خالتي عقيلة نموذج للكفاح من أجل لقمة العيش   وأخريات منسيات بالمصيف القلي
في عصر التقدم التكنولوجي و الرقمنة لا تزال عشرات النساء بالمصيف القلي، بغرب ولاية سكيكدة ، يكافحن من أجل كسب قوتهن و إعالة  أفراد أسرهن ، متحديات قسوة الطبيعة و البشر بالكثير من الإرادة و الحب و أدوات بسيطة، تستعملنها لتطويع الحقول و الأراضي و جعلها تجود بثمارها و خيراتها لإطعام أفواه أبنائهن الجائعين.
 إنهن سيدات صابرات من مختلف الأعمار و الشرائح ،أجبرتهن الظروف على القيام بمهام شاقة و متعبة تعد من مهام الرجال، لكن الصراع من أجل البقاء جعل الكثيرات منهن يقتحمن ميدان الزراعة و خدمة الأرض بأياد ناعمة اخشوشنت ، و تحولت مع الزمن إلى سواعد قوية،تمسك بالفأس و المعول و تطوع الأرض و تستثمر خصوبتها و خيراتها السخية و  ،بالمقابل يتقاعس الكثير من الرجال عن خدمة الأرض و يبحثون عن مصدر سهل للعيش، ومنهم من يترك أفراد عائلته و في مقدمتهم الزوجة تعمل في الحقول و يبقى هو بالمقهى يمارس هواية الانتظار.
عينات كثيرة توجد بالخصوص ببلدية كركرة ،أين تجد مع بداية تبيان  الخيط الأبيض من الأسود من كل صباح،  قوافل من النساء يتجهن نحو الحقول ،بمحاذاة الطريق الوطني رقم 85 ،بين القل و قسنطينة، في حين  تجد نساء أخريات بمناطق  بالمصيف القلي تقاسمن الرجال كل أعمالهم.
  الرحلة قادتنا إلى قرية الدوار بأعالي جبال بني زيد الكائنة على بعد  40 كلم عن القل لزيارة خالتي عقيلة ، التي سمعنا بأنها  واحدة من النساء اللائي اقتحمن العمل في تربية النحل بالرغم من أنها مهمة شاقة و متعبة وتتطلب الكثير  الصبر والمثابرة، لكنها بقيت صامدة أمام لسعات النحل، لجني محصول العسل لإعالة أسرتها الفقيرة ،المتكونة من زوجها المقعد  البالغ من العمر 87عاما الذي هزمته الأمراض و منها ضعف البصر ، إلى جانب أبنائهما الثلاثة.

تجني من أشــواك الحيــاة عســلا  لإعــالة أســـرتها

 كان الوصول إلى مسكن خالتي عقيلة صعبا للغاية، وكانت الرحلة شاقة ونحن نتسلق جبال بني زيد ،إلى غاية قرية «الدوار» التي وجدناها ترحب بكل زائر مع كل إشراقة شمس، تحت حراسة جبال القوفي الأشم على ارتفاع 1200 متر. وجدنا محيط القرية هادئ  ومسكن خالتي عقيلة  يلفه السكون، ماعدا صوت خوار الأبقار ،من حين إلى آخر.
بمجرد وصولنا أمام المسكن الآيل للسقوط، خرجت خالتي عقيلة مسرعة ،لاستقبالنا بصدر رحب، وبمجرد أن عرفت مهمتنا، أسرعت في الحديث بخفة روحها التي استلهمتها ،ربما من عملها في تربية النحل،كما  وجدنا الكثير من الحكمة إلى جانب الدعابة في حديثها.عادت بنا إلى زمن الطفولة موضحة بأنها تبلغ حاليا 57 عاما من العمر، و قد تعلمت تربية النحل من والدتها المرحومة، وهي في سن 12 سنة.  كانت ترافقها إلى الغابات بجبال منطقة «المساسخة» بالقل، لجني محصول العسل، بطريقة بدائية، و كان سعر اللتر الواحد وقتها  لا يتعدى 150 دج للتر الواحد ،  وتعلمت الكثير منها عن هذه الحرفة التقليدية . وبعد وفاة أمها توقفت عن العمل.
مشيرة إلى أنها التي لم تدخل المدرسة و لو ليوم واحد، إلى أن تزوجت من عمي بوزيد ،بقرية الدور سنة 1995 ،بعد وفاة زوجته الأولى.  الفقر أعاد خالتي  عقيلة للعمل في تربية النحل ،لإعالة أسرتها، خاصة وأن  زوجها ليس له دخلا، ما عدا منحة ضئيلة لا يمكن أن تسد الرمق،وكانت البداية كما قالت، بشراء 10 خلايا  نحل بقيمة 20ألف دج وهو المبلغ الذي جمعه زوجها .

