«الـدوامس».. هنـا تحتضر امبراطوريـة قطـع الغيـار الأصليـة

يشكو تجار  الخردوات بقسنطينة من تراجع رهيب في النشاط بعد انهيار أسعار السيارات وقالوا إن المواطنين أصبحوا يزاحمونهم على السيارات المتضررة من حوادث المرور ، نافين ما يشاع حول أنهم يفاوضون ضحايا حوادث مرور على سياراتهم، كما اعترف باعة «الفيراي» أن  فايسبوك يعد وسيلة سهّلت عليهم عمليات البيع والشراء.   ويعرف سوق الدوامس بعين عبيد  وفق الناشطين به ركودا كبيرا،  وعزوفا سيما من الزبون المحلي، بينما يقبل عليه مواطنون من ولايات أخرى ورعايا أجانب خاصة من تونس، إضافة إلى عمال وإطارات من الصين وتركيا يزودون سيارات الشركات بقطع قديمة. بين جبال من الحديد ومحاجر بيضاء يلفها ضباب كثيف، و وسط حيوانات برية تملأ مساحات مهجورة لا يُسمع فيها إلا ضجيج هدم الحجارة ومحركات الشاحنات، يوجد سوق «الدوامس» للخردة الواقع في بلدية عين عبيد بقسنطينة، و الذي توغلت فيه النصر، لتنقل صرخات تجاره الذين يشتكون من مشاكل بالجملة، و تكشف من خلال هذا الروبورتاج عن خبايا عالم مختلف يحمل العديد من المفاجآت التي قد لا يعرفها الكثيرون عن المكان.
روبورتاج: حاتم بن كحول
في طريقنا باتجاه سوق بيع الخردوات ، بدا لنا وكأننا ندخل مكانا مهجورا ينحصر بين الجبال ، حيث لا توجد  مركبات كثيرة  و  لا أثر للراجلين هناك، حتى لفت انتباهنا أحد القاطنين بهذه المنطقة و هو يتنقل على متن حمار. و قد علمنا أثناء رحلتنا أن المسلك المؤدي لهذه السوق عبر طريق ابن باديس، بها جاذبية غير عادية، حيث تعود السيارة للخلف في حالة توقفها حتى وإن كانت في المنحدر، و هو ما حدث معنا فعلا.
مظهر المركبات المتضررة في حوادث المرور و التي يوجد خلف كل منها مأساة كان مؤشرا على بلوغنا السوق  ،  حيث أن المركبات مكدسة فوق بعضها ، وسط أكوام من   الصفيح القديم  الممتدة على مساحات شاسعة،  وقد قسم المكان إلى حظائر ،  كل منها مخصص لتاجر.
 نشاط تجاري ضعيف بسبب ارتفاع أسعار السيارات
 صالح، تاجر في الثلاثين  من العمر وجدناه جالسا على أحد الكراسي المنزوعة من السيارة، وبمجرد أن علم أننا صحفيون، بدأ يشتكي من الظروف القاهرة التي يقول إنه يعاني منها مع بقية التجار. حيث أخبرنا بأن نشاط الخردة تراجع كثيرا مباشرة بعد ارتفاع أسعار السيارات، عكس ما كان عليه الحال، عندما كان ينشط في عين الباي، كما أكد أن الأثمان التي يعتمدها التجار على مستوى سوق «الدوامس» تعتبر الأدنى ثمنا في قسنطينة، عكس ما يروجه البعض.
بعدها تحولنا لملاقاة عبد العالي و هو أحد التجار المخضرمين في هذا المجال، لكن في طريقنا إليه كانت الرؤية شبه منعدمة لوقوع مكانه بمحاذاة إحدى المحاجر، التقينا بالتاجر وتجاذبنا معه أطراف الحديث، فأكد لنا أن النشاط التجاري بهذه المنطقة و الذي بدأ منذ قرابة عشر  سنوات، ضعيف جدا مقارنة بما كان عليه الحال في السوق القديم بعين الباي، و الذي كان، حسبه، مقصدا للزبائن من كل الولايات، و معروفا حتى خارج الوطن.
المتحدث اغتنم الفرصة للتأكيد على أن تجار بيع الخردوات لا يفاوضون أصحاب السيارات التي تتعرض للحوادث، حيث قال «أتحدى أي شخص يملك دليلا على أننا نفاوض الجرحى على بيع سياراتهم مباشرة بعد الحادث»، و هي فكرة أشيعت عن هذه المهنة لدى الكثيرين.
