بحــوث معروضة للبيع بأسعــار تصل إلى 500 دينـــار
فقدت البحوث في السنوات الأخيرة جدواها البيداغوجية لتتحول  إلى مجرد مادة جاهزة تقتنى من مقاهي الانترنت أو عن طريق تصفح يقوم  به التلميذ  أو أحد أفراد عائلته، وهو ما حولها إلى سلعة تعرض بأسعار تتراوح من  50 إلى 500 دج، وجد فيها البعض تجارة مربحة  قتلت في التلاميذ روح المنافسة والإطلاع. الظاهرة على خطورتها تأخذ في الاتساع عبر مختلف الأطوار التربوية ومقاومتها تبقى محصورة في محاولات أساتذة كسر ثقافة القالب الجاهز، لكنها  حاضرة وبقوة في يوميات التلميذ ومساره التعليمي إلى درجة أنها أصبحت تسوق من طرف التلاميذ أنفسهم داخل المدارس.  وما زاد الأمر سوء أن الأولياء لا يتحركون بل ويشجعون سلوكات تهدد مستقبل أبنائهم بمساعدتهم  في تلك البحوث بكل ما يمكن أن تتضمنه من معلومات مشكوك في صحتها.
روبورتاج: عبد الرزاق.م
النصر سلّطت الضوء على هذه الظاهرة من خلال زيارة عدد من مقاهي الانترنت و التحدث إلى المشرفين عليها، و كذا نقل تجارب بعض التلاميذ في أطوار الابتدائي و المتوسط و الثانوي، إضافة إلى معرفة آراء الأساتذة و كيفية تعاملهم مع المتمدرسين. و قد زرنا عددا من مقاهي الأنترنت بوسط مدينة قسنطينة و حي بوالصوف، و ما لاحظناه أن جميعها توفر بحوثا مدرسية لتلاميذ مختلف الأطوار، حيث يكون البحث من إنجاز الشخص الذي يشرف على المقهى، فيما يكتفي التلميذ بتقديم موضوع البحث، ليستلمه منجزا بعد دقائق، و يتراوح المبلغ الذي يدفعه بالمقابل، بين عشرات و مئات الدنانير، حسب حجم البحث و عدد الأوراق و الصور التي يحتويها.
مقاهي إنترنت تتحول إلى مكتبات موازية
في مقهى انترنت بحي القصبة بوسط المدينة أكد المشرف على المكان، أنه يستقبل يوميا عشرات الطلبات من التلاميذ من أجل إنجاز بحوث معينة على مدار الموسم الدراسي، و تختلف مواد هذه البحوث فمعظمها في التاريخ و الجغرافيا و التكنولوجيا و اللغة العربية و كذا اللغتين الفرنسية و الانجليزية، مؤكدا أن تلاميذ الطورين الابتدائي و خاصة المتوسط، هم الأكثر إقبالا و بدرجة أقل تلاميذ الثانوي، و قال محدثنا بأنه أصبح يعرف عناوين البحوث من كثرة الطلبات و حتى نوع البحوث التي يتم طلبها في كل فترة من الموسم الدراسي، إلى درجة أنه يملك مجموعة كبيرة منها محفوظة في ذاكرة الحاسوب، و هو بذلك لا يحتاج إلى البحث مجددا عندما يطلب منه أي تلميذ بحثا في موضوع معين، حيث يقوم بتعديل ما لديه حسب رغبة التلميذ، و أحيانا يطبعه مباشرة إذا لم يبد التلميذ أي اعتراض على ذلك، أما سعر العمل مطبوعا فيتراوح بين 50 و 200 دج في أغلب الأحيان، يضيف صاحب مقهى الأنترنت.
في مكان آخر من وسط المدينة على مستوى شارع بن مليك المعروف بـ «لاري بانجي»، أكد المشرف على أحد المقاهي الانترنت التي يصل عددها إلى حوالي 5 على مستوى هذا الشارع، أن إقبال تلاميذ المتوسطات و الثانويات كبير جدا عليهم، خاصة أن حي الكدية يضم عدة مؤسسات تربوية، و أوضح بأن الكثير من التلاميذ يقبلون على مقهى الانترنت من أجل استخراج بحوث في مواضيع مختلفة بسبب قرب الشارع من هذه المؤسسات، و هو نفس ما لاحظناه على مستوى إحدى مقاهي الانترنت بحي الكدية أيضا، حيث وجدنا تلاميذ ي في السنة الثانية ثانوي، كانوا بصدد استخراج بحث في مادة اللغة الفرنسية، حيث أكدوا بأنهم يدرسون بنفس القسم و هم عبارة عن فوجين، كل منهما مطالب بتقديم عمل منفرد في نفس الموضوع، حيث كانوا ينسقون مع الشخص المشرف على مقهى الأنترنت، حتى لا يظهر البحثان بنفس الشكل و المضمون.
