تمكنت بلدية بوعاتي محمود الجبلية الصغيرة شمال ولاية قالمة من تحقيق توازن مالي عجزت بلديات كثيرة عبر الوطن عن بلوغه، بفضل حنكة و دراية رئيسها، الأستاذ الجامعي إبراهيم زروال الذي كشف للنصر عن الوصفة التي جعلت البلدية التي يتواجد بها مجمع عمر بن عمر للصناعات الغذائية تعيش وضعا ماليا مريحا و تتطلع إلى جلب مشاريع كبرى، مستغلة موقعها على طريق استراتيجي نحو الأقطاب الصناعية الكبرى كعنابة و سكيكدة.
روبورتاج : فريد.غ         
بتعداد سكاني يقارب 11 ألف نسمة ومساحة لا تتجاوز 88 كلم مربع و موقع على الحدود بين 3 ولايات، تحاول بوعاتي محمود المعروفة أيضا باسمها الفرنسي القديم «غالياني» تغيير الصورة النمطية للبلدية الريفية الفقيرة معتمدة على إرادة قوية و إمكانات اقتصادية هامة و ثروات طبيعية ما زالت غير مستغلة، فأغلب أراضيها غابية و قليل منها فقط ما يصلح للزراعات المعاشية البسيطة و تربية المواشي و الدواجن و غيرها من الأنشطة الفلاحية الأخرى ذات المردود الضعيف.
أزمة عطش ترهق السكان بمركز البلدية و القرى و المشاتي و قطاع زراعي يعاني من الجفاف و ندرة المياه الجوفية في أغلب أراضي بوعاتي محمود التي اختارها عملاق الصناعات الغذائية بالجزائر عمر بن عمر لبناء أول مصنع للطماطم الصناعية بالمنطقة قبل 30 سنة تقريبا، بعد أن أعجب بموقعها الاستراتيجي ومناخها الجبلي واهتمام سكانها بالزراعات المسقية منذ سنوات طويلة.
 كانت المنطقة فأل خير على المجمع الكبير الذي يواصل التمدد عبر مختلف مناطق الوطن، و قد أوصى الفقيد عمر بن عمر مؤسس المجمع العملاق أن يدفن  في بوعاتي محمود احتراما لأهلها الذين أحبهم و أحبوه و احترموه عندما نزل عليهم ضيفا ذات يوم من أيام سنة 1987 لبناء أول مصنع لتحويل الطماطم الصناعية بالمنطقة.  
النصر انتقلت إلى بوعاتي محمود و التقت برئيس بلديتها الأستاذ الجامعي إبراهيم زروال و استمعت إليه و هو يتحدث عن هموم و أحلام أهالي هنشير سعيد و هو الاسم العربي القديم لبوعاتي محمود قبل مجيء الاستعمار الذي حاول تغيير كل شيء في إطار مخطط يستهدف طمس الهوية و المقومات الحضارية و التاريخية للأمة و مصادرة ممتلكاتها و نهب الثروات ما ظهر منها و ما بطن.  
وجدنا في بوعاتي رئيس بلدية جبلية ليس كالآخرين من أميار البدو و الحضر، رجل ملم بعلوم الاقتصاد و التاريخ و الاجتماع و له اطلاع واسع على شؤون التنمية المحلية بقالمة و بغيرها من ولايات الوطن، يتابع التحولات الاجتماعية و الاقتصادية المتسارعة التي تعرفها الجزائر في السنوات الأخيرة، و يؤلف أيضا الكتب و يطالع لكبار الأدباء الذين يكتبون باللغة الفرنسية، فهو لا يجيد العربية كثيرا لكنه يحاول في كل مرة أن يجعل محدثه يفهم ما يقول بمزيج لغوي يفي بالغاية و يبلغ الهدف.
له مؤلفات حول كبار الأدباء الجزائريين من بينهم كاتب ياسين، وله أيضا تصور حول مستقبل بلدية بوعاتي محمود و غيرها من بلديات الجزائر العميقة حيث يعشش الفقر و تتراكم مشاكل التسيير و تنهار خزائن الجماعات المحلية تباعا تحت تأثير شح الموارد الجبائية و سوء التسيير أيضا.    
   المير:  «بهذه الطريقة حققنا التوازن المالي»
بدأ إبراهيم زروال حديثه معنا بأزمة الجباية المحلية و الديون التي تحاصر البلديات الفقيرة و تحول دون تطورها و استقلالها المالي عن الخزينة العمومية و صناديق دعم الجماعات المحلية، قائلا بأن أزمة التسيير و نقص الكفاءة و التكوين و ضعف الإرادة و الخوف من المبادرة و التضحية تعد من أسباب الفقر الذي يلاحق بلديات الجزائر العميقة و حتى كبرى البلديات الحضرية، و ضرب محدثنا مثالا ببلدية بوعاتي محمود التي مرت بأزمات مالية خانقة على مدى سنوات طويلة لكنها بدأت تتعافى بعد أن أطلق المير المثقف مخططا صارما و شجاعا لتثمين الممتلكات و تحصيل الجباية المحلية و البحث عن مزيد من المصادر المدرة للأموال حتى و لو أدى به الأمر إلى المطالبة بتراخيص لفرض رسوم على النشاط الفلاحي و هو النشاط الرئيسي لسكان المنطقة.
