أكّدت الأستاذة الدكتورة نورة بوحناش أن العودة الجامحة للبحث عن الروح راهنا، كانت عكس توقعات عتاة الملحدين الذين بشروا في معاركهم الشرسة نشرا لعقيدة الإلحاد، التي اعتبروها متساوقة مع التطور العلمي ونهاية الميتافيزيقا حيث انقلب الحال ودخل أكابر الملحدين، إلى الاقرار بوجود الإله، وكشفت أستاذة الفلسفة بجامعة عبد الحميد مهري بقسنطينة في حوار مع النصر أن العودة إلى الدين سببها تفاهة العالم المعاصر وما توصل إليه العلم المعرفي اختبارا تجريبا وتحققا استدلاليا، عبر حقائق إيمانية أربعة»الصفة المعرفية للإيمان والصفة الطبيعية للدين، والمعرفة الفطرية للصفات الإلهية، والإدراك الفطري لمعنى التوحيد» مؤكدة أننا لا نجد تصوفا معاصرا في الثقافة الإسلامية إنما نعثر على خبرة صوفية تتكرر في مدار الثقافة الإسلامية في وضعها الأنثروبولوجي القديم، ولا خوف إلا من تصوف طرقي يفني العلم ويردد الجهل، ودعت من هذا المنبر قبل التفكير في قراءة اجتهادية لمقاصد الشريعة، لابد من استثارة معرفية تضع المعرفة الموروثة بتصوراتها ومناهجها،على محك النقد؛ لأن فشل التجديد يؤول إلى ثبات الأنموذج التاريخي التراثي الذي تحول إلى سد يعيق التغيير خاصة في مدار العلوم الإسلامية التي نزل النقد فيها منزلة التكفير.
عتاة الإلحاد عادوا للإقرار بوجود الله
( تنبأ بعض المفكرين؛ ومنهم مفكرون مسلمون بأن القرن الحادي والعشرين سيكون قرن الإلحاد؛ لكن الذي حدث هو العكس؛ حيث اتخذ التاريخ مسلكا آخر، فعاد التدين ليكتسح العالم؛ في ظل تنامي الروحانيات، بما تفسرين هذه الظاهرة، وما عواملها؟
  يعد جدل الإيمان والإنكار ميزة بشرية، فليس أكثر من الإنسان جدلا بين الموجودات، ربما لأنه ظل يبحث عن الحقيقة حينا لا يستهان به من الدهور التي عاشها على الأرض ولم يعثر عليها البتة، كل شيء يثير الدهشة ولكن هذ الاجابة عن هذه الدهشة ستعتريها الشكوك والمفارقات؛ لذلك تجد العقل البشري، يقلب الشكوك دوما أبدا ولكنه لم ينل اليقين حتى وإن ركن إليه بعض الشيء في حالات إعمال للحس والعقل، إذ ما فتئ اليقين السابق إلا أن يكون مثارا للشك والمجادلة فهل يعود ذلك إلى قصور حواس الإنسان، وعدم مجاوزتها المنظور المحسوس؟هل يكون منطق العقل قاصرا مهما علا في بنية التحليل الذي تمده به الحواس،ولكن ما مدى تأثير الحال النفسي على وجهة العقل هو بحاجة إلى الهدي الذي يرافق تجربته الروحية.
 تلك هي المعضلة التي مافتئت تثير الجدل بين الفئات، سواء كانوا فلاسفة أو علماء؟فقد تؤدي إلى الاعتراف بوجود الحقيقة، لكنها تستغلق في وجه بعضهم ويتصور استحالتها، كما هي حالة الفلاسفة الشكاك، اللاأدريين الذين عجزوا على معرفة الحقيقة، من هنا تعجز القدرة البشرية في سعيها نحو فتوح الحقيقة، لكن وعلى الرغم من أن الملحد يصرح بفناء أفق الربوبية، فإنه سيعترف بما يعوض به هذا الإله الغائب، وهي مبادئ قمينة بسد ثغرة الإيمان تجلت في المادة، أو في الطبيعة المكتفية في ذاتها وعوامل أخرى لا تتجاوز حد التصور الحسي، باعتباره الأفق الأقدر على جلب الحقيقة.