90 بالمائة من بحوث «العم غوغل» متشابهة
و بحي بوالصوف قال لنا صاحب إحدى مقاهي الأنترنت، إن حوالي 50 بالمئة من نشاطه يعتمد بالأساس على استخراج بحوث لتلاميذ المؤسسات التربوية، حيث يخصص وقتا مهما من اليوم في هذا العمل الذي يدرّ، حسب تأكيده، دخلا محترما، خاصة أنه يتقاضى أجرا عن عملية البحث و كذا عن الطباعة، و لم يخف محدثنا بأن 90 بالمئة من البحوث التي يقدمها للتلاميذ متشابهة، كما أن المواقع التي يستخرجها منها هي نفسها تقريبا، موضحا بأنه عندما يكتب عن موضوع معين في محرك البحث «غوغل» سواء باللغة العربية أو الفرنسية، يعثر على مئات الإجابات التي تتيح اختيار مادة معينة، حيث يكتفي بنسخها على برنامج الكتابة «الوورد» و من ثم تعديلها بشكل لائق و طباعتها، لتصبح عبارة عن بحث يتم بيعه للتلميذ بمقابل مالي، مشيرا إلى أن سعر البحث قد يصل إلى 500 دج إذا كان يحتوي على عدد كبير من الأوراق و خاصة منها الملونة.
و لاحظنا أن جزء كبيرا من التلاميذ يقومون بإنجاز البحوث في منازلهم، لكن ليس باستعمال الكتب أو الموسوعات، بل بالاستعانة بشبكة الانترنت أيضا، خاصة أن هذه الوسيلة باتت متوفرة في أغلب البيوت الجزائرية، و حسب ما استخلصنا من عينة أشخاص من بينهم آباء و أمهات و أشقاء لتلاميذ في الطورين الابتدائي و المتوسط، فإن هؤلاء يلعبون في غالبية الأحيان دور المنقذ، للتلاميذ حيث يتولون مهمة انجاز البحث بدل أبنائهم أو أشقائهم الأقل سنا، من خلال البحث عبر الانترنت و اختيار المادة المناسبة، من أجل كتابتها على الورق أو طبعها، فمن يملك طابعة في البيت يقوم بطباعة البحث مباشرة، و من لا يحوز عليها، يتجه إلى أقرب مقهى انترنت.
تلاميذ يسوقون بحوثا داخل الأقسام
التقينا بعدد من التلاميذ من مختلف الأطوار و حاولنا معرفة كيفية قيامهم بتحضير البحوث التي يطالبهم بها الأساتذة، و قد أكد لنا معظمهم بأنهم يستعينون بشكل مباشر بالأنترنت و لا يبحثون مطلقا في الكتب أو حتى القواميس و المجلات، لأن الأمر متعب، برأيهم، كما أن المراجع الورقية غير متوفرة في أغلب الأحيان، حيث علّق أحدهم «لماذا نُتعب أنفسنا ما دامت التكنولوجيا تتيح لنا الحصول على أي معلومة نريدها بمجرد استشارة غوغل».
صلاح و هند اللذان يدرسان في السنة الخامسة متوسط، قالا بأنهما   مطالبان ببحث في مادة التربية العلمية، و قد اتفقا على توفير مبلغ من المال من أجل انجاز البحث في مقهى الانترنت الواقع بالحي الذي يقطنانه، حيث تكفل الشخص الذي يقوم بالإشراف على المحل بإنجازه و اقتصر دورهما على اختيار الصور، لكنهما تفاجأ لدى تقديمهما للبحث بأن أكثر من 5 زملاء قاموا بتقديم نفس المضمون تقريبا، و هي ملاحظة يقولان بأن المعلمة وجهتها لهم، و طالبتهم ببذل مجهود فردي في المرات المقبلة، أما محمد الذي طلبت منه الأستاذة إنجاز بحث قصير حول ثورة 1 نوفمبر، فأكد أنه وجد عددا من زملائه قد سبقوه إلى مقهى الانترنت، و أخبروا صاحب المقهى بأنهم يدرسون بنفس القسم، و لذلك قام بتغيير محتوى البحوث و وضع صورا مختلفة.
