زاد إقبال الكثير من الكُتّاب والأدباء على مواقع التواصل الاجتماعي في السنتين الأخيرتين، وتحديدا منذ بداية جائحة كورونا وما رافقها من حجر صحي، وكثر نشاطهم عبر منصات يوتيوب و تيك توك و إنستغرام و فيسبوك، فكانت البداية أولا بنشر مقالات و مشاركة بعض النصوص، ثم انتقل الأمر إلى مشاركة اليوميات و الصور الخاصة، و من ثم تقديم محتوى شعبي يخرج عن قالب الأدب والثقافة المعتاد.

*   إعداد: نوّارة لحـرش

لغة أبسط لأجل جمهور أوسع
يتوقف المتصفح لمواقع التواصل الاجتماعي مؤخرا، عند فديوهات و صور و منشورات قريبة لما يقدمه صناع المحتوى الشباب، كأن تتحدث كاتبة عن ماركات لباسها و تنشر فيديوهات على تيك توك تتحدث فيها عن عطلتها أو عن حياتها الخاصة، أو ينشر شاعر و إعلامي صورا لرحلته أو لوجبة عشائه و يرفقها أحيانا بأحد نصوصه التي قد يهديها إلى زوجته مع باقة من كلمات الغزل، وقد نجد كتابا أكاديميين اختاروا يوتيوب مثلا للحديث عن أعمالهم أو عن الأدب والثقافة، ونجدهم على فيسبوك وتويتر، يسبحون مع تيار التوندوس و الترند و يتفاعلون مع الحدث ويعلقون على كل ما يصنعه، حتى وإن تعلق الأمر بخبر عن فنان أو مباراة في كرة قدم، مع استخدام أسلوب قريب إلى الدردشة مع صديق، و المُلاحظ أيضا، أنّ اللّغة المُستعملة من خلال هذه المنصات، عادةً ما تكون سهلة وبسيطة وفي متناول مختلف شرائح المجتمع، وتشعرك وكأن الأدباء تخلوا عن اللّغة المكثفة العميقة وانتهجوا مخاطبة القراء والمشاهدين بلغة سهلة تلامس لغة يومياتهم، من أجل كسب أكبر عدد من القراء والمتابعين.
تُساهم في الترويج لكنها تستدعي كثيراً من التنازل


يقول الكاتب والمُترجم بوداود عميّر، حول هذا الشأن: « لم يعد خافيًا الدور الّذي صارت تلعبه مواقع التواصل الاِجتماعي والمنصات الرقمية بمختلف أنماطها، في التسويق والترويج للكُتُب والإغراء على اِقتنائها وقراءتها، وذلك بفضل سرعة انتشارها ووصولها إلى فئات عريضة من القُراء، مهمة باتت تتأخر عن تأدية مهامها المجلات والصُحف أو ما أصبحت تُسمى الوسائل التقليدية».
 مضيفًا : «الهاتف النقال بوصفه الأرضية المجسدة لمنصات التواصل، صار يملكه الجميع، ويتصفح محتوياته الجميع في أي مكان وأي لحظة زمنية، فليس غريبًا أمام هذه المنافسة الشرسة في التواصل، أن تعلن صحف ومجلات ورقية انسحابها من الميدان الإعلامي، أو على الأقل أن تفرد لنفسها موقعًا الكترونياً وسط هذه الثورة الرقمية، التي لم تُحدث تغييراً فقط في مجرى الإعلام والاتصال بل ومجرى حياتنا، كما أنّ الصُحف نفسها باتت تستورد مادتها الإعلامية في مواكبة الإصدارات وجديد الكُتّاب من مصدر وحيد هي مواقع التواصل الاجتماعي».
و يرى بوداود عميّر، كذلك، أنّ عددا من الكُتّاب كان يبدو عليهم التردّد في التعامل المُباشر مع هذه الوسائل العصرية في الاتصال لسببٍ أو لآخر، لكنهم في الأخير رضخوا للأمر الواقع، ومن المؤكد أنّ هذه الوسائل العصرية بفضل جملة من المعطيات الموضوعية، تُساهم مساهمة فعّالة في عملية الترويج للكاتب والتعريف بأعماله، من سرعة في الإعلان والانتشار الأُفقي، إلى إمكانية النقاش الآني مع الكاتب والتواصل معه.
وخلص في الأخير، إلى أنّ خاصية التمويل على فيسبوك و المنجزة من طرف الكاتب أو الناشر، تُتيح تسويق الكِتاب والتعريف بالكاتب نحو عددٍ كبير من القُراء، ليسوا بالضرورة من أصدقائه ومتابعيه، لكنّها بالمُقابل تستدعي الكثير من التنازل في التواصل و في إبداع أسلوب جديد للكتابة يتوخى البساطة، والتكثيف بعيداً عن اللّغة الأدبية المُعتادة، وتتطلب أسلوبا يُواكب السرعة في مجالي التبسيط والإيجاز.
سحبت البساط من الورقة والكِتاب لفائدة الصورة


