الأربعاء 3 سبتمبر 2025 الموافق لـ 10 ربيع الأول 1447
Accueil Top Pub

ذاكرة ثقافية وروحية: أورار لخالاث…. فن نسوي يتحدى الزمن

يعد «أورار لخالاث» فنا غنائيا نسويا تقليديا منتشرا في القرى الجبلية لمنطقة القبائل، ويُعتبر جزءا أصيلا من التراث الشفهي والاحتفالي تؤديه النساء في المناسبات الاجتماعية، والدينية، والأعراس، والمواسم الفلاحية وغيرها، حيث يجتمعن ويرددن أهازيج جماعية تعتمد على التصفيق و التناوب الصوتي بين المغنية الرئيسية وأعضاء فرقتها.

جذور ضاربة في التاريخ
فن أورار لخالاث قديم جدا، حيث يعتقد الباحثون أنه يعود إلى قرون بعيدة حين كانت النساء يمارسن الغناء الجماعي في الحقول وفي الأعراس ومختلف المناسبات.
وكلمة «أورار» تعني الغناء أو النشيد، أما «لخالاث» فترمز إلى مجموعة من النسوة، في إشارة إلى أن قوة هذا الفن تكمن في الأداء الجماعي المتناغم.
ولا يزال أورار لخالاث، يحتفظ بمكانته كجزء لا يتجزأ من التراث القبائلي، ففي المناسبات الاجتماعية، تُقام هذه الحفلات النسائية في القرى وتجتمع النساء من كل الأعمار للاستمتاع بالأغاني التي ورثنها عن أمهاتهن وجداتهن.وتتنوع مواضيعه لتشمل جوانب مختلفة من الحياة، وتتناول الأغاني قصصا اجتماعية ودينية، وتحمل أخرى طابعا روحيا، كما تتخلل أغاني أورار لخالاث عبارات مؤثرة أو أمثال شعبية ذات معنى عميق وأخرى مستوحاة من الدين والتقاليد، مثل الدعوة إلى الوحدة أو الصبر أو التضامن والاحترام.وغنّت النساء للحب وللعاطفة، والغربة، والثورة والحرب، كما غنين عن الأمل، والحنين والفقدان والشوق، و عن الفرح لتُخفف أهازيجهن وطأة الحزن في لحظات الشدة، فهي ليس مجرد أغن، بل نافذة على حياة المرأة القبائلية ومرآة تعكس أحاسيسها وتجاربها.ويتميز هذا الفن بكونه عفويا وبسيطا، يقوم على أصوات نساء يجلسن في دائرة، حيث تنطلق إحداهن بمقطع شعري قصير، ليتردد صداه بشكل فوري متناغم في المجموعة التي تشكلها البقية. ويعد البندير الآلة الموسيقية الوحيدة التي تصاحب «أورار لخالاث» فيُضفي على الأغاني إيقاعا مميزا، ويمنحها حيوية وطاقة خاصة، كما يُصنع الإيقاع بالتصفيق وهو ما يميز هذا النوع من الغناء النسوي.
من الترفيه إلى الرسالة الاجتماعية
وإلى جانب دوره الترفيهي، يعد هذا النوع الغنائي وسيلة لنقل القيم الاجتماعية والتعبير عن المواقف، فقد تلجأ النساء عبر الأهازيج إلى نقد سلوكيات معينة أو إلى تمجيد صفات نبيلة.تقول ليندة وهي طالبة جامعية :»رغم أننا نعيش في زمن مختلف، ورغم أن هناك من يعتبرون أورار لخالاث مجرد غناء جماعي تقليدي يقتصر على الأعراس والمناسبات، فإن التعمق في مضامينه يكشف أنه أكثر من مجرد ترفيه، فهو يحمل رسائل اجتماعية عميقة ذات أبعاد نفسية إنسانية، وتربوية. وهذا الفن يشبه ـ ديوانا نسويا ـ توثق فيه النساء حكاياتهن ومعاناتهن وأفراحهن، إنه فن نسوي يحمل في طياته فلسفة حياة كاملة».من جهتها، أكدت الحاجة أم الخير صاحبة 78 سنة، والمنحدرة من منطقة معاتقة، أن «أورار لخالاث» كان مدرستها الأولى، تعلمت منه الكلام الجميل والصبر على الهموم، فالنساء كن يغنين عن العروس وعن الأم التي تنتظر ابنها المهاجر، وعن الفتيات اللواتي يحلمن بمستقبل أفضل، مؤكدة أن كل أغنية كانت حكاية.وتتذكر ليالي الصيف حين كانت تجتمع في الساحة رفقة نساء القرية، وتتعالى أصواتهن مع إيقاع البندير، خاصة وأنهن ما كن يعرفن التلفاز في تلك الفترة، فكان «أورار لخلاث» هو المتنفس والطريقة الوحيدة للترفيه ورفيق لياليهن.
وتؤكد أن أجمل ما في هذا الموروث أنه يجمعهن ولا يشعرن بالوحدة أبدا، معلقة :»عندما يبدأ الغناء نصبح وكأننا امرأة واحدة وهو تضامن نحرص على حفظه».
وتشرح المتحدثة، عن طريقة تأدية أورار لخالاث قائلة إنه في العرس أو خلال أي مناسبة اجتماعية سعيدة أخرى، تجلس نساء غالبيتهن مسنات في دائرة، ترتدي كل واحدة منهن جبتها القبائلية وحليها الفضية، بينما تتوسطهن امرأة ذات صوت قوي تكون القائدة، وتبدأ بمقطع شعري قصير، ثم تردده باقي النساء بصوت عال ممتد، أشبه بموجات صوتية متكررة، يترافق مع التصفيق وصوت البندير ليمنح الأداء إيقاعه المميز.
بين الماضي والحاضر... مخاوف من الاندثار
وتسببت تغيرات الحياة الكثيرة في تراجع هذا الفن، فلم تعد الفتيات يجتمعن كما في الماضي، بسبب الهواتف والتلفاز والانشغالات الجديدة التي أخذت مكان التجمعات النسوية القديمة.
وفي ذات السياق، تقول الحاجة يمينة من تيقزيرت :»إن بنات اليوم لا يعرفن الكثير عن «أورار لخالاث» و لا يتقنّ الأغاني التي ترددها النسوة، لأن كل واحدة منشغلة بهاتفها أو حاسوبها طوال الوقت». مضيفة «نخاف أن يضيع هذا الفن ولا يجد من يحمله من بعدنا».ورغم هذه المخاوف، إلا أن هناك محاولات لإحيائه في السنوات الأخيرة، من خلال الجمعيات الثقافية التي تنظم ورشات تعليمية، حيث تنقل الجدات خبرتهن إلى الفتيات الراغبات في تعلم هذا النوع من الفن، في محاولة لوصل الماضي بالحاضر. كما أطلقت مديرية الثقافة لولاية تيزي وزو منذ ثلاث سنوات، مسابقة تتنافس فيها عدة فرق على نيل المرتبة الأولى والفوز بلقب أحسن فرقة نسوية. ويقترح باحثون وفاعلون ثقافيون، جمع وتوثيق الكلمات القديمة قبل اندثارها، وتنظيم مهرجانات وملتقيات خاصة به، وإدماجه في البرامج التربوية والفنية، مع العمل على إدراجه ضمن قوائم التراث اللامادي في الجزائر وربما في اليونسكو. فإذا كان الماضي قد أعطى هذا الفن دوره، فإن الحاضر حسبهم، مدعو اليوم إلى تكريس حقه في البقاء، كي تظل الأصوات الجماعية تردد صدى التضامن والحياة في جبال القبائل.

