لقد أظلنا أعظم مواسم السنة فضلا، وأجلّ أيامها قدرا؛ موسم الحجّ ذلك المنسك الجليل، وتلك المدرسةٌ التي تزدحم فيها المعاني، والجامعة التي تُستقى منها الدروس في مختلف جوانب الحياة: دروس إيمانية، وأخلاقية، واجتماعية واقتصادية، وسياسية، وغيرها. وإذا حظي الحجّاج باستلهام تلك الدروس عن قُرب ومعاينة؛ فنحن مدعوُّون لاستلهامها عن محاكاة ومشابهة.
إعداد: د .عبد الرحمان خلفة
أعظم دروس الحج درس التوحيد
به يبدأ الحاج، وبه يختم، وبه يلهج في كلّ حين وآن، فالتلبية توحيد والطواف توحيد. يهلّل عند الصفا والمروة فيقول: (لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له..). وخير دعاء الحاجّ دعاء يوم عرفة دعاءُ توحيد، قال رسول الله: (خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كلّ شيء قدير). نحر الحاج هديه لله توحيد. بيت الله الحرام بُني أصالة على أساس التوحيد (وإذ بوّأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئا). والتوحيد المراد هنا فكرة حيّةٌ فاعلة في حياة الناس، التوحيد دافع عمليٌّ قامت عليه حضارة الإسلام، والتأم عليه شمل هذه الأمة. التوحيد الذي نعني هو تحرير الإنسان من العبودية لأخيه الإنسان، التوحيد معناه: لا رازق سوى الله، ولا مميتَ غيرُ الله، لا نافع ولا ضارّ مع الله، وما النّصر إلاّ من عند الله، فإذن لا خوف إلاّ من الله، ولا اتّكال إلاّ على الله، ولا استعانة إلاّ بالله، ولا حكم إلاّ لله، ولا ولاء ولا براء إلاّ في الله.
  الحج تجديد للانتماء
فهو مختصر عن قصة الإسلام، من عهد إبراهيم إلى خاتم الأنبياء والمرسلين، يرى الحاج مقام إبراهيم، وحِجر إسماعيل، ومسعى هاجر، وغار حراء حيث وُلد الإسلام، وينعطف إلى المدينة حيث هاجر الإسلام، ويرى بدرًا وأُحُدا وخيبر والخندق حيث جاهد الإسلام، ويزور البقيع حيث دُفن خلفاء وصحابة الإسلام، ولا ينتهي به شريط الذكريات إلا في الكعبة حيث فتح الله على الإسلام. فيتجدّد الانتماء لهذه الأمة، ويتعمّق الفخر بأمجادها، والاعتزاز بمنجزاتها، هنالك يرسخ في القلب شعار الهَوية؛ هوية الإسلام. ويعقد المسلم العزم على تحمل الأمانة ومواصلة تبليغ الدعوة.
الحج تذكير بالله والدار الآخرة
أكثر ما يؤمر به الحاج هو ذكر الله، قال تعالى: (ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات)، (فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام، واذكروه كما هداكم)، (فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشدّ ذكرا)، وذكر الله يستتبع ذكر الآخرة، وكلُّ مشهد من مشاهد الحج إنما هو صورة تمثيلية مصغّرة من مشاهد الآخرة، يتجرد المحرم من المخيط كما يتجرد الميت من الثياب، يلفّ حوله ثوبًا أبيض كما يُلفّ حول الميّت الكفن الأبيض، ينحشر الناس إلى مزدلفة وعرفات كما ينحشرون إلى ربّهم يوم البعث، يتغابنون ويختبرون كُرَب الحرّ والنّصَب والزّحام كما لو أنّها كُرَب يوم التغابن، فلا يخرج الحاجّ من هذه المشاهد إلاّ وقد رقّ قلبُه، وتربّى ضميره، وزكت نفسه (وتزوّدوا فإن خير الزاد التقوى).
المساواة والوحدة بين المسلمين
هناك لا ترى فرقاً بين غني وفقير، ولا بين أسود وأبيض، ولا بين حاكم ومحكوم، هناك تذوي زينة الأثواب، وتذهب عُبِّية الألقاب، وتضمحل مفخرة الأنساب والأحساب، هناك لا فضل لعربي على عجمي إلاّ بالتقوى، ف(كلّكم لآدم، وآدم من تراب). هناك في الحج ترى المسلمين بشتى ألوانهم وأعراقهم وأجناسهم وبلدانهم ولغاتهم ولكنّ زيَّهم واحد، وشعارَهم واحد، وقبلتَهم واحدة، وقرآنَهم واحد، ونبيَّهم واحد، وربَّهم واحد، إنّها مقوّمات الوحدة في أجلى صورها، إنها دعوة عملية إلى وجوب الوحدة، (إنّ هذه أمّتكم أمةً واحدةً وأنا ربّكم فاعبدون). إنّه لخليقٌ بالأمّة الإسلاميّة أن تستلهمَ مِن هذه شعيرة الحجّ درسَ الوحدة، وليبدأ كلّ بنفسه؛ يتحد الأقارب والجيران، تتحد الأسر والشعوب والمجتمعات، والدول والحكومات.