أما الكاتب و المترجم فيصل الأحمر، فيقول : « هذا الموضوع على درجة كبيرة من الحساسية، وذلك لأنّ فيه مجموعة من القيم المُتقاربة المُتداخلة التي إن لم نتعاط معها بذكاء، ستتداخل وتفسد أحكامنا ووجهات النظر التي نتخذها أو التي نصنعها، وأقول نصنعها لأنّنا أمام حالة جديدة تماماً عمرها أقل من عشرين سنة». و يتساءل الأحمر، عن ما يمكن أن يحدث للنص الأدبي في زمن منصات التواصل، و يُواصل قائلاً: « لقد كان النص في الثقافة الإنسانية ثابت القوائم، مجموعة جُمل حاملة لمعان و تمثيلات معينة للعالم يحدها بياض ما، يقرؤها النّاس يتذوقون قيمتها ويتناقشون حولها... ثمّ جاءت بدايات الألفية الثالثة ببعدٍ جديد وهو البُعد متعدّد الحوامل للنص، وقد بدأ تأثير الميلتيميديا يظهر جليًا مع نهايات الألفية، ثمّ جاءت منصات التواصل الاِجتماعي والمنصات الرقمية لكي تسحب البساط تمامًا من الورقة والكِتاب لفائدة الصورة، والفيلم القصير، و الميمز و للتقديم بالفيديو والأشكال المُختلفة التي تجذب اِنتباه النّاس فيذهبون صوب الكِتاب ورقيًا كان أو اِلكترونيًا... ثمّ بسرعة صرنا نرى أهمية ومركزية غير مبررتين لكُتُب ينتشر ذكرها بين النّاس بشكلٍ مُرعب يقتنيها القُراء فيصابون بخيبة عظيمة، ولكن هذا لا يثني أحداً عن اِقتناء الكِتاب السخيف الموالي، والخيبة لا تثني أحداً عن الذهاب كالمشاة نيامًا صوب الكِتاب الموالي، الّذي سوف يحظى بفرصة الدعاية المُكثفة التي تحدث على الفيسبوك و الإنستغرام و التلغرام و الريديت، وباقي منصات التواصل الاجتماعي والمنصات الرقمية التي تتميز بالحيوية والعدوى الشديدة وسط شباب القُرّاء على وجه الخصوص» .
أمّا الكُتّاب ـ يضيف صاحب «ضمير المتكلم»- فيتطورون إزاء هذا تطوراً بطيئًا جداً، وربّما يعني هذا الحكم الجزائريين أكثر من غيرهم، ففي حين نجد الكُتّاب الشباب يظهرون مرونة كبيرة إزاء اِستغلال هذا الخزان الكبير لإمكانيات الدعاية نجد الأكبر سناً (وهم، في الغالب، الذين يصدرون كُتبًا جميلة واعية يُعوّل عليها) بطيئين متثاقلين يستهجنون الدعاية المكثفة والفجة في كثير من الأحيان لكُتُب يعتقدون (كما تربوا في الماضي) بأنّها عليها أن تأخذ ما ينبغي لها من وقت لكي تجد قارئها، وتجد من يفكك طبقات الدلالة وغرف الجمالية التي تختزنها.
الأحمر قال في ختام حديثه: « أعتقد أنّ ما ينبغي فعله هو تنظيم دورات تكوينية للكُتّاب الأكبر سنًا في طُرق اِستغلال هذه المنصات، لأنّه لا مهرب من إجادة هذه التقنيات إذا أردنا لكتاباتنا أن تستمر ولا تندثر... وهذا واحد من إملاءات الزمن الّذي نعيش فيه، بعيداً عن الشيطنة أو الدفاع المُستميت عن الشيء أو عن نقيضه. فلكلّ زمن إملاءاته أو إبيستيماته كما يسميها ميشال فوكو، وهي معطيات تتعالى فوق النّاس والإرادات، هي هكذا وكفى، لا تُناقش ولا تُساوم».
لا غِنى عنها وعن التفاعل الرقمي في حياتنا


