تعتبر الأسواق الأسبوعية بقسنطينة و عديد الولايات، شريانا اقتصاديا نابضا و مصدر دخل رئيسي بالنسبة للعديد من البلديات الكبرى، فبالرغم من تطور نمط المعيشة و ظهور المجمعات التجارية الكبرى، و انتشار فضاءات التسوق العصرية "سوبيرات" و"مول"، لا تزال الأسواق بمفهومها التقليدي، قبلة للمواطنين من مختلف الشرائح الاجتماعية، من أغلب الولايات و تشكل أفضل الفرص بالنسبة للتجار و حتى الباعة الفوضويين، نظرا  لطبيعتها الشعبية، و ملاءمة أسعار المنتجات والسلع التي تعرض فيها.
روبورتاج :هدى طابي
حسب الكثيرين، فإن السوق الأسبوعي يعد الفضاء التجاري الوحيد الذي تتناسب معطياته مع ثقافة المواطن الجزائري الاستهلاكية و قدرته الشرائية، وهو ما يفسر استمرار الأسواق في النشاط، رغم عدم تطورها و محافظتها على الصورة النمطية التي ترتبط بها منذ القدم، بما في ذلك الفوضى التي تطبعها، لأن الأسواق جزء من هوية المجتمع الجزائري و المجتمعات العربية ككل، و لها ارتباط وثيق بالجوانب الثقافية و الاجتماعية.
محرك رئيسي للعجلة الاقتصادية و مقياس نبض الحياة الاجتماعية
توجد بولاية قسنطينة وحدها أربعة أسواق أسبوعية كبرى ، أقدمها يعود إلى 1970، و هي على التوالي أسواق عين سمارة و حامة بوزيان و الخروب و زيغود يوسف، بالإضافة الى سوق الدقسي الشعبي اليومي الشهير، و  خلال هذا الاستطلاع تجولنا عبر أشهر الأسواق الأسبوعية و الشعبية ، و استنتجنا من خلال احتكاكنا بالمواطنين و التجار، بأن هذه الفضاءات تحظى برمزية كبيرة بالنسبة للمجتمعات المحلية و البلديات التي تشتهر بها، لأن خصوصيتها، كما قال محمد عبد اللطيف جزار من عين سمارة، تتجاوز الجانب التجاري إلى الجانب الاجتماعي، فالسوق  يعد بمثابة عقارب الساعة التي تحدد دورة الزمن في البلدية، فعادة ما تضرب المواعيد بالرجوع إلى تاريخه، كما أنه مناسبة تنفتح فيها المنطقة على الوافدين إليها من بلديات و حتى ولايات أخرى، وهو ما يكرس الاندماج الاجتماعي و يمنح شهرة واسعة للمدينة.
أما الهادي، صاحب مقهى، فأوضح  بأن كل شيء في المدينة يتأثر بالسوق، خصوصا الحركية التجارية خارجه، فقطاع النقل ينشط و يزيد الإقبال على المقاهي و المطاعم في ذلك اليوم، و لهذا تعتبر أيام الاسواق في البلديات، الحدث الأبرز بالنسبة للسكان و المسؤولين على حد سواء، لأن التغطية الأمنية تزيد يوم السوق، كما أوضح.
الأسعار تضمن الاستمرارية و الحركية تعكس واقع المعيشة
عندما وصلنا إلى عين سمارة، في حدود منتصف نهار  يوم الاثنين، اعتقدنا أننا تأخرنا عن السوق الذي ينطلق نشاطه عادة على الساعة السابعة صباحا، لكننا تفاجأنا بتواصل الحركية في المكان بشكل مكثف، حتى أننا وجدنا صعوبة كبيرة في التنقل بين الأروقة و المربعات التجارية، بالنظر إلى الاكتظاظ الكبير بالباعة و الزبائن على حد سواء، و يبدو السوق لمن يطل عليه من خارج السور المحيط به، مثل خلية نحل كبيرة تتعالى داخلها أصوات الباعة الذين يتفننون في استقطاب اهتمام المستهلكين بعبارات طريفة و غريبة، فيما يكتفي آخرون بالتعريف بسلعهم و ذكر أسعارها.
