التي تتأثر بأفكار النّخبة تسمحُ باِنبثاق مجتمع العمل، وهو ما يسمح بأن يأخذ مفهوم النّخبة معناه الكامن في الفعاليات التي تجعلُ كلّ فئة مجتمعية نخبة على مستوى حضور فعاليّتها".
مُؤكدًا في ذات المعطى، أنّ الحضور الإعلامي والمهرجاني والصّالونات والمؤتمرات ومواقع التواصل ليست بنيات دالة في ذاتها على النّخبة بل هي مستويات لدلالة على فعّالية النّخبة التي تنطلق اِبتداءً من تلكم المنابر بما فيها طبعًا (المواقع) لتُباشر فِعل الإنجاز على مستوى المشروع.
وخلص في الأخير إلى القول: "لأنّ عمل النّخبة الحقيقية يبدأ من حيث (التّكديس) الّذي يصبحُ هويّة المجتمع الاِستهلاكي، إذ يُشكل المُؤشّر على المُبادرة لتفعيل (الأشياء) و(الأشخاص)، ومنه التحوّل تدريجيًا إلى مجتمع الأفكار، لكن عمل النّخبة على هذا المستوى في مجتمعات تعطّل فعالية العقل، بالضرورة تهمّش النخبة وترمي بها إلى زاوية الإهمال حيثُ تفقد حريتها وقدرتها على الفعل النخبي المُميَّز بالتّغيير".
الناقدة والباحثة آمنة بلعلى
النّخبة الحقيقية لا تشتغل في تدوير أفكار الغير
تقول الناقدة والباحثة الدكتورة آمنة بلعلى: "قد يبدو النقاش وهميًا إذا سلّمنا بوجود نخبة جزائرية حقيقيّة، مادام مفهوم النخبة عندنا يتحدّد بوجود مثقفين يشتغل كلّ واحد في مجاله، ويُقدم كتابات واصفة تُعيد الاِشتغال على منظومة المفاهيم والمصطلحات التي أنتجتها نُخبٌ أخرى اِرتبطت أساسًا بمجتمعاتها غربية كانت أو عربية".
وهو ما لا يمكن الاِطمئنان إليه؛ -تُضيف المُتحدّثة-. لأنّ مفهوم النّخبة، -كما تؤكد-: "يرتبط بمدى قدرة مجتمع ما وثقافة معيّنة على صناعة نماذجها الخاصة التي تتشكّل في هيئة مدرسة أو حركة فكرية ذات أبعاد اِجتماعية وسياسية وثقافية وترتبط بوعي مشكلات مجتمعها وأسئلته الحقيقية، والتفكير في الحلول المناسبة، وتكون قادرة على الاِستقطاب وتوجيه الرأي العام، فضلاً عن طرح مشاريع ونصوص مُنتجة لأفكارها الخاصة، وتكون محلّ إقبال حقيقي يُصحَّحُ به الوعي الزائف، ويتحقّق به الخلاص الثقافي، وتخلق نوعًا من الحراك المُنتج الّذي يُؤمِن بالتغيير من أجل التطوّر الاِجتماعي بالتعرف على المشكلات الحقيقيّة".
وهنا أردفت: "لعلنا لا نختلف إن قلنا بأنّ هذا النوع من النّخب لا يوجد في الجزائر لسببٍ بسيط يرتبط أساسًا بطبيعة المُثقّف وبالصورة التي يقدّم بها نفسه للرأي العام منذ الاِستقلال، حيثُ لم نستطع أن نُنتج نموذجًا ثقافيًا لِمَا يمكن أن يسهم في تشكيل نخبة فاعلة، بل لاحظنا أنّ مشاريع مثل هؤلاء المثقفين قد تمَ تهميشهم أو تدجينهم وتحويلهم إلى مجرّد موظفين يحاولون كسب رهان منصب ما في السلطة".