العلامات الفرنسية الأكثر رواجا
و أخبرنا التاجر أنه يتم شراء أي نوع من السيارات، حيث لا يختص الناشطون بالسوق في نوع محدد، مؤكدا أن أكثر القطع رواجا هي الخاصة بالعلامات الفرنسية على غرار «بيجو» و»رونو» و»داسيا»، ثم تأتي العلامات الصينية، أما القطع الألمانية فتوجد صعوبة كبيرة في بيعها، كما أوضح أن السلعة متوفرة في هذه المنطقة في غياب الزبائن، مع اعتماد الضمان خلال عملية البيع وإمكانية إعادة قطعة الغيار في حالة عدم صلاحيتها.
و أضاف محدثنا أن القطع الميكانيكية أكثر رواجا من أجزاء هياكل السيارات، التي تجلب الجديدة منها الزبائن بشكل أكبر ، خاصة أن بيع تلك القديمة، يأخذ، حسبه، وقتا طويلا. عبد العالي قال إنه يزاول هذه المهنة منذ أكثر من 20 سنة وحينها لم تكن هناك حوادث مرور عديدة، ورغم ذلك كان نشاطه التجاري أفضل بكثير من الوقت الحالي.
صينيون و أتراك وتوانسة يجدون ضالتهم هنا
و كشف التجار أن المكان ورغم أنه أصبح لا يستقطب العديد من الزبائن كالسابق، إلا أن الأجانب يقصدونه من أجل شراء بعض قطع الغيار، و منهم الصينيون الذين يشترون السلع الآسيوية، أما القادمين من الجارة تونس فيشترون قطع علامات «فورد» التي لا تتوفر في بقية المناطق، كما أن ثمنها أرخص بكثير مقارنة بالموجود في بلدهم، فيما يضطر الأتراك للقدوم في كل مرة بسبب تلف سياراتهم التي يستعملونها خلال نشاطاتهم على مستوى البناء والترميم.
أما محليا فقد أوضح باعة الخردة أنهم يستقبلون يوميا زبائن من كل ولايات الوطن، سواء من العاصمة أو حتى من الغرب الجزائري على غرار تلمسان، ولكن ما أثار دهشتهم هو قدوم مواطنين من مدينتي أدرار وتمنراست لشراء مستلزمات السيارات وبمبالغ كبيرة، في المقابل يتواصل عزوف سكان مدينة قسنطينة على المكان.
عربة قطار و سلالم طائرة وسيارات من جيل الستينيات!

بعدها كانت وجهتنا منطقة لبيع الحديد انطلقنا نحوها، ونحن لا نرى حدود الطريق من شدة الغبار المنبعث من المحاجر هناك، وأثناء توغلنا داخل المنطقة لفتت انتباهنا العديد من الآلات الغريبة المصنوعة بمادة الحديد، كما لاحظنا وجود عربة قطار، وسلالم خاصة بالطائرة، وسيارات قديمة الطراز تعود لسنوات الستينيات والسبعينيات، حيث تبين لنا فيما بعد أنها موجودة هنا للاستفادة من الكمية الهائلة من الحديد ذي الجودة العالية المصنوعة منه.
  الكيلوغرام يباع بـ 17 دينارا
وبصعوبة بالغة تمكنا من الوصول لإحدى حظائر بيع الحديد، أين وجدنا عددا كبيرا من الشاحنات تدخل وتخرج، لكن ما شد انتباهنا هي الكمية الكبيرة من الحديد التي تكدست في شكل أكوام بنيّة اللون و كأنها جبال، وهنا وقفنا لمعرفة المزيد عن هذه التجارة غير المعروفة بالنسبة للعديد من السكان.
وأكد أحد العاملين في الحظيرة، أنهم يشترون الحديد ويقومون بعملية تصفيته وتقسيمه إلى مجموعات حسب الجودة والنوعية، وذلك بمعية مختصين في المجال، ثم يتم جمع كل صنف لبيعه لشركات الحديد الواقعة على مستوى قسنطينة وضواحيها، كما تتكفل الحظيرة بنقل السلعة إلى وجهتها عبر شاحنات كبيرة، أما عن الثمن فقد أكد المتحدث أنه يختلف حسب جودة الحديد، إذ يتراوح سعر الكليوغرام الواحد ما بين 10 إلى 17 دج.
الثعالب و العقارب والخنازير تغزو المنطقة
غادرنا منطقة بيع الحديد وواصلنا طريقنا من أجل مواصلة رحلة الاستكشاف، ومع مرورنا بالعديد من حظائر بيع الخردوات، لفتت انتباهنا حظيرة بها أفخم وأجود العلامات وكان لا بد من التوقف بها، و هنا التقينا بصاحب الحظيرة و هو الشاب حمزة الذي سألنا على الفور إذا كنا قد أصِبنا بأذى من طرف الحيوانات التي تنتشر في المكان، على غرار الخنازير، الثعالب و الذئاب و حتى الأفاعي والكلاب المتشردة والعقارب.