أحدهم استخدم مكبر صوت لينادي الزبائن، و كأنه يقدم ما يشبه الاستعراض لشد انتباههم و دفعهم لشراء سلعته، المتمثلة في أدوات لتقشير و تقطيع و تشكيل الخضر و الفواكه، طاولات البضائع كانت متراصة في حيز ضيق،  و الكثير من الباعة افترشوا الأرض لعرض سلعهم، بينما ركنت شاحنات التجار الكبيرة و المتوسطة و أشهرها « بيجو 404 المغطاة»  داخل مربعات تجارية متساوية. الروائح قوية و مختلفة و نقص النظافة واضح جدا، خصوصا وأن المرحاض القريب مغلق، أما الوجوه، فتعكس بوضوح أن من يتواجدون في المكان، مواطنون محدودو أو متوسطو الدخل.
تقربنا من بعضهم لنسألهم عن أسباب ترددهم على السوق،  فأكدوا بأن « السوق ملاذ الزاوالية»، و قالت لنا سيدة وجدناها في رواق الخضر الفواكه، أن  فارق الأسعار بين السوق و المحلات كبير، فسعر الكيلوغرام الواحد من الخضر أقل دائما بحوالي 20 إلى 30دج، لذلك تنتظر يوم الاثنين لتشتري « عولة الأسبوع»، و هو نفس رد كل من سألناهم، و أخبرونا بأن الخضر و الفواكه في السوق طازجة، لأن الباعة يحضرونها في الصباح الباكر من الحقول مباشرة، و بما أن الحركية في السوق كبيرة، فإن السلع تباع كلها في ظرف وجيز، عكس طاولات الأرصفة والمحلات، فأسعارها أغلى وجودتها أقل.
أكد لنا زوجان أن الأسعار في السوق تتماشى مع القدرة الشرائية للمواطن، وتعكس فعليا واقع السواد الأعظم من المواطنين، بدليل أن الكثيرين، كما قالا، يفضلون شراء كسوة أبنائهم منه،  وبالأخص من طاولات الملابس المستعملة  «الشيفون»، فالأسعار أقل. و حتى و إن كانت شروط النظافة و السلامة الصحية في المكان منعدمة، يبقى السوق أفضل بديل عن المجمعات التجارية أو المحلات،حسب المتسوقين.
بعد تراجع الحركية، لفت انتباهنا بعض الرجال كانوا بصدد جمع بقايا الخضر من طاولات الباعة في مشهد محزن، قال التجار بأنه يتكرر في كل سوق، مشيرين إلى أن السوق يقي الكثيرين من الجوع.
400 عائلة تسترزق من السوق

تجار كثر و باعة، تحدثنا إليهم، فقالوا لنا بأن  السوق يعتبر الفرصة الأهم بالنسبة إليهم، لأن ظروف التجارة فيه تختلف، فالربح مضمون، نظرا للحركية الكبيرة و كثرة الزبائن الذين يأتي بعضهم من خارج الولاية، من تاجنانت و شلغوم العيد و وادي العثمانية و عين فكرون و حتى من باتنة، وبعض ولايات الجنوب، سألناهم عن سبب نقص الأسعار،  فأخبرونا بأن هامش الربح يكون أكبر في المحلات بسبب تكاليف الإيجار و الضرائب، كما أن تجار السوق يتعاملون مع تجار الجملة و الممولين مباشرة، وبالتالي فإنهم لا يحتسبون تكلفة التوزيع ، فالحذاء أو البذلة اللذين يتم بيعهما مقابل 3000دج في المحل، يتوفران في السوق بمبلغ 2000 دج أول أقل ، فأغلبهم يراهنون على عدم كساد سلعهم، نظرا لترددهم الدائم على الأسواق و يركزون على الكم أكثر من النوعية و الجودة، ولذلك فإن معظم منتجات الأسواق بضائع صينية مقلدة، أو محلية يقل عرضها في المحلات.