* فرقة «أقراو تلاوين»
غناء يحيي الذاكرة الجماعية ويكسر القيود الاجتماعية
في قرية تاكوشت الواقعة بمرتفعات بلدية بوزقان، وُلدت قصة فريدة لنساء حملن التراث بأصواتهن، فرقة «أقراو تلاوين» التي تضم 15 امرأة تتراوح أعمارهن بين 12 و85 سنة، تحولت من ممارسة الغناء التقليدي في الأعراس، إلى اعتلاء خشبات المسارح في تيزي وزو وحصد الجوائز.
أوضحت «للنصر» رئيسة الفرقة السيدة فهيمة، أن الطريق لم يكن سهلا فالمجتمع المحافظ لم يتقبل بسهولة فكرة خروج نساء من مجال الأعراس إلى فضاءات عامة، حتى وإن كانت الفرقة قد توجت بالمرتبة الأولى كأحسن فرقة في تيزي وزو سنة 2023، خلال الطبعة الأولى لمهرجان أورار لخالاث، الذي نظمته مديرية الثقافة للولاية في إطار الاحتفالات برأس السنة الأمازيغية يناير.وأكدت المتحدثة، أن المشاركة في الغناء الجماعي ليست فقط وسيلة للحفاظ على التراث، بل أيضا آلية لمقاومة العزلة والملل الذي تعيشه النساء المسنات، فهي ممارسة علاجية غير مباشرة تمنح الإحساس بالقيمة والقدرة على الإبداع حتى في مراحل متقدمة من العمر. وأشارت السيدة فهيمة، إلى أن الفرقة تضم إلى جانب الجدات فتيات صغيرات مثل سيليا التي تبلغ من العمر 12 سنة، موضحة أن هذا التنوع العمري يمثل سلسلة تربط الماضي بالمستقبل، ويؤكد أن التراث لا يعيش إلا حين يتبناه الشباب.وتتحول الفرقة إلى مدرسة تنقل القيم الفنية واللغوية والشعرية إلى الأجيال الجديدة، في وقت يتعرض فيه هذا الموروث لخطر النسيان بسبب العولمة والابتعاد عن القرى.