خلال تبادلنا أطراف الحديث مع حمزة، لفت انتباهنا وجود عدد كبير من الدجاج والديكة في ذات الحظيرة، و هو ما أرجعه محدثنا إلى انتشار العقارب أسفل الحجارة المنتشرة، حيث لم يجد من سبيل سوى جلب الدجاج الذي يتكفل بأكل العقارب.
سألنا صاحب الحظيرة عن اختلاف سلعته مقارنة ببقية الحظائر بما أنها تضم سيارات فاخرة ومن أجود العلامات على غرار «ميرسيدس» و»فولغسفاغن» و»فورد» وغيرها، فأكد أن سبب ذلك هو غلاء هذه الماركات ما يجعل بقية التجار يعزفون عن شرائها، حيث يتعمّد شراء السيارات الجديدة التي تتعرض لحوادث وذلك خدمة للزبائن، لأن قطع الغيار تكون غير متلفة كما تكون المحركات في حالة جيدة وبالتالي فإنه يضمن زبائن جدد في كل مرة.
«الفايسبوك سهّل مهمتنا و المواطنون أصبحوا يزاحموننا»
أما عن ارتفاع أسعار مختلف قطع السيارات مقارنة بما كانت عليه، فقد رد المتحدث أن السبب الأول هو منافسة المواطنين لتجار الخردة في شراء المركبات التي تتعرض للحوادث، حيث أوضح أن الإقبال الكبير عليها جعلها محل طلب مما أدى لارتفاع أثمان قطع الغيار، مضيفا أن المواطن لم يكن في السابق يفضل شراء مركبة متضررة، ولكن التهاب سوق السيارات جعله يختار شراءها بنصف الثمن.
محدثنا قال إن النشاط التجاري أصبح ضعيفا جدا وخاصة بسبب ارتفاع أسعار السيارات، حيث كان مبلغ 200 مليون سنتيم يكفي، في السابق، لشراء 10 سيارات متضررة ولكن الآن هو مخصص لسيارتين فقط، مضيفا أنه يوجد أمر آخر ساهم في التهاب الأسعار وهو فرض غرامة 11 بالمائة على كل المركبات التي تشترى في المزاد العلني، كما أن عملية البيع حرة ومتاحة للجميع وليست مقتصرة على تجار الخردوات فقط.  
أما عن طريقة شراء السيارات التي تعرضت للحوادث، فقد رد المتحدث أن مساومة المواطنين أثناء تعرضهم لحادث مرور يبقى مجرد حديث فقط، مؤكدا أنه يملك حسابات على مختلف الصفحات الخاصة ببيع وشراء السيارات المتضررة على صفحات التواصل الاجتماعي، وهو تطور سهل، مثلما يتابع، من مهمته.
 من جهة أخرى، ذكر التاجر أنه يتلقى اتصالات يومية من طرف مواطنين بغية عرض سياراتهم المتضررة، ويتنقل لعين المكان من أجل معاينة السلعة المراد بيعها، مضيفا أنه تعرض للخداع في عدة مرات كانت آخرها عندما اشترى سيارة من العاصمة، حيث عجز عن تحديد المسافة التي قطعتها من قبل ولكن صاحبها أخفى عليه الرقم الحقيقي، ليتبين له بعد إعادة تشغيلها أنها سارت مسافة أكبر بكثير من تلك المصرح بها، معترفا أنه يتم أحيانا الاكتفاء ببيع المحرك فقط دون بقية القطع، ما يجعل من قيمة الفائدة المادية ضئيلة جدا وأحيانا منعدمة حسبه.
نساء يقصدن المكان و «خليها تصدي» تؤثر على السوق

كما أوضح أصحاب الحظائر أنهم يستقبلون يوميا بعض النساء اللاتي يقصدنهم من أجل شراء قطع الغيار، ورغم بعد هذا المكان إلا أن ذلك لم يمنع العديد من صاحبات المركبات من منافسة الرجال في شراء مختلف مستلزمات السيارات، وأضاف محدثونا أن كل طبقات المجتمع تقصد هذه الحظائر من أطباء و مهندسين وأساتذة و قضاة وغيرهم من إطارات الدولة، أما عن الأسعار فقد أكدوا أنها مناسبة بالنظر للمبالغ التي تدفع من أجل شراء سيارة متضررة.واعترف أحد من تحدثنا إليهم، أن العديد من المواطنين غير راضين عن الأثمان حتى وإن كانت رمزية، حتى أصبح يطلق عليهم أصحاب «آو» وهي ردة فعل الزبائن بعد سماع ثمن القطعة المراد شراؤها، كما قال إن العديد من التجار يفكرون في ترك هذه المهنة لأنها أصبحت لا تدر الكثير من الأموال، مؤكدا أنه لم يجد البديل وإلا لغير مهنته منذ مدة رغم أنه ورثها من والده.
