على الرغم من أن من معالم عظمة الإسلام وسمو تعاليمه تكريسه لمنظومة تشريعية وعقدية أعطت لقيمة النظافة والطهارة في حياة الإنسان منزلة رفيعة، حيث ربطها بدلائل عظمة الله تعالى ووحدانيته، وجعلها شرطا لصحة عبادته. فيبدو المسلم نظيفا طاهرا جميلا في بدنه وثيابه و محيطه ومدينته. إلا أن ذلك لم يظهر له كبير أثر في جل المجتمعات المسلمة المعاصرة التي أعطى محيطها العمراني والصحي صورة سلبية منفرة عنهم، على خلاف الكثير من الأمم. فأضحت مظاهر الوسخ والمرض تتفشى أكثر  في مجتمعات تجعل من الإسلام منهج حياتها، لكنها تناست أنها كانت مضرب المثل في النظافة والطهر منذ إنشاء مدينة الرسول في يثرب إلى تأسيس دولة المسلمين في الأندلس. 
إعداد: د .عبد الرحمان خلفة
وفي هذا الملف يؤكد الباحثون أن الإسلام في نصوصه وأحكامه بريء من الواقع الذي يعيشه المسلمون ، فهذا الدين يحث أتباعه على النظافة والطهارة والصحة، داعين إلى إعادة الاعتبار لآدابه وأحكامه في حياة المسلمين اليوم.

الإسلام دين الطهارة وأمته أمة النظافة
إن الإسلام لم يترك خيراً للعباد في المعاش أو المعاد إلا أمر به وحثَّ عليه، ولا شراً أو ضرراً قد يصيبهم في عقولهم وأجسادهم إلا حذَّر منه ونهى عنه، وقد كانت نعمة الطهارة من خصائص هذا الدين التي جاءت بها شريعته الغراء، قال تعالى: “مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ” ((المائدة: 6:5). وقد اعتنى الإسلام بالطهارة الحسية والمعنوية، واهتم بنظافة الباطن والظاهر، وحث المسلم على الاعتناء بالنظافة على قسميها، إذ فيها السعادة الدنيوية والأخروية. وقد جعل الإسلام هذه الطهارة، جزءًا من حياة المسلم، وطابعًا لا غنى له عنه، وعملاً لا ينفك منه، فكان من مظاهر عنايته بذلك، أن أمر بالوضوء وجعله مرتبطاً بالصلاة، فهو شرطٌ لصحتها، ومفتاحها، وقد جعله النبي (صلى الله عليه وسلم) سبباً لمحو الخطايا ورفعة الدرجات، وكذا إيجابه الغسل عند حدوث موجباته، كما شرع الإسلام الاغتسال في حالاتٍ: كالجُمعة والأعياد، والإحرام، ومن ذلك أمره بالحفاظ على السواك الذي قال فيه النبي -صلى الله عليه وسلم-”السواك مطهرةٌ للفم، مرضاةٌ للرب.” فقبل أن تعرف البشرية فرش الأسنان بأنواعها كان المسلمون ينظفون ويطهرون أفواههم، اتباعا لهذه السنة النبوية الكريمة، ومن ذلك أمره بالأخذ بخصال الفطرة وحثه على التطيب، والختان، وأخذ الزينة عند حضور المساجد والصلاة.كما حرص ديننا في هذا الجانب على ما يتصل بحياة الناس اتصالًا مباشراً، دفعا عن الضرر عنهم، ومن ذلك نهيه  عن التبول في المياه الراكدة، حفاظا على الماء من تلويثه، بل أكثر من هذا، أن السنة المطهرة نهت عن غمس اليد مباشرة في إناء فيه الماء عند الاستيقاظ من النوم، حتى تغسل وتطهر قبل ذلك ،لأن النائم لا يدري أين باتت يده، فربما علق بها شيء منها أدى إلى تلويث الماء. ومن ذلك النهي عن إلقاء النجاسات والفضلات في الطرق والظل وموارد الناس، كما أمر الإسلام بنظافة البيوت والطرق والطعام والشراب، والأواني واللباس والمرافق العامة، وجعل إماطة الأذى عن الطريق شعبةً من شعب الإيمان. وقد سبق الإسلام في ذلك كله النظم البشرية كلها، حتى جعل الطهارة عنوان وأمارة المسلم وشامة تميزه عن غيره، ولذلك تخبرنا كتب التاريخ أن محاكم التفتيش التي أقامها الإسبان للمورسكيين في الأندلس كانت تكتشف إسلامهم عن طريق كثرة اغتسالهم؛ لأن النصارى كانوا لا يغتسلون إلا قليلا.
فالطهارة مطلب شرعي، ومسؤولية فردية، فالإنسان في نفسه مطالب بأن يحافظ على طهارته، مطالب بذلك شرعا وعرفا وعادة وعقلا، في نفسه وفي ملابسه وفي بيته وفي أهله، وهي كذلك مسؤولية مجتمعية، فالمجتمع مطالب ككل بأن يحافظ على النظافة. ولذا من المفترض بنا أن تكون النظافة والطهارة بيننا ثقافة سائدة، لأنها قضية دين وعبادة، كما هي قضية حياة وتمدن وصحة وجمالا.

