يعد الالتزام بالحجر الصحي، من بين التحديات الحقيقية التي واجهت المجتمع الجزائري، منذ بداية جائحة فيروس كورونا المستجد، إذ عجز الكثيرون على تقبل فكرة العزلة الاجتماعية و التغير المفاجئ  في نمط العيش، رغم نداءات الأطباء و المسؤولين و التأكيد المتواصل على أن هذا السبيل يعتبر الحل الوحيد لمواجهة العدوى، حتى أن هناك مصابين بالفيروس فروا من الحجر، فيما تعمد آخرون إخفاء إصابتهم بالعدوى لتجنب العزل مهددين بذلك سلامتهم و سلامة الآلاف، وهو تخوف و رفض أرجعه مختصون إلى جملة من العوامل النفسية و الاجتماعية و حتى المادية، في مقدمتها عدم  تعود الجزائريين على الوضعيات الوبائية و ضعف ثقافة الوقاية ناهيك عن افتقار الكثيرين للتأمين الاجتماعي و تأثير الإشاعة على الأفراد.

الأخصائي النفساني ماليك دريد: الحجر إجراء وقائي وليس عقابي

يكمن السبب الرئيسي حسب، ماليك دريد، أخصائي نفساني رئيسي بالمركز الاستشفائي الجامعي بسطيف، في أننا كمجتمع غير متعودين على الأوبئة و الأمراض المعدية، وذلك على اعتبار أن آخر وبائين بهذا الحجم اختبرهما الجزائريون كانا الكوليرا و التيفوس، و هي مرحلة ترتبط أساسا بالفترة الاستعمارية، ما جعلنا نفتقر كما عبر،  لثقافة الوقاية بما في ذلك الالتزام بالحجر الصحي، و ارتداء الكمامات حتى بالنسبة للإنفلونزا العادية، بدليل  أننا في الأيام الأولى للوباء كنا ننظر باستغراب شديد إلى كل من يرتدي كمامة.
 مع ذلك لا ينفي المتحدث وجود تزايد في عدد الفئات الملتزمة بالحجر الصحي، فالناس حسبه، باتوا أكثر وعيا بعد ارتفاع نسبة الوفيات، كما يلاحظ كذلك بأن أوائل من التزموا بالحجر هم الأشخاص الذين يعانون من شخصية وسواسية و خوف من المرض.
 و يرى المتحدث،  بأنه لابد لنا أن نفهم أولا، بأن الحجر هو إجراء وقائي احترازي وليس عقابا ونلتزم به، حتى وإن كان تجربة نفسية لها سلبياتها بداية بتغير نمط الحياة، بصفة مفاجئة وغير منتظمة و غير منتظرة وهو  تحديدا ما يصعب تقبله خصوصا بالنسبة للشباب و المراهقين الذين يلعب  تكوين شخصيتهم في هذه المرحلة العمرية دورا في جعلهم الفئة الأكثر تمردا، على اعتبار أن المراهق أو الشاب يميل عموما إلى الاستهتار بالمرض و عدم الالتزام بالتعليمات واعتبار نفسه منيعا عن العدوى التي تصيب حسبه، الشيوخ و المرضى، كما أن ثقته في بنيته الجسدية تعتبر أيضا عاملا مساعدا على عدم انضباطه.
هناك أيضا الشائعات بخصوص الندرة في المواد الاستهلاكية، كما ذكر،  فهذه الممارسات فرضت الفوضى و عدم احترام إجراءات الحجر خصوصا و أن الناس متخوفون بسبب قرب شهر رمضان الذي يرتبط في مجتمعنا بعادات غذائية معينة.