* فرقة قرية تابودة ببوزقان
حارسات التراث ومبدعات الفرح النسوي
لا تزال الفرقة النسوية لقرية تابودة ببلدية بوزقان، تحيي الأفراح والاحتفالات بأهازيجها وإيقاعاتها المميزة، وهذه الفرقة ليست مجرد مجموعة نساء يغنين في الأعراس، بل تمثل رمزا لمقاومة النسيان وصوتا جماعيا يؤكد حضور المرأة في الفضاء الثقافي والاجتماعي وتجربة تعكس كيف يمكن للفن الشعبي أن يكون وسيلة للحفاظ على الهوية في مواجهة التغيرات السريعة.
تتكون الفرقة من مجموعة من النساء، أغلبهن مسنات ورثن هذا الفن جيلا بعد جيل، يلتقين في المناسبات، خصوصا الأعراس، حيث تتوزع النسوة في دائرة، ويتناوبن على إطلاق أصوات جماعية قوية، فتملأ المكان بطاقة روحية فريدة.ولا يقتصر دور الفرقة على إحياء الأفراح، بل يمتد إلى كونه وسيلة لدعم النساء نفسيا، فالالتقاء سواء في البيوت أو ساحة القرية والغناء الجماعي يعد متنفسا لهن.
وفي هذا الصدد، تقول نا فاطمة 72 سنة، وهي من أقدم عضوات الفرقة «عندما نطلق أورار لا نغني فقط، بل نُفرغ شحنة من المشاعر إنه فن يطهر الروح ويقوي روابطنا كنساء وأمهات».وبالنسبة لها، فإن «الأورار» ليس مجرد غناء، فعندما يصرخن معا ويرفعن أصواتهن، تشعرن بأنهن يتنفس بشكل أفضل، كأنهن يفرغ أحزانهن وآلامهن، ويحولنها إلى قوة وفرح.
وأضافت، أن «أورار» هو حياتها كلها، فلقد ولدت على أنغامه، وكبرت وهي تستمع لأصوات النساء يطلقن تلك الهتافات المدوية في الأعراس».
وتابعت، بأنها كانت تجلس في زاوية المنزل وهي طفلة صغيرة لتتأمل جدتها وأمها وهن يتهيأن للسهرة، يرتدين أجمل اللباس التقليدي و الحلي الفضية ويلتحقن بالفرقة، ومنذ تلك اللحظة شعرت أنها تريد أن تكون مثلهن.من جهتها تؤكد «نا سعدية»، وهي عضوة في الفرقة منذ أكثر من ثلاثين سنة، أن «أورار لخالاث مدرسة للنساء، ففي كل لقاء يتعلمن شيئا جديدا مثل الصبر، التضامن، الفرح الجماعي، وحتى كيفية مواجهة مشاكل الحياة.
مضيفة :»عندما تجتمع الفرقة في القرية، نشعر وكأنا أسرة واحدة، فكل واحدة منا لها قصتها الخاصة، ومعاناتها وأفراحها، لكن عندما ننطلق في الغناء نصبح جسدا واحدا وصوتا واحدا. وأكدت نا سعدية، أن «الأورار» أيضا وسيلة لنقل القيم لبناتهن وحفيداتهن، فعندما ترافقها ابنتها إلى الأعراس وترى كيف تغني وكيف تتعاون الفرقة، تتعلم أن التراث ليس مجرد كلمات قديمة، بل هي هويتنا مضيفة بالقول :»صحيح أن العصر تغيّر، لكننا نحن النساء ما زلنا نحمل المشعل، طالما نحن هنا، فإن الأورار باق وصامد».