يصف طه عبد الرحن إنسان اليوم بأنه إنسان ميت، يأتيه الموت من كل جانب، فما سبب هذا الموت الجامع؟بالنسبة للفيلسوف المغربي، يكون سبب هذا الموت فقدان الوسيلة إلى الروح، لقد انفصل عن فطرته ووعن ميثاق تحيين هذه الفطرة، والتذكير بها إحياء على مدى الزمن الذي يحياه. ويبدو أن موت الإنسان الحديث لايضاهيه موت،إذ فقد بوتقة التصرف في ذاته لأنه نسي الميثاق ولم يعد يذكره، فدخل الناس في وضع الروح مقتضب، فلا أمل يحيط بالإنسان، وإذ ذاك لم يجد سوى تكرار الاستهلاك والترغيب في الرغبة، ينام على السعي في الاستزادة في الرغبات ويستيقظ عليها،فغم عليه إلى حد لم يعد أمامه مقصدا سوى تلبية غرائزه المتلاحقة، إلى حد أن جعلته هذه الغرائز أضل من البهائم، وهو ما أثار البؤس الروحي وأدى بالإنسانية الراهنة، وهي تئن من فرط هذا البؤس إلى البحث عن فتوح للروح، فشهدنا عودة جامحة للبحث عن الروح، يشهد على ذلك الإحصاء الذي تقدمه الكثير من الهيئات عن عدد المسلمين الجدد في أوروبا وأمريكا.
فشل التجديد يرجع إلى ثبات الأنموذج التاريخي التراثي الذي تحول إلى سد يعيق التغيير ونزل بالنقد منزلة التكفير
حقيقة أن هذا الموت الروحاني الذي اختص به الإنسان الراهن، كان عكس توقعات عتاة الملحدين مثل رتشارد داوكنز وزملائه، الذين بشروا في معاركهم الشرسة نشرا لعقيدة الإلحاد، التي اعتبروها متساوقة مع التطور العلمي ونهاية الميتافيزيقا بنهاية نصوصها الدينية المقدسة تدليلا على طابعها التاريخ، لكن انقلب الحال ودخل أكابر الملحدين، مثل الفيلسوف الانجليزي أنطوني فلو إلى الاقرار بوجود الإله، ليكتب بعد ثمانين سنة من تقرير لعقيدة الإلحاد معترفا»هناك إله».
أظن أن العودة إلى الدين سببها تفاهة العالم المعاصر، ذلك أن الحياة المادية التي اختزلها الإنسان المعاصر مقصدا أولا تتناقض مع فطرته، التي هي بحث عن الغائية الوجودية التي تتجلى في سؤال يتكرر دوما، ما الغاية من الحياة؟، لذلك لن تقتنع الروح بمطالب الغريزة، وترتقي إلى البحث عن مطالب الروح.
 وهكذا لا ينتظم الالحاد مع الوتيرة الأنطولوجية للإنسان جملة، فالمجال المعرفي يطالب بالإجابات عن الأسئلة المطروحة، فالسمع والبصر الذي سيعود حسيرا، إذا ما لم يلتق تفكرا برب العالمين، لم يعد يقتنع بالإجابات المقتضبة التي يقدمها العلم الحديث بوصفه ذي بنية تجزيئية، من خلال أسئلة ملحاحة من قبيل ما هو أصل الحياة؟وهذا خلق الكون الشديد الإحكام الصارم في النظام، خاصة أن الفيزياء المعاصرة مكنت من استدلال عميق، على خلقه من نقطة الصفر عبر نظرية الانفجار الأعظم، كما تبين أن الموازين التي تحكم الكون، دقيقة إلى حد لو اختل ميزان ذرة سيؤدي إلى الانهيار الأكب، ناهيك عن البيولوجيا التي كشفت عن سر الوجود المتنوع عبر الجينوم، ودلائل العلم لا تحصى في إثبات الوجود الإلهي، لا ينكرها إلى جاحد متكبر، ما يؤكد التطابق الكلي بين الكتاب المنظور والكتاب المقروء.