خلال تواجدنا في السوق التقينا بعبد الناصر و ثلاثة من أصدقائه وهم خواص يستغلون السوق بعد تأجيره من مصالح البلدية، مقابل  مبلغ 663 مليون سنتيم، قالوا لنا، بأن تكاليف استغلال هذا المرفق، بعد احتساب نفقات مصالح الأمن و النظافة العمال، تصل إلى 900 مليون سنتيم، لكن يبقى هذا الفضاء الرحب مصدر استرزاق أكثر من 400 عائلة، بين الباعة والتجار الذين يؤجرون مربعات للنشاط أسبوعيا، حيث تحتسب تكلفة كل مربع استنادا إلى مساحته و موقعه، و تنطلق من 600 دج إلى 2000دج.
 محدثونا قالوا، بأن الحركية كبيرة في السوق، لكن أكثر الفضاءات نشاطا، تبقى تلك التي تختص في تجارة الخضر والفواكه، و تليها تجارة «الشيفون» ، فمداخيل تجاره تتراوح بين  5 ملايين إلى 10 ملايين سنتيم خلال يوم السوق .
بديل الشباب عن البطالة
بعيدا عن النشاطات الكبيرة، يجد الشباب في الأسواق الشعبية بديلا عن البطالة،
إذ يشتغلون في بيع بعض المواد البسيطة، من صابون و عطور و أعشاب طبية ، وبفضلهم تنشط أيضا التجارة الموسمية للمظلات و القفازات و الجوارب و غيرها.
 وقد التف بعضهم حولنا، مؤكدين لنا أنهم يتنقلون أسبوعيا بين الأسواق للعمل، بعد أن «ضيقت عليهم السلطات النشاط، في إطار سياسة محاربة التجارة الفوضوية»، كما قالوا لنا.
هنا يباع كل شيء  و « الشيفون» ملتقى الغني والفقير
لم يختلف المشهد كثيرا في سوق الدقسي عبد السلام الشعبي، عن سوق عين سمارة، فبين أروقة العرض الفوضوية، يعرض الباعة سلعهم المختلفة، من خضر و ملابس و أواني منزلية و أحذية ، إلى جانب الخردوات و الأعشاب العطرية و الطبية و المنظفات و الأطعمة و غير ذلك، حتى الحرف شبه المنقرضة، تجد لها مكانا في هذه الأسواق كصناعة الغربال مثلا.
 وعلى غرار أسواق عين سمارة و الخروب و الحامة، تبقى طاولات    «الشيفون» أي الملابس المستعملة، الأكثر استقطابا للزبائن، بما في ذلك ميسوري الحال، وهو ما لاحظناه من خلال احتكاكنا ببعض الزبونات اللائي أكدن بأن اهتمامهن بالشيفون ليس بسبب الأسعار فقط،  بل يشمل أيضا توفر الخيارات، فالتسوق في الأسواق الأسبوعية والشعبية، كما قلن، يكسر روتين حياتهن، لأن هامش الحرية فيها مفتوح، فليس عليهن الاهتمام بمظهرهن و لا التردد في دخول المحلات والسؤال عن الأسعار أو غير ذلك.
قالت لنا الطالبة خديجة التي التقينا بها أمام طاولة لبيع الأحذية المستعملة «هنا أكون على طبيعتي أنفق بشكل يتماشى مع امكانياتي الحقيقية و اختار بكل أريحية و دون حرج»، و قالت لنا من جهتها سيدة وجدناها تختار بعض الأغطية و المفروشات « الشيفون يضمن توازن ميزانيتها و يسمح لها بتلبية حاجيات أبنائها في حدود ما يسمح به دخلها».