فكيف تمكن رئيس بلدية بوعاتي محمود من تحقيق التوازن المالي المريح و الوصول إلى فائض في الأموال و الانتقال إلى مرحلة الاستثمار و دعم التنمية المحلية في وقت يعاني فيه بقية زملائه من رؤساء البلديات عجزا مستديما وصل إلى حد عدم القدرة على دفع أجور الموظفين و تحمل أعباء التسيير اليومي للمرفق العام؟
نهاية تأجير المحلات بالدينار الرمزي
 يقول إبراهيم زروال متحدثا عن خطط إنعاش الاقتصاد و الجباية المحلية، «وجدت محلات تجارية تؤجر بنحو 200 دينار شهريا في حين يتجاوز معدل الإيجار الحقيقي العشرة آلاف دينار، فرضت السعر الجديد على المؤجرين و راجعت أسعار الممتلكات العقارية بنحو 150 بالمائة وحصلت ضرائب و رسوم التجارة و الإشهار و أطلقت عملية لتأجير معدات البلديات و فرضت حقوق نقل رمزية على التلاميذ لا تتجاوز 500 دينار في السنة، رممنا مقهى وسوق الفلاح القديم و قاعة حفلات و أكشاك وسنطرح كل هذا للإيجار بأسعار حقيقية، طلبنا من وزير الداخلية الترخيص للبلديات بفرض رسوم على النشاط الفلاحي و أرى أن هذا القطاع قادر على إنعاش خزائن البلديات دون الإضرار بالفلاحين، لقد جمعنا أكثر من 16 مليار سنتيم لخزينة البلدية و سبقنا الإجراءات التي دعت إليها وزارة الداخلية لتثمين موارد الجباية المحلية و ممتلكات البلديات، لم يعد لدينا عجز و نحن اليوم ندفع أجور العمال بانتظام و انتقلنا إلى مرحلة الاستثمار بإطلاق مشاريع التنمية ذات العلاقة المباشرة بالحياة اليومية للمواطن، لقد ودعت بوعاتي محمود زمن العجز المالي و الاتكال على خزينة الدولة، هذا إنجاز مهم يمكن أن يتحقق ببلديات أخرى، ما ينقص هو الكفاءة و الإرادة و الشجاعة و التحلي بروح المبادرة و امتلاك الرؤية الصحيحة للمستقبل، بلديات فقيرة لها إمكانات اكبر بكثير من بوعاتي محمود لكنها مازالت تعاني من الفقر و تنتظر إعانات الدولة كل سنة، نحن نحتل المرتبة الثالثة حاليا بولاية قالمة في تثمين الممتلكات و رفع مؤشر الجباية و تحقيق فائض مالي مريح، ربما سيكون الأمر أفضل من هذا بكثير لو وافقت وزارة الداخلية على مقترح لفرض رسوم على الأنشطة الفلاحية و إعادة بعض الممتلكات العقارية للبلديات، ربما سيحدث هذا قريبا و عندها لن يكون هناك أي مبرر أمام رؤساء البلديات العاجزة لتحصيل موارد الجباية و تحقيق التوازن المالي عند إعداد الموازنة السنوية».  
   حل  أزمة المياه متوقف على سد زيت العنبة
لم يخف إبراهيم زروال مشاكل بوعاتي محمود و تحدث عن أزمة العطش المستمرة منذ سنوات طويلة و عن العزلة و تهيئة الأحياء السكنية و القرى و التغطية بالكهرباء و الغاز و معاناة المزارعين مع الجفاف و غيرها من الانشغالات التي تتجاوز إمكانات البلدية و حتى قدرات الولاية عندما يتعلق الأمر بأزمة العطش التي أتعبت السكان و حولت حياتهم إلى جحيم لا يطاق.  