الالتزام بخصال وآداب الفطرة وقاية صحية للإنسان
تعد خصال الفطرة محور النظافة الشخصية في الإسلام، فتركز على تطهير الجسم الإنساني من كل ما يمكن أن يكون مظنة اجتماع الأوساخ وتركيز الجراثيم، ومن جهة أخرى تعد مقدمة ضرورية لإبراز المظهر اللائق بالإنسان من حيث شكله وهيئته مما يعطي البعد الاجتماعي الإنساني فرصة التواصل المناسب والمريح. كما تتيح العناية بخصال الفطرة تقعيدا أساسيا للنظافة بوجه عام، فالاعتناء المشترك والمتبادل بالنظافة الشخصية تكامليا يحقق آلية تعميم النظافة وتضييق الخناق على وسائل دخول الجراثيم والأمراض. وخصال الفطرة هي السلوكيات الواجب التزامها على كل إنسان لتحقيق معنى النظافة الشخصية كما ذكرنا، وقد عددتها الأحاديث الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. منها: “الفطرة خمس (أو خمس من الفطرة) الختان، والاستحداد (وهو حلق العانة)، وتقليم الأظافر، ونتف الإبط، وقص الشارب” (البخاري ومسلم) وهناك روايات أخرى ترفعها إلى عشرة فتضيف مثلا: السواك ( ويقوم مقامه اليوم استعمال معجون الأسنان) والمضمضة واستنشاق الماء واستنثاره والاستنجاء وغسل البراجم، (الكلف التي فوق مفاصل الأصابع، حيث تتجمع بينها الأوساخ). والتطيب ( وهو استعمال الطيب. وتسميتها خصال الفطرة أو سنن الفطرة يوحي بما لها من الأصالة والحقيقة والالتصاق بكينونة الإنسان من حيث هو، بحيث لا يمكن أن يكون إنسانا في الأصل إلا بالتزامه بهذه الخصال، وهو ما يفهم منه أن الحياة الإنسانية لا يمكن أن تستمر وتتميز إلا بالنظافة.
فالنظافة ليست سلوكا زائدا أو مضافا  لحياة الإنسان بل هي سلوك أصيل وملازم لهذه الحياة. والعناصر المذكورة في سنن الفطرة وخصالها كفيلة بتحقيق معنى الطهارة والصحة، وبالتالي تحقيق معنى التوازن النفسي والبيئي المطلوبان. والملتزم بهذه الخصال في جسده ونفسه ينعكس التزامه على ما حوله فكما يحب أن يرى نفسه ويراه الناس نظيفا يحب أن يرى ما حوله نظيفا لتتكامل الصورة المناسبة والمشرقة، فينظف بيته وحيه ومكتبه وكل ما حوله ويسهم في ذلك بكل بذل ودون كلل لشعوره أن هذا هو واجب الإنسان من حيث هو إنسان.