أقـــاوم مــرض الربــو بالعســل

 خالتي عقيلة نموذج للمرأة الصبورة و المكافحة، تجني من أشواك الحياة ،عسلا لها ولأسرتها، تؤكد أن الفقر هو الذي جعلها تقوم بتربية النحل، فزوجها شيخ كبير، وابنها لا يزال صغيرا وهي مريضة بالربو منذ 14سنة، لكنها تقاوم المرض بخلطات من الأعشاب والعسل. ،وتواصل حكايتها بمرارة ، لقد تعرضت مرتين للاختناق، أثناء القيام بعملها ،جراء الدخان المنبعث من المدخنة التي تستعملها لجني العسل. و أعربت عن أسفها لأنها لم تتمكن  من الحصول عل منحة المصابين بأمراض مزمنة من البلدية  لتأمين نفسها ، مضيفة بأن  وزجها ينتظر أيضا تسوية ملف الضمان الاجتماعي الخاص به منذ أربع سنوات دون جدوى ، وهي الظروف التي جعلتها تعتمد في إعالة أسرتها ،كما قالت، في الكثير من الأحيان على مساعدة أهلها وأهل زوجها، لاسيما أثناء تساقط الأمطار والثلوج ، وأثناء تراجع محصول جني العسل ، خاصة وأنها في  الموسم الماضي  لم تجمع  إلا القليل من العسل، و حدث نفس الشيء هذا الموسم ،نتيجة الرياح الشديدة التي لا تساعد على قيام النحل بجمع الرحيق ،و شرحت بأنه من أصل 10 خلايا نحل، قدمت لها كمساعدة من مصالح الفلاحة بالقل، بقيت خليتين فقط.
محدثتنا بينت بأنها كانت تعتمد على انجاز الخلايا التقليدية من أغلفة جذوع أشجار البلوط وهي عملية متعبة، وتتطلب مهارة عالية لإنجازها ، و تقوم حاليا بزرع الخضروات بالحقل المتواجد بالقرب من المسكن.

أحلــم بسكــن أمــوت فيــه محترمـــة

تتأسف خالتي عقيلة لقسوة الظروف وعدم تلقيها المساعدة من قبل مصالح البلدية، مؤكدة بأن إقامتها بقرية نائية لا يعني أنها معزولة عن العالم فهي على اطلاع  على كل ما يجري من حولها ، و تعلم  أن 8 مارس هو عيد المرأة ،على حد تعبيرها. مشيرة إلى أنها شاركت في العام الماضي في معرض أقيم ببلدية بني زيد، وتقدمت بعرض حول إنتاج العسل  وتربية النحل ،و نالت جائزة هي عبارة عن قدر بخاري بسعة 3 لترات  لطهي الطعام ،و هي تفتخر بذلك . في حين لم توجه لها أي دعوة هذا العام . محدثتنا أسرت إلينا بأنها تحلم بالحصول على سكن من أجل إتمام ما تبقى من عمرها ،رفقة أولادها وزوجها بين جدرانه  والموت في ظل الستر و الاحترام ،مؤكدة بأنها ملت حياة الخوف الذي ينتابها هي وعائلتها ، أثناء تساقط الأمطار و الثلوج ، و هواجس سقوط سقف المسكن المهتريء فوق رؤوسهم.  و بمناسبة عيد المرأة تتمنى السعادة لكل نساء الجزائر، دون أن تنسى الرجال  المحترمين. و قبل مغادرتنا  ألحت علينا لتذوق  بعض  العسل الصافي من منتوجها الخاص ، ورافقتنا بالدعوات  إلى آخر منعرج من الطريق المؤدي إلى مسكنها.