الحجّ ميلاد جديد.
ينفكّ فيه الحاج من أغلال المعصية، ويتطهّر من الران والأدران، قال رسول الله: (من حجّ فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمّه)، أي يرجع صفرا من الذنوب والمعاصي، ولا يُجزَى الحاجُّ هذا الجزاء إلاّ لما يظهر من صدق توبته، وخلوص قصده ونيّته، فما أحوجنا وأحوج أمتنا إلى هذا الميلاد الجديد، أن نقف وقفة مراجعة لمراجعة الذات، ونقد الذات، وتقويم الذات.
م.هـ

عيد الأضحى أو نهاية عهد تسويغ قتل البشر من أجل الله
 يقدم بعض المؤرخين حادثة فداء إبراهيم بكبش عظيم فاصلة تاريخية انتهى بموجبها عصر تقديم البشر على مذابح الآلهة قربانا لها بالتوازي مع أفول عصر عبادة الكواكب والنجوم على يد إبراهيم ذاته. ولئن بدا مستغربا في نظر العقل العلمي الحديث انحطاط هوس التدين والخرافة إلى هذا الحضيض الذي يأسر النفوس ويجعلها تقبل طواعية وضع فلذة كبدها في مشرح دراماتيكي احتفائي بلون الدم دون تأنيب ضمير  أو تنبه عقل. بيد أن ما في حادثة الفداء الإبراهيمية من الأبعاد على المستوى الاجتماعي الإنساني ما هو أهم من مجرد تجاوز مرحلة من مراحل التفكير الخرافي وطفولة العقل إلى فلسفة التأكيد على أهمية قيمة الإنسان ذاته. هذا الذي لم يعد دمه في منظور العقيدة الإبراهيمية التوحيدية مهينا لدرجة تبرير سفكه من اجل الآلهة المزيفة أو حتى من أجل الله الواحد. فقد أعطيت له حرمة وقداسة على مستوى التشريعات الدينية بما يضمن حقنه وصيانته إلى الأبد فلم تأت التشريعات الإبراهيمية في الديانات السماوية الكبرى سوى لتؤكد على هذه المكانة فترددت عبارة (لا تقتل) ومشتقاتها كثيرا في التوراة والإنجيل والقرآن. لذلك فإن الذين يعتقدون أن سفك دماء البشر اعتباطا دون حق بدعوى التقرب إلى الله تعالى هم منحرفون عن جادة الصواب في الديانات الثلاث على غرار ما يفعله الإسرائيليون من قتل للأطفال والنساء وللشعب الفلسطيني بدعوى التطهير والتقرب إلى الله وما فعله المسيحيون الذين قدموا الآلاف على مذابح الصليببة قديما وما فعلوه حديثا في البوسنة والهرسك وما يفعله بعض المتشددين من المسلمين الذين يعتقدون أن سفك دماء الكفار الآمنين وترويعهم بالتفجيرات وغيرها يعد تقربا إلى الله. لأن زمن التقرب إلى الله بذبح البشر انتهى يوم جاء نداء الله لإبراهيم من فوق سبع سموات بفدية الإنسان فدية أبدية بحيوان بما هو أقل منه شأنا ((فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَن يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107))) (الصافات)
 ع/خ

فتاوى
ما هو الحيوان الذي يجزي في الأضحية؟
الأضحية سنة مؤكدة للقادر عليها إذا كان شراؤها لا يؤثر على نفقته ونفقة عياله وتكون من النعم وهي الإبل والضان والبقر. والضأن في الأضحية أفضل، ثم المعز، ثم البقر ثم الإبل. والذكر فيها أفضل. وأقل ما يجزي في الأضحية الجذع من الضأن، إذا كان أكثر من ستة أشهر، وأقل ما يجزي من المعز والبقر والإبل الثني، والثني من المعز هو ما أوفى سنة ودخل في السنة الثانية دخولا بينا، والثني من البقر ما أوفى ثلاث سنين ودخل في الرابعة، والثني من الإبل: ما أوفى خمس سنين ودخل في السادسة.
هل يجوز شراء الأضحية بالتقسيط؟
يجوز شراء الأضحية بالتقسيط بثمن محدد ومعلوم، على أن يدفع المشتري ثمنها على أقساط ومدة يتم الاتفاق فيهما مع البائع، بشرط أن يكون المشتري قادرا على سداد الأقساط كاملة. ويجوز شراء الأضحية بالاستدانة، إذا كان هذا الشخص يملك مرتبا شهريا أو مدخولاً ماليا يمكنه من سدّ دينه، وإذا كان بنية الحرص على إصابة السنة ونيل ثواب الأضحية. ولا يكلف الله نفسه إلا وسعها.