منهج الإسلام في العناية بصحة الإنسان
لم تقتصر أهمية  النظافة في الإسلام على الإنسان في حد ذاته، بل تعدت إلى نظافة المحيط الذي يعيش فيه وفي الحديث (عُرِضَتْ عَلَىَّ أَعْمَالُ أُمَّتِي، حَسَنُهَا وَسَيِّئُهَا، فَوَجَدْتُ فِي مَحَاسِنِ أَعْمَالِهَا، الأَذَى يُمَاطُ عَنِ الطَّرِيقِ، وَوَجَدْتُ فِي مَسَاوِئِ أَعْمَالِهَا، النُّخَاعَةَ تَكُونُ فِي الْمَسْجِدِ لاَ تُدْفَنُ). وفيه: (اتَّقُوا الْمَلاَعِنَ الثَّلاَثَ قِيلَ مَا الْمَلاَعِنُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: (أَنْ يَقْعُدَ أَحَدُكُمْ فِى ظِلٍّ يُسْتَظَلُّ فِيهِ أَوْ فِى طَرِيقٍ أَوْ في نَقْعِ مَاءٍ).
 ووسائل المحافظة على الصحة متنوعة في نصوص الكتاب والسنة وهي أكبر من أن نحصرها هنا، و لكن من أهمها  الدعوة إلى الاعتدال في الطعام والشراب كما في قوله صلى الله عليه و سلم: (مَا مَلأَ ابْنُ آدَمَ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنٍ، حَسْبُ ابْنِ آدَمَ أُكُلاَتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ، فَإِنْ كَانَ لاَ مَحَالَةَ، فَثُلُثُ طَعَامٍ، وَثُلُثُ شَرَابٍ، وَثُلُثٌ لِنَفَسِهِ). واجتناب الخبائث التي تضر بصحة الإنسان كالخمر والمخدرات ولحم الخنزير والجيفة وغيرها .
     ومن معالم هذا النهج الرباني في التعامل مع الأمراض، نجد ضرورة التداوي والأخذ بالأسباب، يقول عليه الصلاة والسلام. «ما أنزل الله من داء إلا انزل له دواء» رواه البخاري. فالدواء موجود، وما على الإنسان سوى السعي والبحث وأن لا يفقد الأمل في الشفاء، فالحديث سلوى للمريض وجرعة أمل لمن أنهكه المرض.
     ومن مفاخر الحضارة الإسلامية  أنها  كانت سباقة في تأسيس ووضع  ما يعرف بالحجر الصحي في حالات الأوبئة والأمراض المعدية،   فقد ثبت عن النبي  صلى الله عليه وسلم في حديثه عن الطاعون: (إذا سمعتُم به بأرض، فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها، فلا تخرجوا فرارًا منه)، فكان المرض من قدر الله  وكان الأخذ بالأسباب لتجنبه من قدر الله، وكما قال صلى الله عليه وسلم: (لا عدوى ولا طيرة)، فالعدوى لا تنتقل بنفسها ولكن بتقصير منا، فيجب الحذر وتقديم الأسباب وتسيلم أمرنا لله ونحن في قمة الرضى والخضوع.

فساد المحيط من فساد الأنفس
الأصل أن تظل نفس الإنسان على فطرتها ايجابية في تعاطيها مع المحيط. لكن قد ينسى الإنسان دوره في عمارة الأرض، فتتلوث نفس البشر ويتلوث أصله لأن سنن الله غلابة، وإذا فسدت باطن الإنسان وتلوثت نفسه انعكس ذلك على محيطه سلبا. كما قال تعالى: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ).
 و حث الإسلام على جملة آداب وردت بها الأحاديث ورغبت في الالتزام بها حال الأكل والشرب. منها
(أولا) غسل اليدين قبل الطعام وبعده وتنظيف الفم بالسواك أو الفرشاة
(ثانيا) التسمية في أول الطعام.
(ثالثا) عدم عن التنفس في الماء والطعام.
(رابعا) كراهية الشرب من فم القرب والحنفيات. بل على الإنسان أن يصب الماء في كوب ثم يشربه.
 و يعد الماء أساس الحياة وشرط العبادة في الإسلام. وقد ذكره القرآن الكريم في ثلاثة وستين موضعا. ومن الله تعالى على عباده بإنزال الماء وبين بعض فضائله. فقال الله تعالى: «أفرأيتم الماء الذي تشربون § أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون  § لو نشاء جعلناه أجاجا فلولا تشكرون)) وقال تعالى “هو الذي أنزل من السماء ماء لكم فيه شراب ومنه شجر فيه تسيمون». كما بين أنه انزله للطهارة فقال الله تعالى ((وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاءً لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ)). وجعله حقا مشاعا بين المخلوقات فقال الرسول (صلى الله عليه وسلم): «المسلمون شركاء في ثلاث الماء، والكلأ والنار). وما يزال البشر يوما بعد يوم يقفون في ظل اكتشافاتهم العلمية وصناعاتهم التكنولوجية على أهمية الماء الذي أضحى مصدرا للطاقة والعلاج. كثيرا ما سطعت شهب الحرب من أجله.  لذلك أوجب الإسلام المحافظة عليه ليظل عنصرا صالحا للاستعمال.
 فحظر كل سلوك بشري من شأنه هدر هذه الطاقة أو تلويثها. فحرم الإسراف والتبذير فقال الله تعالى (( يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا  إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31))) ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تبذير الماء (وَإِنْ كُنْتَ عَلَى نَهْرٍ جَار) »  كما نهى عن تلويث الماء بأي قاذورات ترمى فيه فقال صلى الله عليه وسلم قال: (لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري، ثم يغتسل فيه) متفق عليه. ولاشك أن الكثير من الأمراض الخطيرة المتنقلة على غرار الكوليرا والتيفويد وبعض الأمراض الجلدية إنما مصدرها المياه الملوثة التي يستعملها الإنسان في شربه ومعاشه. فحري بالمسلم أن لا يرمي النفايات في أماكن تجمع الماء من آبار وخزانات وسدود وأنهار لأنه إن فعل ذلك يكون قد ألحق الضرر بالبشر والحيوان وسمم عنصر حياتهم. والله تعالى يقول ((وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا)).
ع/خ

الرجوع إلى الأعلى