وفي ذات السّياق، تقول: "يبدو أنّ قيوداً أخرى تتسلّل من هنا وهناك إلى المُثقف، وخاصةً في ظل ثقافة السيولة والاِستهلاك التي تفرضها التكنولوجيات الجديدة، أسهمت في اِبتعاد المُثقف الجزائري عن الواقع، وجعلته لا يستطيع أن يخلق مشروعه النخبوي الّذي تقف الكثير من العراقيل المُختلفة دون تحقيقه، وتحولُ دون ظهور فاعلين اِجتماعيين حقيقيين، يعبّرون عن مختلف شرائح المجتمع، ويكونون قادرين على حسن تدبير وعيهم الخاص، وذلك لتجاوز حالة الإفراط في التبعية التي يعيشونها، والمقصود هنا أولئك الذين يدعون أنّهم مثقفون كبار وهم لا يتوقّفون عن إعادة تدوير أفكار غيرهم".
واختتمت بقولها: "إنّ مفهوم النخبة في تصوّري البسيط، ليس طفرة في الزمان والمكان، فهو نتاج تحوّل تاريخي، له موقعه في تاريخ الأفكار المُرتبطة بمجتمع معيّن، فالنُّخبة تُجسِّد تلك الحاجة الطبيعية لتأكيد الهويّة الاِجتماعية التي تُمكّنها من تأدية دورها في المُجتمع، ومن ثم، لا نستطيع التحدّث عن تكوين نخبة جزائرية، إذا لم نضع في الحسبان مُلابسات نشوء النّخبة الجزائرية الوطنية منذ بداية القرن العشرين، لكي يتم تشكيل نخبة في ضوء سردية مواطنة تشتغل وفق حلّ إشكاليات الإنسان الجزائري في وقته وفوق ترابه".
الناقد والأكاديمي محمّد خطاب
النّخبة هي التي تظل على انتباه واحتكاك بالواقع
يرى الناقد والأكاديمي الدكتور محمّد خطاب، أنّ النُّخبة كلمة فيها كثيراً من التمييز والإبعاد. التمييز من حيثُ الصفة، والإبعاد من حيث الوعي القَلِق. الإبعاد بالمعنى الّذي ذكره "فوكو" في تحليله للمؤسسات العقابية.
مُضيفًا: "تمنحُ الصفات المُميّزة للنُّخبة كي تمنح هي بدورها حق الوجود للمؤسسات، وتستطيع النُّخبة بطريق لا واعٍ أن تتحوّل هي ذاتها إلى مؤسسة مثلما نتحدث عن نخبة مُكرسة. هذا التمييز الّذي يُمْنَحُ لها يقودُ بدوره إلى تحلل فكرة الثقافة، وتفكك كلّ مفاهيم القيم التي تنهضُ بالإنسان مثل المقاومة والنضال والحرية. أتحدثُ هنا عن نخبة مصنوعة لا صانعة، موجودة بغيرها لا بذاتها". وفي ذات السّياق، يُواصل قائلاً: "ترسيم النُّخبة يقومُ على معيار ساذج في العموم (بعيداً عن كلمة نخبة حيثُ ترن في كتابات فلاسفة النضال والمُقاومة والقضايا الكُبرى) معيار التسمية في وطن أو في بعض الأوطان يقوم أساسًا على الاِختيار المُتعمد مع التحييد المُتعمد، اِختيار مواقع الضوء والعتمة، فالإعلام مثلاً واجهة مُتسيدة لخلق نُخب لا تعرف لها وجهة سوى الوجهة المرسومة سلفاً. فالنُّخبة الجاهزة سلفًا والآهلة بالفراغات والطموح الدائم للسراب هي التي تتصدر المشهد، لأنّها تحب الظهور وترى فيه الواجهة الحقيقيّة والصورة المثاليّة للخطاب الثّقافيّ". وهُنا أضافَ مُوضحًا: "إنّ مفهوم النُّخبة قائم على التميّز والاِختلاف والإقلاق خاصةً كما يقول إدوار سعيد. لا بدّ أن يكون دورها خلخلة الموازين بخطاب مُختلف وقوي، وهذا لا ينشأ في النّور المُسلط، بل في المواقع الصامتة للذات التي تُراهن على التغيير الفعلي والقائم على أساس القيم الإنسانية الكُبرى: الحرية والعدالة وكرامة العيش. النُّخبة هي مُمارسة الخروج الدائم عن السائد، وهي النقد الواعي والمُستمر والصبور للمؤسسات، والاِنتباه للخيوط التي تُحاك كسجن مُحتمل لها".