أما مروى و وصال اللتان تدرسان بالسنة الثالثة متوسط، فأكدتا بأنهما قامتا بإنجاز بحث حول الظواهر الطبيعية على مستوى مكتبة قالتا بأنها مختصة في انجاز البحوث للأطوار الثلاثة، المكتبة لاحظنا لدى تنقلنا إليها، أنها متخصصة في بيع الأدوات و الكتب المدرسية و مختلف الكتب الخارجية التي يستعين بها التلاميذ، كما أن صاحب المكان يعرض خدمة إنجاز البحوث الجاهزة التي يتولى بنفسه البحث في مضمونها، ثم طباعتها و تغليفها و «بيعها» جاهزة للتلميذ، و ذلك مهما كانت طبيعة الموضوع.
عبد السلام و هو طالب في السنة الثانية الثانوي، أكد بأنه ينجز جميع بحوثه بالاعتماد على نفسه، و لكن يجمعها من الانترنت بشكل كامل، و في بعض الأحيان يقوم بإنجاز عدة بحوث و يطبعها، مستغلا امتلاكه لطابعة في البيت، ثم يبيعها لزملائه و يكسب بعض المال، مؤكدا بأنه معتاد على هذا العمل، حتى أن زملاءه أصبحوا يكلفونه بإعداد البحوث و تقديمها لهم جاهزة، و ما عليهم سوى دفع بعض النقود مقابل هذه الخدمة.
معلومات خاطئة وأخرى مجهولة المصدر
و أكدت لنا معلمة في مدرسة ابتدائية بقسنطينة، أن الإشكال المطروح من قبل جميع أساتذة الابتدائي من زملائها و زميلاتها، أنهم باتوا يجدون صعوبة مع التلاميذ من مختلف السنوات، حيث أن الهدف من تكليفهم بإنجاز بحوث صغيرة أو مشاريع، هو حثهم على القراءة و المطالعة من القواميس و القصص و غيرها من الكتب المناسبة لهذا السن، غير أن الأساتذة يتفاجأون بلجوء التلاميذ إلى الأنترنت و تقديمهم لبحوث متشابهة.
 و أضافت المعملة أن غالبية المتمدرسين يعرضون نفس البحث تقريبا، كما أنهم لا يبحثون بأنفسهم، إنما يكون الوالدان أو الإخوة الأكبر سنا من قاموا به، و بالتالي فإن الأنترنت باتت تشكل، كما أكدت، أمرا سلبيا، بدل أن يستعملها الأولياء بشكل ايجابي في تنمية قدرات أبنائهم العقلية و المعرفية، و على سبيل المثال قالت الأستاذة بأنها كلفت تلاميذها بإنجاز مشروع صغير يتحدثون فيه عن مناسبة المولد النبوي ،  وسجلت  أن أغلب  ما قدمه التلاميذ  جاء متشابها، لأنهم اعتمدوا على المصدر نفسه من الانترنت، و ذلك من تجارب سابقة مرت عليها.
أستاذة لغة فرنسية بالطور المتوسط، أوضحت هي الأخرى أن البحوث متشابهة في 90 بالمئة من الحالات لأنها أخذت من مصدر واحد ، فالتلاميذ لا يكلفون، حسب تاكيدها أنفسهم عناء الاجتهاد و البحث عن المعلومات، بل هي عبارة عن «نقل حرفي من الانترنت و بالتالي فهم يرتكبون أخطاء كثيرة»، و في الكثير من الأحيان تضيف المتحدثة يكون البحث خارج الموضوع، لأن العملية تصبح عبارة عن صب للمعلومات بشكل خاطئ،  وعلقت المعلمة  أن  المواقع التي يعتمد  عليها لا تقدم بالضرورة معلومات صحيحة مثل ما هو الأمر بالنسبة لموقع «ويكيبيديا» الذي يقدم الكثير من المعلومات المغلوطة، و بهذا الشكل فالتلميذ لا يستفيد تماما و لا يضيف لنفسه رصيدا معرفيا، لأنه لم يقم ببذل أي مجهود يذكر.                              
ع.م

الرجوع إلى الأعلى