 كل هذه الدلائل تؤكد على وجود علة للكون، تتبين سيماتها في الكتب السماوية كما يشير إلى ذلك فرنسيس كولينز، ذلك أن العلماء كما يشير ذات العالم سافروا عبر سبل الشك والبحث، ولما ادركوا قمم الإيمان وجدوا هنالك من قرؤوا وأولوا الكتب السماوية، واقفين ينتظرونهم فكان العلم والدين في وفاق تام. ولعل العامل الآخر الذي أدى إلى العودة العارمة في زمن العلم والتقنية إلى البحث عن الروح، هو ما توصل إليه العلم المعرفي اختبارا تجريبا وتحققا استدلاليا،عبر حقائق إيمانية أربعة»الصفة المعرفية للإيمان والصفة الطبيعية للدين، والمعرفة الفطرية للصفات الإلهية، والإدراك الفطري لمعنى التوحيد» وهي على ما يبدو مرسومة في الكتاب المقروء عبر الفطرة التي فطر الله الناس عليها.
( هل تعتقدين بعودة الصوفية لتجتاح العالم مجددا في ظل التطور المادي التكنولوجي الحديث؟
المعرفة الصوفية درجة من درجات المعرفة الإيمانية، وهي تساوق الإيمان منذ منبته الأول، و لأن طبيعة البشر الاختلاف، فلا يمكن أن يتناسبوا في الإيمان بنسب متطابقة، لذلك سيتنوعون في درجات الإيمان ليكون التصوف درجة من درجاته كما كان دائما منذ حكما الهند وفيثاغورس، عاد التصوف في الحضرة البشرية تحت ضغط المادة  والأداتية التقنية، بل كان التحالف الثلاثي المادة العلم، التقنية مدعاة إلى تحرير الذات البشرية من قهر الحياة المعاصرة، التي استعبدت الإنسان بمطالبها المتزايدة لتتجه هذه الذات وقد خمدت تحت إلحاح المادة نحو مساحات الروح،لذلك وجدنا فلاسفة معاصرين يحملون الدعوة للترقي الروحي عبر التصوف درأ لفضاضة التقنية وحلا لأزمات الحياة المعاصرة.   
(  أليس هناك تخوف من أن يتسبب التصوف مجددا في نكوص العالم الإسلامي؛ لاسيما إن عاد بملابساته التاريخية التي تزدري الدنيا؟
في الحقيقة لم تزل المعرفة العربية الإسلامية تنزوي بعيدة عن الفحص المعرفي العقلاني، لذلك تبقى التجربة الصوفية في عالم إسلامي يقع متذبذبا بين الحداثة والتقليد تلبس جبة التصوف القديم غير متطلعة لما تحمل التجارب الكونية من نزعة الكشف العقلاني المرتسم في أفق العلم، فلا نجد تصوفا معاصرا في الثقافة الإسلامية لينطلق من ردة فعل على السؤال المعرفي الذي تثيرها الحياة المعاصرة جملة،إنما نعثر على خبرة صوفية تتكرر في مدار الثقافة الإسلامية في وضعها الأنثروبولوجي، القديم فلا خوف إلا من تصوف طرقي يفني العلم ويردد الجهل ويتحالف مع السلطة ويجعل من الزوايا تكايا لنهاية التفكر والتدبر.
لا خوف إلا من تصوف يفني العلم ويردد الجهل
( ما يزال العالم الإسلامي منذ عقود يعي استقطابا شديدا؛ جدل الدين والسياسية، أو الشريعة والعلمانية،كيف يمكن من خلال قراءة اجتهادية تجديدية للشريعة في ضوء مقاصد الشريعة أن تسهم في التخفيف من حدة هذا الاستقطاب؟
يبدو أن هذا الاستقطاب يؤول إلى أمرين: إستراتيجية العالم الإسلامي، أضف إلى ذلك الحمولة التاريخية والحضارية التي يكتسيها ماضيه، وهو ما جعله منطقة جذب وأخذ ورد، وحرب على المقومات يشهدها الفكر وتشهدها الجغرافيا، لكن قبل التفكير في قراءة اجتهادية لمقاصد الشريعة، لابد من استثارة معرفية تضع المعرفة الموروثة بتصوراتها ومناهجها،على محك النقد ذلك أن الأبعاد التاريخية لهذه المعرفة تصنع نماذجها المخزنة في زمانها ومكانها الذي انقضى،حتى فكرة المقاصد تتطلب قراءة أخرى ولا تؤلف بداهة الانطلاق نحو التطبيق وأظن أن فشل التجديد يؤول إلى ثبات الأنموذج التاريخي التراثي الذي تحول إلى سد يعيق التغيير خاصة في مدار العلوم الإسلامية التي نزل النقد فيها منزلة التكفير.
حاورها: .عبد الرحمان خلفة

 

الرجوع إلى الأعلى