من جهته يقول الأستاذ والباحث الأكاديمي الدكتور لطفي دهينة بهذا الخصوص: « الفضاءات أو المنصات الإِلكترونية كانت معروفة منذ مدة ليست بالقصيرة، لكنّها لم تكن تُمثل بديلاً عن الصالونات والفعاليات الثقافيّة المختلفة، وربّما في الآونة الأخيرة أصبحت شيئًا مُرافقًا لها تُساهم في الترويج لها أيضا، نظراً لسهولة استعمالها واتساع رقعة انتشارها وسرعة تداول الأحداث والنشاطات والتفاعل معها، وبالتالي فهي ليست شيئًا جديداً أو مُبتدعًا، الجديد في الأمر هو فكرة الاعتماد عليها بشكلٍ كُلِّي لعمل الأنشطة الثقافيّة المُختلفة، فشهدنا انتشار الحلقات النقاشية والندوات الفكرية الافتراضية، وصارت المخيمات الافتراضية فكرة معروفة وتشهد إقبالاً في التسجيل والمُشاركة، ولاحظنا انتعاش الحركة الفكريّة والمشهد الثقافي بشكلٍ كبير، في ظل عدم الحاجة إلى التراخيص الكثيرة ولا العراقيل البيروقراطية المُصاحبة عادةً لأي حدث ثقافي».
دهينة، واصل موضحاً: «كلّ ما يحتاجه صاحب المُبادرة أو الكاتب هو جهاز كمبيوتر أو هاتف ذكي موصول بالإنترنيت، وتطبيق من التطبيقات التفاعلية وجهات اتصال معينة كضيوف أو أصحاب المُبادرة، فصار الأمر أكثر بساطةً وأكثر سهولةً مِمَّا جعل المشهد الثقافي يسترجع جزءاً من نشاطه وحيويّته، لكن الأمر لا يخلو من سلبيات، فهذا النوع من النشاط ربّما يُعَوِّدُ على الكسل، في ظل سرعة الإنجاز والمشاركة وكُثرة المواعيد الثقافيّة الافتراضية التي لا تُساعد على انتقاء المشاركات والمُتحدثين، حتّى أنّه يمكن تشبيهها بمحلات الوجبات السريعة التي تنتشر في كلّ مكان وتقدم وجبات خفيفة لكنّها غير صحيّة، كما أنّه من المُلاحظ أنّ التفاعل الكبير عادةً ما يكون مع الصالونات الافتراضية التي تعج بالتفاهة والبرامج السخيفة، بينما تُعاني البرامج الجادة والصالونات الثقافيّة الحقيقيّة من قلة الرواد والمتفاعلين، مِمَّا يُؤثر سلبًا على استمراريتها في المستقبل، وهذا الأمر يدعونا إلى التفكير الجاد للعمل على استثمار هذه التقنيات الافتراضية واستغلالها بشكلٍ أفضل لمَا فيها إيجابيات مفيدة للأدباء والكُتّاب وللمشهد الثقافي عمومًا، ولإنعاشه».
كما خلص في الأخير إلى ضرورة وأهمية المنصات الإلكترونية للكُتّاب والأدباء والباحثين، مؤكدا أيضا أهميتها في الترويج والتسويق للفعل و المنتوج الأدبي والثقافي والفكري، كما أنّه أصبح لا غِنى عن التفاعل الرقمي في حياتنا حتّى أنّ الأجيال الأخيرة ولدت ونشأت مع الأجهزة الرّقميّة وربّما لا تعرف عالمًا خارجها.  فروّاد المشهد الثقافي وجدوا مُتنفسًا في المنصَّات الرّقميّة، حيث شهدت انتعاش استعمال هذه المنصَّات والتطبيقات الذكية المُختلفة، التي سهلت على النّاس تنشيط المشهد الثقافي وعزّزت من قدرتهم على التفاعل.
استغلالها يجعلنا نُواكب الحراك الثقافي العالمي السريع