مصدر دخل رئيسي  للبلديات
بعيدا عن المنفعة التجارية و الأهمية الاجتماعية، تعتبر الأسواق الأسبوعية مصدر دخل رئيسي بالنسبة للبلديات، خصوصا بعدما قررت وزارة الداخلية تنظيم استغلالها، فبلدية حامة بوزيان تؤجر بعقد لمدة سنتين غير قابلة للتجديد، مساحة 4هكتارات، لتستغل في تنظيم سوقين أسبوعيين، الأول يعود إلى  سنة 1999 ويقام يوم الأربعاء، وهو سوق الأقمشة و الخردوات، و تقدر تكلفة تأجيره بـ 380 مليون دج، أما سوق السيارات و الشاحنات  فيؤجر مقابل أكثر من 6 ملايير سنتيم و ينشط يومي الجمعة و السبت.
أما بلدية عين سمارة فتستغل منذ سنة 2012، قطعة أرض مساحتها 1700 متر مربع،  بمبلغ 663 مليون سنتيم، تحتضن كل يوم اثنين السوق الأسبوعي، و حسب رئيس المجلس الشعبي البلدي السيد حسين عزيزي، فإن السوق يعد مصدر دخل هام للبلدية، بالرغم من أن نجاعته ستكون أكبر لو أنه حول للاستغلال في إطار محشر بلدي.

بينما تؤجر بلدية الخروب، السوق الأسبوعي للمواشي الممتد على مساحة أكثر من 10 هكتارات، لمدة ثلاث سنوات عن طريق المزاد العلني، مقابل ما يزيد عن 10 ملايير سنتيم، وهو سوق شعبي أسبوعي شهير  يقام يوم الجمعة و يعود إلى سنة 1971.
المختص في علم الاجتماع الاستاذ عبد الله دراع
الأسواق الشعبية مظهر يتجلى في المجتمعات الرافضة للتحضر
 يرى أستاذ علم الاجتماع بجامعة قسنطينة 3، عبد الله دراع، بأن الأسواق الشعبية تعد جزءا من تركيبة المجمتع الجزائري و العربي عموما، لأنها ذات جوانب ثقافية و اجتماعية راسخة في الفكر الجماعي المحلي، فقد كانت منذ القدم أماكن للقاء و التعارف، و حتى الاحتفال الديني في إطار ما يعرف ب» الوعدة « مثلا ، بمعنى أنها محطة أسبوعية لتمتين شبكة العلاقات الاجتماعية، خصوصا في ظل مشاكل العزلة و صعوبة ظروف النقل التي تعاني منها بعض المناطق و البلديات،  و التي يسمح السوق للأفراد بتجاوزها ، كما يوفر لهم فضاء للتواصل المستمر.
أما البعد الثالث لهذه الأسواق، فيتعلق بملاءمة الأسعار بما يتماشى مع القدرة الشرائية للشرائح المتوسطة و الضعيفة و الهشة، فالمستهلك في الأسواق يسمح لنفسه بتجاوز معايير السلامة و الصحة، مقابل فارق السعر الذي يعد الأهم بالنسبة إليه، خصوصا في ظل بطء عجلة الاقتصاد التي لا تتماشى، كما قال المتحدث، مع سرعة تطور المظاهر الاجتماعية، و عليه فإن استمرارية هذه الأسواق، رغم ظهور الفضاءات التجارية الجديدة، شكل من أشكال مقاومة المجتمع ورفضه للتحضر، مقابل تمسكه بكل ما هو أصلي أو تقليدي مريح.
بالرغم من أن « المول» أو المجمع التجاري، فضاء واسع يتيح للجهور متعة الفرجة والتسوق والأكل والشرب بحرية، إلا أن الحرية داخله وهمية، لأنها مقيدة بالقدرة المالية و التمظهر و التباهي الاجتماعي، عكس الأسواق الشعبية المفتوحة على كل الطبقات و الثقافات، الأسواق الحقيقية فائض من تاريخ و ذكريات مع الأمكنة و المحلات و الشوارع.                    
هـ-ط

الرجوع إلى الأعلى