 الظروف الاجتماعية و الفردانية عوامل كسّرت الحجر
 يضيف المتحدث، بأن الأسباب التي ضاعفت عدم التزام الكثيرين في الجزائر و العالم ككل بإجراء الحجر، تشمل كذلك ظروف المعيشة، فهناك حسبه، من يعيشون في شقق ضيقة جيدا يصعب أن يواجد داخلها عدد معين من الأفراد، لأن ذلك سيسبب لهم الضيق لتقلص المساحة الشخصية و انعدام الخصوصية، كما لا يمكن أن نغفل كذلك عامل الفردانية، فالإنسان في السنوات الأخيرة أصبح أكثر ميلا إلى الاستقلالية عن الجماعة و العيش وفق نمط فردي  من الصعب قبول فكرة الاستغناء عنه فجأة.
 هذه  هي الفئات الأكثر عرضة لانعكاسات الحجر
  ويمكن تقسيم التأثير السلبي للحجر حسب الفئات  العمرية كما حدده الأخصائي ماليك دريد، أولهم فئة المتقاعدين، لأنهم أشخاص يعيشون في الأصل حالة فراغ، متنفسهم الوحيد هو المقاهي والأسواق و بالتالي فإن الانعزال داخل المنزل سيسبب لهم القلق و الضغط النفسي، خاصة مع انتشار الأخبار السيئة عن الوباء و عن كونهم الفئة الأكثر هشاشة و عرضة للموت بسببه، سواء في الاعلام أو  على مواقع التواصل الاجتماعي، ما سيسبب لهم خوفا من الموت و القلق من الإصابة بالعدوى، خاصة الأفراد الذين لديهم هشاشة نفسية  و شخصية وسواسية و قلقة منذ البداية.
 أما الفئة الثانية، فتتمثل في التلاميذ و الطلبة المقبلين على  الامتحانات الرسمية،  والذين يعتبرون كذلك عرضة للضغط و القلق أكثر من غيرهم، بسبب تأثير الظروف الحالية على تخطيطهم و تنظيمهم، نظرا لضبابية المشهد و عدم وضوح تواريخ رسمية للامتحانات المصيرية، ما يعني أن  هناك تأثيرا مباشرا للحجر على مستقبلهم، فنجدهم تائهين فيما يخص تنظيم مراجعتهم و متابعة دروسهم و ما إذا كان هنالك توجه لإلغاء كلي للامتحانات و غيرها من الشائعات.
 الفئة الثالثة تتعلق بالأطفال، وهم الفئة الأقل إدراكا للوضع، لكنهم أيضا عرضة لانعكاساته، بسبب الملل الذي سيصيبهم لطول فترة المكوث بالبيت و الحرمان من اللعب.
هناك أيضا الفئة  المتعلقة بالأشخاص الذين فقدوا وظائفهم، و كذا الأشخاص المصابون بالأمراض المزمنة و الذين يشعرون بالتهديد المباشر باعتبارهم معرضين بشكل كبير للعدوى، فهؤلاء سيتأثرون كما قال، نفسيا خلال فترة الحجر لأن تفكيرهم المتواصل في الخطر سيتضاعف بالنظر إلى قلة النشاطات و انعدام فسحة الترفيه و الروتين اليومي.
 وعليه ينصح الأخصائي هؤلاء الأفراد بـتجنب الأخبار السيئة و الابتعاد قدر الإمكان على مواقع التواصل الاجتماعي التي تتحدث فقط عن عدد الوفيات و الإصابات و تتجنب الحالات المتعلقة بالشفاء، و  الاكتفاء بالأخبار الموثوقة من مصادرها الرسمية المعروفة، ناهيك  عن التركيز على  سبل الوقاية و الغذاء الصحي و اغتنام الفرصة لممارسة بعض التمارين البدنية و المطالعة و القيام بمختلف الهويات، كما ينصح التلاميذ بالمراجعة بصفة عادية جدا و الابتعاد قدر الإمكان عن الإشاعات مع التأكيد على فائدة المراجعة الفردية بدل الجماعية.
إيجابيات الحجر
 ويقول الاخصائي، بأن الحديث عن سلبيات الحجر الصحي لا يجب عن يلغي جانبه الإيجابي المتمثل أساسا في تدعيم العلاقات الاجتماعية، كما أنه فرصة  لخلق جو عائلي و استعادة ثقافة الحوار بعيدا عن المشاحنات.