الشاعر والكاتب المسرحي، علاوة كوسة، يرى أنّ الإقبال الكبير على البدائل التواصلية في الشق الثقافي له دوافع كثيرة، منها الحاجة إلى الثقافة ومن ذلك الحاجة إلى وسائل النشاط الثقافي، وكذا سهولة التواصل الافتراضي في مجالات الثقافة جميعًا، كما أنّ اللجوء التواصلي الاِفتراضي قد وفّر على الدوائر الرسمية والمؤسسات الثقافيّة والجمعيات النشطة في المجال كثيراً من المصاريف والأموال الطائلة التي كانت تذهبُ أدراج النفقات و الإقامات والتنقلات وغيرها.
والسؤال الّذي نطرحه حسبه، هو حو تأثير الشغف بالمنصَّات على شطرَ التفاعل الحضوري و ما إذا كان التفاعل الثقافي الرقمي بديلاً يُوفِر علينا الوقت والجهد والمال؟ أم أنّنا أمة لا ترضى وتقنع بالتفاعل الثقافي إلاّ حين نذرفُ كثيراً من أموالنا التي تستحقُ استحقاقات ثقافية دائمة؟
صاحب اِرتعاش المرايا أضاف معلقا: « إنّ دفء منصَّات التواصل لن يُترك بسهولة، ولكن ذلك قد يكون موازيًا للتفاعل الحضوري، لأنّ لهذا الأخير ميزاته و حميميته أيضًا، وعلينا إذا أردنا أن نُواكب الحركية الثقافيّة العالمية، أن نُشجع على استغلال التكنولوجيّات والمنصات الرقميّة، لأنّ ذلك سيُسهل علينا أموراً كثيرة، ويجعلنا نُواكب الحراك الثقافي العالمي السريع، بكلّ ثقة ودراية».
توسيع القاعدة الجماهيرية للنشاط


يرى الروائي والكاتب المسرحي محمّد الأمين بن ربيع، أنّ صِلة الأديب بالمُتلقين مُؤطرة بإطار التقارب والتفاعل، فالأديب لا يمكن أن يشتغل بمعزل عن جمهور المُتلقين، ففي النهاية ما يُنتجه هو من أجلهم، حتّى وإن كان هذا التقارب تقاربًا افتراضيًا، حيثُ أنّ أشياء كثيرة تغيّرت في العالم، إذ وجدنا أنفسنا نُغيّر من سُبل التواصل مع بعض، ففي الوقت الّذي كان المُبدع يقطع مسافات طويلة من أجل مُحاضرة يُقدمها أو ورشة يُؤطرها، صار يفعل كلّ ذلك دون أن يتحرك من مقرّ إقامته أو مكتب عمله.
عن تجربة شخصية يضيف بن ربيع،  خُضتها مراراً عن طريق اللقاءات الافتراضية اكتشفتُ أنّ الأمر لا يخلو من إيجابيّات عِدة وسلبيّات معدودة، فمن إيجابيّات اللقاءات الافتراضية تسهيل عملية التواصل بين المُبدع والمتلقين، فقد هدمت اللقاءات الافتراضية الجدران التي كانت في غالب الأحيان تعزل الطرفين عن بعضهما، فكثيراً ما يتعذر على المُتلقي ولوج المكتبة أو دار الثقافة لمتابعة نشاطٍ ما، قد تكون لديه رغبة في حضوره، غير أنّ وقته لا يسمح بذلك، أو بُعد المسافة يحول بينه وبين الحضور، فَتُقدِّم له هذه اللقاءات الفرصة ليُتابع ذلك النشاط دون أن يبذل جهداً يُذكر، بالإضافة إلى أنّ مثل هذه اللقاءات الافتراضية سهلة التأطير والتوثيق مِمَّا يُتيح فرصة أرشفتها والعودة إليها مرّةً أخرى، أو إعادة نشرها مُسجلة على المواقع الإلكترونية، كما أنّها تجمع جمهوراً مُختلفًا بعضه مُهتم وبعضه فضولي، مِمَّا يعني توسيع القاعدة الجماهيرية للنشاط.
صاحب نوبة الغريبة استدرك قائلاً: « ما يُعاب على مثل هذه اللقاءات أنّ البعض ينظر إليها نظرة تجعلها أقل قيمة من اللقاءات الحقيقية، فمن خلال اللقاءات التي نشطتها وجدتُ أنّ بعض المُتابعين لا يأخذون ما يُقدّم خلالها على أنّه ذو قيمة كالّذي يُقدم خلال اللقاءات الحقيقية، وهي فكرة مغلوطة أعتقد أنّ انتشارها يعود إلى نظرة سائدة من قبل، ترى أنّ ما يُقدّم من خلال المواقع أو المنصات الإلكترونية يبقى مجرّد نشاطٍ افتراضي لا يمكنه أن يرقى إلى مستوى النشاط الحقيقي الّذي يكون قائمًا على ميزانية وتكاليف.

الرجوع إلى الأعلى