هذا الاِنتباه -حسبَ الدكتور خطّاب- يُعَبِّر عنه الخِطاب الّذي يقتات من تحوّلات المجتمع والتاريخ. الاِنتباه للمُتغيرات التي تُوحي باِحتمالات الخطاب، وكيفية التعامل مع كلّ أشكال المفاجآت.
لأنّ المُؤسسة -حسبَ رأيه- مُنتبهة باِستمرار لكلّ الخطابات المُضادة، وتملك من الأساليب لتدوير الزوايا وتحويل النظر عن القضايا الحقيقيّة.
مُؤكدًا في ذات الاِتجاه، أنّ المُؤسسة موجودة أساسًا لخلق نخبة مُوجهة، وحقيقة النُّخبة أنّها ضدّ كلّ توجيه مُسبق، وهذا يعني العلاقة الضديّة القائمة في الخفاء والعلن بين المؤسسات والنُّخب.
ثمَ أردفَ: "النُّخبة قائمة على مبدأ الصراع الدائم لا على مبدأ الوفاق، حتّى مع نفسها. هذا هو المعنى الحقيقي الّذي يمكن منحه لكلمة (نقد). النقد المُستمر للذات، وللآخرين ليس من أجل النقد ذاته، بل من أجل فهم المُتغير في الإنسان والعالم والوجود. ثمّ التاريخ هو المعيار لفهم النُّخبة لأنّه فضاء للتعري الحقيقي، فكلّ فعل ثقافي إلاّ وقد ظهرت ملامحه للنّاس بكلّ الوجوه المُحتملة".
واختتمَ بقوله: "النُّخبة الهامشيّة التي ظلت تُراهن على الإنسان كقيمة القيم، ظلت هي هي، وخطابها تعدى الحدود، أمّا النُّخب المصنوعة فماتت مع موت المُؤسسات، وصارت أيقونات بالمتاحف، لهذا تبقى النّخبة الحقيقيّة هي التي تظل على تواصل واتصال وانتباه واحتكاك بالواقع وما يحدث فيه، لا التي تهدر أوقاتها وأيّامها وجهدها في مختلف المواقع وبلا طائل أو تأثير يُذكر".
الكاتب عبد الكريم ينينة
لا تأثير للنخبة الثّقافيّة لا في الواقع ولا في المواقع
يرى القاص والكاتب عبد الكريم ينينة، أنّه لكلّ قطاع حيوي في البلد نخبته التي تعمل وتحمل هم تحقيق الأفضل للبلد، على غرار النّخبة التي تقف في طليعة الشأن الصحي أو الإعلامي أو غيرهما من القطاعات.
وتعد النّخبة الثّقافيّة -حسب رأيه- أضعف حلقة في سلسلة النُّخب الوطنية، سواء من حيث المُبادرات أو من حيث كيفية وترقية أداء ذلك بمعية المؤسسة الثّقافيّة التي غالبًا ما تتخلى عنها وعمّا تُقدمه من مبادرات وأفكار، وتتمثل نخبتنا الثّقافيّة في أولئك الفاعلين من الفنانين والكُتّاب والجامعيين الذين يقفون في الطليعة ويُحاولون التأثير في الساحة بآرائهم حول الشأن الثقافي، أو بِمَّا يُنتجونه من مادة فنيّة أو فكريّة.
مُضيفًا في ذات السّياق: "في الجزائر يُلاحظ بروز عينات خارقة لتجارب فردية في بعض الولايات صنعت الفارق بمفردها، لكن الأمر هنا يعنينا كمجموعة وطنية وليس كأفراد، وإن كان يصعب في هذا المقام تشريح الوضع الثقافي العام لدينا، فإنّ هناك تشابهًا كبيرًا مع ما يحدث للنُّخب الثّقافيّة في الوطن العربي، فإن كانت في أغلبها تُصنع وتُحرَّك من طرف دوائر تنتمي لصُنّاع القرار وبدعم مادي ومعنوي بشكل يجعل منها مرجعيات ذات تأثير في الوسط، وغالبًا ما يتم ذلك على أساس ثقافة ما قبل وما بعد أوسلو، فإنّ الوضع عندنا لا يختلف كثيرًا".