* «فرقة ثفيرلاس أومقياس تاقصبت
أصوات الجدات تبعث الحياة في تراث قديم
تمكنت «فرقة تيفيرلاس أومقياس «، لقرية تاقصبت ببلدية إفليسن في دائرة تيقزيرت، من تحويل أورار لخالاث من مجرد ترفيه إلى رمز للهوية والذاكرة المشتركة، فبالنسبة لنساء هذه الفرقة وجلهن مسنات، يعد هذا الفن شكلا من أشكال المقاومة ضد النسيان، ووسيلة للحفاظ على تماسك المجتمع عبر الأجيال.
ورغم أن مظاهر الحياة الحديثة غزت القرية وغيرت الكثير من العادات إلا أن «فرقة ثيفيرلاس أومقياس» ما تزال محافظة على طقوسها فعضواتها يلتقين في المناسبات الكبرى، يجلسن جنبا إلى جنب ويُطلقن «أورار». تقول الحاجة تسعديت :»عندما كنا صغيرات، كنا نتعلم «أورار» من أمهاتنا وجداتنا، ولم يكن الأمر يحتاج إلى معلم، بل يكفي أن نصغي، أن نردد، وأن نترك قلوبنا تقودنا. اليوم وأنا على مشارف السبعين، أشعر أن صوتي صار أضعف لكن روحي لا تزال تهتز كلما سمعت الإيقاع».
أما الجدة يمينة، وهي بدورها من الوجوه البارزة في الفرقة، فتؤكد بأن «أورار لخالاث» كان متنفسهن الوحيد في الماضي، حين كنّ يكافحن في الحقول أو يحملن الماء من الينابيع البعيدة، أو يمارسن «ثيويزي» في الأعمال الجماعية، فكن يرددن الأغاني ليخففن عن أنفسهن التعب والإرهاق. وفي الأعراس، قالت إن «أورار» كان يبعث الفرح في النفوس، وعبرت الجدة يمينة عن سعادتها بإحياء هذا التراث من جديد في المهرجانات الثقافية والأعراس وهو ما يدل على أنه فن لن يموت.مؤكدة، أن فرقتها ليست مجرد مجموعة من النساء المسنات، بل هي مدرسة للذاكرة الحية، وحلقة وصل بين الماضي والحاضر، تنقل عبر الأصوات النسوية رسالة واضحة مفادها أن التراث لا يشيخ طالما هناك من يواصل الغناء.
شكل من أشكال المقاومة الرمزية
تؤكد الدكتورة زهية بن مسعود، مختصة في علم الاجتماع أن «أورار لخالاث» ليس مجرد غناء، بل ممارسة اجتماعية عميقة، وشكل من أشكال المقاومة الرمزية، حيث وفّر للنساء فضاء للتعبير عن مشاعرهن داخل مجتمع محافظ لم يكن يمنحهن الكثير من الحرية.
مضيفة، أن هذا الفن يعكس قيم التضامن، فهو يقوم على الأداء الجماعي المنسجم الذي يذيب الفرد في الجماعة، كما أنه مؤسسة شفوية نقلت القيم والتقاليد من جيل إلى جيل، وجعلت من المرأة عنصرا فاعلا في صياغة الذاكرة الجماعية.وتابعت المتحدثة :» يمكن القول إن ما تقوم به مجموعات النساء هو تحويل التراث اللامادي من حالة الهشاشة والاندثار إلى حالة مؤسَّسة ومُعترف بها، فالغناء لم يعد مجرد طقس اجتماعي، بل أصبح عملا فنيا يُعرض على الجمهور، ويُقيَّم من طرف لجان تحكيم، مما يمنحه شرعية جديدة ويضمن استمراريت». وأكدت، أن الأهمية الكبرى لأورار لخالاث، تكمن في أنه أعطى للنساء صوتا في المجتمع، ومن خلال الغناء الجماعي عبرت المرأة عن وجودها، وأثبتت حضورها في صياغة الهوية الثقافية، وإحياء هذا الفن اليوم لا يقتصر على الحفاظ على تراث فني، بل إعادة اعتبار للمرأة وإبراز لدورها التاريخي في الحياة الاجتماعية والثقافية.
سامية إخليف

آخر الأخبار

Articles Side Pub-new
Articles Bottom Pub
جريدة النصر الإلكترونية

تأسست جريدة "النصر" في 27 نوفمبر 1908م ، وأممت في 18 سبتمبر 1963م. 
عربت جزئيا في 5 يوليو 1971م (صفحتان)، ثم تعربت كليًا في 1 يناير 1972م. كانت النصر تمتلك مطبعة منذ 1928م حتى 1990م. أصبحت جريدة يومية توزع وتطبع في جميع أنحاء الوطن، من الشرق إلى الغرب ومن الشمال إلى الجنوب.

عن النصر  اتصل بنا 

 

اتصل بنا

المنطقة الصناعية "بالما" 24 فيفري 1956
قسنطينة - الجزائر
قسم التحرير
قسم الإشهار
(+213) (0) 31 60 70 78 (+213) (0) 31 60 70 82
(+213) (0) 31 60 70 77 (+213) (0) 6 60 37 60 00
annasr.journal@gmail.com pub@annasronline.com