ما هي شروط صحة الأضحية؟
يشترط لصحة الأضحية السلامة من العيوب البينة. وذلك لحديث البراء بن عازب أن رسول الله سئل ماذا يُتَّقى من الضحايا؟ فأشار بيده، وقال: أربعا: «العَرْجَاءُ البَيِّنُ ظَلعُهَا، وَالعَوْرَاءُ البَيِّنُ عَوَرُهَا، والمَرِيضَةُ البَيِّنُ مَرَضُهَا، وَالعَجْفَاءُ التِي لاَ تُنْقِي» (الموطأ). وبالتالي لا تصح الأضحية إذا كانت مريضة مرضا شديدا أو جربا بينا أو كانت عجفاء هزيلة التي لا مخ في عظامها، أو عرجاء بحيث التي لا تلحق بالشياه في سيرها، ولا تجزئ العوراء التي ذهب بصر إحدى عينيها بصفة كاملة، والبتراء التي لا ذنب لها، أما مقطوعة جزء الذنب، فلا يضر إن كان القطع يسيرا أقل من الثلث، ولا البكماء فاقدة الصوت، بصفة دائمة، والصمعاء، وهي صغيرة الأذنين جدا من أصل الخلقة، والبخراء وهي منتنة رائحة الفم، لأن البخر يغير اللحم، ومشقوقة الأذن طولا إذا كان الشق يزيد على مقدار ثلث الأذن، وكذا مقطوعة أكثر من ثلث الأذن، ففي حديث علي رضي الله عنه: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستشرف العين والأذن، وأن لا نضحي بمقابلة ولا مدابرة، ولا شرقاء ولا خرقاء (الترمذي)، ومكسورة قرن لم يبرأ، فإن برئ قبل موت الذبح، فلا يضر، لأن نقص القرن في ذاته ليس عيبا، بل العيب ما يسببه من مرض، ومن وجدت بعد الذبح فاسدة اللحم متغيرة، لأن فساد اللحم دليل المرض البيِّن الذي يمنع الإجزاء.
هل يجوز الاشتراك في ثمن الأضحية؟
من شروط صحة الأضحية عدم الاشتراك في ثمنها، أو في لحمها، لأن النسك لا يتجزأ ولا يتبعض، قال مالك: «وإنما سمعنا الحديث أنه لا يشترك في النسك». لكن يجوز الاشتراك في الأجر بأن يشتري شخص واحد الأضحية، وينوي عند الذبح إدخال غيره معه في الثواب، فتكفي الأضحية عن كل من نواه معه، ويسقط طلبها عنه وعن كل من أدخلهم معه، ولو كانوا أكثر من سبعة إذا كانوا من قرابته، ففي الموطأ:» مَا نَحَرَ رَسُولُ اللهِ عَنْهُ وَعَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ إِلاَّ بَدَنَةً وَاحِدَةً”. وعند فقهاء غير المالكية يجوز الاشتراك في البقر والإبل، دون الغنم، وهذا الرأي فيه تيسير على الناس. ووقت الذبح يبدأ في اليوم الأول بعد أن يفرغ الإمام من الصلاة، وعلى المضحي أن يتريث قليلا بعد رجوعه من صلاة العيد، ففي الصحيح أن النبي r قال: «إِنَّ أَوَلَ مَا نَبْدَأُ بِهِ فِي يَوْمِنَا هَذَا أَنْ نُصَلِيَ ثُمَّ نَرْجِعَ فَنَنْحَرَ، مَنْ فَعَلَهُ فَقَدْ أَصَابَ سُنَّتَنَا، وَمَنْ ذَبَحَ قَبْلُ، فَإِنَّمَا هُوَ لَحْمٌ قَدَّمَهُ لأَهْلِهِ، لَيْسَ مِنَ النُّسُكِ في شَيْءٍ»وفي اليوم الثاني والثالث يبدأ وقت الذبح من الفجر إلى المغرب، بعد ارتفاع الشمس وحل النافلة. وتكره الأضحية عن الميت، فلا يضحي الإنسان عن أبويه بعد موتهما، بل يتصدق عنهما إن أراد الثواب.
هل يجوز بيع شيء من الأضحية بعد الذبح؟
لا يجوز بيع شيء من الأضحية بعد الذبح، كالجلد أو الصوف أو اللحم، ولا يعطى شيئا منها أجرة لمن ذبحها أو أعان على ذبحها، ففي الصحيح عن علي رضي الله عنه، قال:»أَمَرَنِي رَسُولُ اللهِ أَنْ أَقُومَ عَلَى بُدْنِهِ، وَأَنْ أَتَصَدَّقَ بِلَحْمِهَا وَجُلُودِهَا وَأَجِلَّتِهَا، وَأَنْ لاَ أُعْطِيَ الجَزَّارَ مِنْهَا، قَالَ: نَحْنُ نُعْطِيهِ  مِنْ عِنْدِنَا» ومن باع شيئا من أضحيته وجب عليه أن يتصدق بثمنه.

الرجوع إلى الأعلى