«سكان مركز البلدية يشربون نصف ساعة كل ثلاثة أيام، شركة المياه تضخ ساعتين فقط إلى بوعاتي محمود انطلاقا من بئر الفجوج، هذا لا يكفي و نحن نطلب بزيادة ساعات الضخ لأن بعض قرى الفجوج و هليوبوليس تشرب من قناة بوعاتي محمود مثل حمام أولاد علي و الراقوبة، المؤسسات التربوية لا توجد فيها مياه الشرب و هي تعتمد على الصهاريج طيلة السنة و كذلك السكان يشربون أيضا من الصهاريج 3 أيام في الأسبوع بمعدل يتراوح بين 6 إلى 8 صهاريج صغيرة في اليوم الواحد، بينما تحصل المؤسسات التربوية على مياه الصهاريج مرتين في الأسبوع و حجم الصهريج الواحد لا يتجاوز 3 آلاف لتر، نحن ننتظر شاحنة صهريج كبيرة و ننتظر أيضا دعم الولاية لمواجهة أزمة عطش حادة مازالت مستمرة منذ سنوات طويلة».
 يذكر رئيس البلدية أن السكان كانوا يشربون من منبع مائي مجاور لكنه جف، و يضيف «حتى القناة القادمة من الفجوج تتعرض للاعتداء باستمرار من قبل بعض المزارعين ببلدية الفجوج، يثقبون القناة و يحولون المياه لسقي المحاصيل الزراعية و تعبئة الحواجز المائية و القضية مطروحة على العدالة للفصل فيها و معاقبة المعتدين الذين زادوا من معاناة أهالي بوعاتي محمود».
و لكون تربة المنطقة ذات طبيعة جيرية جافة فإن الحل الوحيد لمواجهة الأزمة هو مشروع كبير لربط بوعاتي محمود بسد زيت العنبة المجاور، و لقد نقلت البلدية الانشغال إلى السلطات المحلية و وزير الموارد المائية و هي في انتظار المشروع الحلم لإنهاء أزمة مياه الشرب و السقي أيضا، حتى سكان مشاتي مكاسة، أم لحناش، سيلا و غيرها لا يحصلون على الكميات الكافية من مياه الشرب لهم و لمواشيهم، الفلاحون يعانون كذلك من الجفاف و هناك محيط زراعي كبير على مساحة 800 هكتار ينتظر مياه سد زيت العنبة أيضا» .
 أكد محدثنا قائلا «تلقينا وعودا بإطلاق المشروع الكبير و تحويل بوعاتي محمود إلى قطب زراعي واعد في غضون سنوات قليلة، أتمنى أن يتحقق هذا قريبا، إنه أمر مستعجل، يجب أن يعرف الجميع هذا و يتخذوا القرار بشجاعة، هذا ممكن و لا نرى أي مانع يحول دون الاستجابة لمطالب السكان الذين صبروا و تحملوا العبء الثقيل سنوات طويلة».    
33 كلم من الطرقات لإنهاء العزلة
حققت بلدية بوعاتي محمود تقدما معتبرا في مجال فتح المسالك الجبلية و تعبيد الطرقات البلدية لكنها مازالت في حاجة إلى مزيد من المشاريع لربط كل التجمعات السكانية و التواصل مع البلديات المجاورة لإحداث الحركية الاقتصادية و التجارية و خاصة مع بلديات ولايتي سكيكدة و عنابة المجاورة بينها بكوش لخضر و العلمة بالإضافة إلى بلديات ولاية قالمة كالفجوج، الركنية، نشماية و هليوبوليس.  
و يرى رئيس البلدية بأن 33 كلم من الطرقات تكفي للقضاء النهائي على العزلة و تحقيق مشروع الربط بالبلديات المجاورة لأن فك العزلة حسب إبراهيم زروال لا يتوقف عند الشبكة الداخلية للبلدية بل يجب أن يتوسع الى الجوار لإحداث الحركية الاقتصادية و الاجتماعية المفيدة.  
وبخصوص الربط بالكهرباء تحتاج بوعاتي محمود إلى 11 كلم لتغطية كل المساكن الريفية المحرومة و مساعدة السكان على الاستقرار بالأقاليم الريفية و المساهمة في التنمية المحلية.
لا توجد أزمة عقار ببلدية بوعاتي محمود سواء بالمناطق الريفية أو بمركز البلدية الذي يعاني من نقص في التهيئة و خاصة بأحياء عنابي الطاهر و بن عربية، ويتوقع رئيس البلدية إطلاق مشاريع التهيئة قريبا بعد الحركية الجديدة التي صارت عليها مديرية التعمير التي مرت بمرحلة صعبة أثرت على كل مشاريع التحسين الحضري عبر الولاية.    و تنتظر بوعاتي محمود أيضا مزيدا من مشاريع السكن و المرافق الصحية و الخدمات و مرافق الشباب و قبل كل هذا يجب أن تصل مياه سد زيت العنبة و تنطلق مشاريع التحسين الحضري لإحداث حركية اقتصادية و اجتماعية ببلدية جبلية صغيرة تتوجه بقوة نحو مستقبل واعد.    
ف.غ         

الرجوع إلى الأعلى