العجــوز خميســـة لم تلبس حـــذاء في حياتـــها

نموذج آخر للفقر والمعاناة ،يتمثل في  خالتي خميسة فليغة، البالغة من العمر  87 سنة ،فهي منسية داخل كوخ بقرية مزاتة ببلدية أولاد عطية ،بأعالي جبال القل ،غرب ولاية سكيكدة ، تعيش حياة البؤس ، لا مؤنس لها في وحدتها، ولا معيل لها ،لمجابهة صعاب الحياة. ليس لها ما يسد رمقها سوى قليل من صدقات المحسنين ، تأكل مرة واحدة في اليوم ، وزادتها الأمراض معاناة.   أثناء زيارتنا لها، اكتشفنا عمق مأساتها،حيث تعيش وحيدة داخل كوخ اسودت جدرانه، بفعل الدخان الذي تستعمله في التدفئة شتاء، تقضي يومياتها  بين جدران  آيلة للسقوط ،وسط قاذورات وروائح كريهة . استقبلتنا و هي تبتسم و تتحدث  بروح من الدعابة و المرح ،جعلتنا ننسى قليلا  هول ما شاهدناه. بعفوية كبيرة سألت مرافقنا عن هويتنا،  وكانت تظن أننا من  مصالح البلدية  جئنا من أجل إتمام ترميم الكوخ ،أو تقديم صدقة لها ،  وبعدها راحت تسرد لنا حكاية من الزمن الماضي وتفاصيل موجعة مع  رحلة البؤس التي عاشتها . قالت أنها لم تلبس  حذاء طيلة حياتها ،و زفت إلى ابن عمها بشير ،أثناء فترة الاستعمار،  حافية القدمين من شدة الفقر، واستمرت الحياة بالنسبة لخالتي خميسة، ممزوجة بالكثير من المآسي ، في مقدمتها وفاة  زوجها مع اندلاع الثورة التحريرية ، دون أن تنجب منه أبناء.
 أضافت محدثتنا بأنها عاشت بعد ذلك  رفقة أختها مسعودة ، لكن شاء القدر ،أن تفقد أيضا هذه الأخيرة منذ سنوات،  فتحولت حياتها إلى جحيم  داخل كوخ يقاسمها الجرذان يومياتها  فيه و كذا الصراخ من شدة الآلام ...آلام الذكريات و الفقر و المرض و الوحدة و الحرمان و الخوف. إنها  تعيش على منحة لا تتجاوز  3000 دج من البلدية.  تصوم،كما قالت ، في شهر رمضان ،لكنها تتناول وجبة واحدة هي وجبة الإفطار فقط . استطردت قائلة بأن لها أقارب في قرية «أخناق بوطوطس» ببلدية أولاد عطية، لكن لا أحد منهم يزورها.   تقضي أيام  فصل الصيف تحت ظل شجرة صنوبر، هروبا من الحر داخل الكوخ الذي بناه المحسنون  ليأويها.  وفي  فصل الشتاء  تعيش حالة بيات شتوي ،حيث تغلق الباب عليها وتقضي أياما دون الخروج منه.
 محدثتنا أسرت إلينا بأنها لا تأكل اللحم إلا مرة واحدة في السنة، بمناسبة عيد الأضحى، بفضل صدقات المحسنين ،و  ترفض الانتقال للإقامة بدار المسنين و العجزة، و تأمل أن يتم ترميم الكوخ الذي تقيم به ،  كما تحلم بالظفر بسكن محترم تموت فيه،على حد تعبيرها. حسب مسؤول ببلدية أولاد عطية، فإن خميسة فلغية ،تستفيد شهريا  من منحة الشيخوخة ، وقفة رمضان و تم ترميم مسكنها من قبل مصالح البلدية،لكن هذا يكفي لتعيش بكرامة؟
بـوزيـد مخبـي

الرجوع إلى الأعلى