النفساني العيادي  كمال بن عميرة : استيعاب الظرف جزء من العلاج

من جانبه يقول الأخصائي النفساني العيادي بمستشفى قسنطينة الجامعي، كمال بن عميرة، بأن الحديث عن الحجر  يختلف، فالحجر الصحي الاستشفائي، أمر مفروغ منه مادام المريض يزاول علاجه في المستشفى مع فريق الدعم والعلاج،  لكن الإشكال الأصعب يتعلق بالحجر المنزلي السليم، الذي بفضله نستطيع التحكم في العدوى وبالتالي السيطرة على الفيروس        يقو ل: « عندما أتحدث عن حجر منزلي سليم فأنا أعني ضرورة  الالتزام بالوعي و معرفة أن الأمر لا يعتبر نقمة و تقييدا للحرية وإنما هو إجراء وقائي سليم يحد من خطورة انتشار الفيروس، خاصة إدا علمنا أن الفيروس ليس هو من يأتي إلينا ولكن في الواقع نحن من نذهب إليه للأسف . لكن مع التدابير الوقائية كالنظافة واستعمال المعقم واحترام مسافة الأمان وتجنب التجمعات والخروج إلا للضرورة القصوى فإننا سنتجاوز الظرف في وقت قصير، فيما سيتسبب لنا إهمال كل ما سبق ذكره، في عواقب وخيمة».
 كثرة التعرض للإشاعة عبر مواقع التواصل يصعب التعايش
وحسب المتحدث، فإن هناك فئات قليلة تمكنت من الالتزام بهذا الإجراء و التعايش معه بتوتر أقل، فيما يعيش البعض حالة من القلق المتزايد وهم تحديدا، الأفراد الذين يستهلكون الأخبار بشكل مكثف، و يتعاطون مع الإشاعات التي تنتشر بقوة على مواقع التواصل الاجتماعي، كما تشمل هذه الفئة حسبه، الحالات المرتبطة بالإهمال و تجاهل قواعد الوقاية والسلامة الصحية، وهم  الأشخاص الأقرب للإصابة بالعدوى، وهنا وجب كما قال، تكثيف الجهود الرامية إلى التحسيس والتوعية وهي مهمة يتكفل بها الإعلاميون و النفسانيون على حد سواء، كما يتوجب أيضا على الأفراد أن يتمتعوا بمسؤولية عالية خاصة في هذه الظروف لأن من شأن ذلك أن يرفع معنويات رجال الأمن و الحماية المدنية و العاملين في قطاع الصحة باعتبارهم جدار الصد  الأول.
الأخصائي قال، بأنه يتوجب على المواطنين أن يستوعبوا مفهوم الحجر لأن ذلك يعد جزء من العلاج، فعزل الفيروس عن الأجسام الحاضنة يسرع القضاء عليه، ولذلك  لا بد للجميع أن يفهموا بأننا في مواجهة من أجل البقاء أمام عدو لا يمكننا أن نراه وأن سلاحنا الوحيد هو الوعي، و التحكم في مخاوفنا الناجمة عن انعكاسات طول مدة الحجر خصوصا بالنسبة للأشخاص الذين يفتقرون لتأمين اجتماعي أو لوظائف مضمونة و أجور مستقرة.
وعلى غرار ما نصح به زميله مليك دريد، يؤكد كمال بن عميرة، بأن الحلول تكمن في المطالعة و المراجعة بالنسبة للتلاميذ والطلبة و العودة للألعاب التقليدية القديمة، ناهيك عن إحياء دور الأسرة العاطفي الوجداني في لم الشمل و استغلال الفرصة لتصحيح بعض الأمور، مؤكدا على أهمية التحلي بالأمل و الإيجابية و النظر الى الامور بتفاؤل.
هدى طابي

الرجوع إلى الأعلى