تحدثنا إلى أحد الزبائن الذي وجدناه بالمكان، حيث أكد أن الأسعار مرتفعة كثيرا ولكن المواطن يكون مضطرا للشراء بما أنه لن يجد ما يبحث عنه في مكان آخر، باستثناء حظائر الخردة بعين عبيد، فيما قال آخر أنه يفضل شراء قطع الغيار من هذا المكان رغم ارتفاع السعر، لأنها تكون، حسبه، أصلية عكس ما يباع حاليا في بقية المحلات والأسواق.
وبكلام لا يخلو من الطرافة، أكد أحد التجار أن جميع المتعاملين على مستوى سوق الخردوات بعين عبيد، عانوا كثيرا من عبارة «خليها تصدي» التي أطفأت عليهم أنوار بيع سلعهم حسبه، حيث انتقل العزوف عن بيع وشراء السيارات إلى سوق الخردة وأصبح الناس لا يقتنون قطع الغيار، لأن ركود السوق أدى آليا إلى ركود بيع قطع الغيار حسبه.
انعدام الكهرباء والماء وغبار المحاجر يهدد التجار  
و نظرا للظروف السيئة التي تلازم حظائر بيع الخردة على مستوى عين عبيد، قررنا التوجه إلى رئيس لجنة تجار الخردوات من أجل معرفة المشاكل التي تعتبر عائقا أمام  انتعاش هذا النشاط ، و أول ما تحدث عنه هو عدم تلقيهم التعويض الذي وعدوا به قبل نقلهم من منطقة عين الباي إلى عين عبيد أين يزاولون نشاطهم حاليا، و قد كان ذلك قبل 10 سنوات،.
و أكد المتحدث أن مطالب التجار تتمثل في تسوية الوثائق الخاصة بمزاولة نشاطهم، كما تحدث عن افتقار المنطقة للكهرباء والماء، وهو ما يجعلهم في بعض الأحيان محل إحراج مع الزبائن لاستحالة تجريب بعض القطع وبيعها دون التأكد إن كانت صالحة أم تالفة، مضيفا بأنه  من حسن الحظ أن الرياح لم تهب وإلا لما تمكنا من محاورته، لأننا لن نراه أصلا بسبب غبار المحاجر، و في هذا الشأن قال التاجر إن الزائر للمكان لأول مرة، يظن أن السماء تمطر مادة الفرينة، و هو ما جعلهم في بعض الأحيان ، لا يقدرون على التنفس وخاصة أثناء هبوب الرياح. بعد إنهاء الحديث مع التاجر تفاجأنا أن الهاتف الذي كنا نسجل به تصريحاته، أصبح مغطى باللون الأبيض جراء تناثر الغبار من المحاجر الواقعة على حافة الطريق.
مركبات تتعرض للتلف في الصيف والشتاء
وتحدثنا إلى تاجر آخر أكد أن زملاءه يعانون في هذه المنطقة، حيث لا يملكون أية وثائق تسهل لهم مهمة مزاولة نشاطهم، مضيفا أن هناك من قاموا بإعادة تهيئة الأرضيات التي كانت عبارة عن حجارة كبيرة الحجم ، تم تهديمها ورميها من أموالهم الخاصة ، كما أوضح أن جل أصحاب المهنة يقطنون بمدينة قسنطينة ويقطعون أكثر من 100 كلم يوميا. و يطمح محدثنا للحصول على رخصة للبناء من أجل تطوير حظيرته، وذلك بتشييد بناية بعدة طوابق ما سيجعل عمله ، مثلما يتابع ، أكثر تنظيما و تطورا ، و ذلك دون أن يخشى من تهديم ما سوف ينجزه ، مضيفا أن التجار يعانون في فصل الصيف والشتاء على حد سواء، بما أنهم يعجزون عن تركيب مكيفات للتبريد أثناء الحر و المدفئة خلال فصل البرد ، و ذلك لانعدام الكهرباء و الغاز ، يُضاف إلى ذلك غياب مطاعم على مستوى المنطقة، ما يضطر التجار لقطع مسافة 10 كيلومترات ذهابا ومثلها إيابا للوصول إلى أقرب مطعم في عين عبيد من أجل سد جوعهم.
التجار أكدوا للنصر أن بعض المركبات تتعرض للتلف على غرار الزجاج الأمامي والخلفي الذي ينفجر من شدة الحرارة، كما تفقد هياكل السيارات لونها لنفس السبب، فيما تتعطل بعض المحركات جرّاء الغبار المتناثر من المحاجر المحاذية، وأضاف محدثونا أنهم يقومون بتنظيف الحظيرة مرتين كل شهر بسبب انتشار الغبار.
ح.ب

الرجوع إلى الأعلى