مُستدركًا بالقول إن: "تأثير الإيديولوجيا والاِنتماء السّياسي بمفهومه الضيق واضح جداً، والتنافس وإن كان خفيًا فهو محتدم حول التموقع للتأثير من أجل المصالح القريبة وذات الاِتجاه الواحد في بعض الأحيان، إضافةً إلى ذلك وجود مؤسسة غارقة في التنشيط، وتفتقد إلى روح الاِستثمار في الطاقات الإبداعية والفكريّة بِمَّا يخدم المشروع الوطني المُشترك، ولها نخبتها الخاصّة بها التي تنتقيها على المقاس من الوسط، لتبرير فشلها، أو لتتستر بها عند الحاجة".
ومُتسائلاً يُواصل: "أحيانًا أتساءل عن مدى جدوى الاِتحادات والجمعيات والهيئات الثّقافيّة التي تُسيرها النُّخب المُهيكلة داخل ما يُسمى بالمجتمع المدني، يحدثُ كثيراً، بل غالبًا أن أُسِستْ هيئات ثقافيّة وتولى أشخاص مكتبها الوطني عن طريق التصويت فانبرت لهم الفئة التي لم تفز في الاِنتخاب تُنافحهم طيلة عهدتهم، وتُعرقل مهامهم، وهكذا دواليك، فيذهب الفعل الثقافي بين سنابك خيل الفئتين".
ثم أردف: "لم تكن يومًا النُّخب بريئة من بعض المسؤولية في فشل المشروع الثقافي الوطني، أحيانًا أتفهم الأسباب الذاتية لعدم تأثير النُّخبة في المشهد الثقافي وعدم قدرتها على إنعاشه وأتفهم موقفها بالتشبث بالأثر القريب، وعدم اِنحيازها للمُشترك، وأتفهم أيضًا يأسها من مسؤول لا يُبالي، وإحباطها من مؤسسة ثقافية محلية أو وطنية على رأسها أشخاص لا ينتمون لها بقدر ما ينتمون لسلك الوظيف العمومي كجهاز، يُسيرون الشأن الثقافي برؤى التنشيط وليس برؤى التأسيس، معقّدون من النُّخبة ويرون آراءها ضربًا من الخيال والطوباوية ومقترحاتها شطحاتٌ بعيدة عن مدونة قانون الوظيف العمومي الّذي يحفظه أولئك المسؤولون عن ظهر قلب".
مُؤكدًا في هذا المعطى، أنّه لن تكون لدينا نخبة ثقافيّة حقيقيّة بدون مؤسّسة ثقافيّة على رأسها أشخاص هم أيضا من النُّخبة الثّقافيّة، ولن يكون هناك تناغم بدون تقارب في الرؤية نحو المشكل الثقافي الوطني، بعيداً عن كلّ ما هو ذاتي وآني أو سلطوي.
مُضيفًا: "لقد طال الزمن ولم نُؤسس بعد مشروعنا الثقافي الوطني، ستون سنة مرت بل وأكثر، ولا نزال نُراوح في نفس الدائرة، بهياكل ثقافيّة قاعدية هائلة، لكنّها بأشخاص يُنَشِّطون ولا يُؤسسون، يتحرجون من الخطاب الثقافي الحقيقي، ومن آراء النُّخبة التي دائمًا ما تُلامس حقيقة الوضع وتُقدم البدائل".
وفي ذات الفكرة، واصل قائلاً: "والأهم أيضًا والّذي يتغاضى عنه القائمون على الشأن الثقافي هو أن لا مؤسسة ثقافيّة حقيقيّة بدون نخبة ثقافيّة حقيقيّة، ولهذا نرى غياب الجدوى من أغلب الفعّاليات الثّقافيّة المحلية والوطنية، لأنّ المؤسسة بكلّ بساطة تقوم بالتنشيط ولا تقوم بالتأسيس للفعل الثّقافيّ المنشود، القائم على الحريّة والتعدّد، مثلما هي الجزائر بتنوعها المُتكامل وتميّزها المُتفرّد".
وعليه -حسب ينينة دائمًا- "فلا تأثير للنّخبة الثّقافيّة لا في المواقع ولا في الواقع. وربّما وهم وسيولة وسهولة المواقع واستنزافها لوقت وجهد المُثقف أبعدت هذا الأخير عن الواقع".