يطل الفنان شهاب الدين مريمش، من قلب قسنطينة، بمبادرة تحمل الكثير من الجرأة والأمل، في زمن تضيق فيه المساحات على المبدعين، وتختزل فيه أحلام الفنان في زوايا ضيقة، فالشاب الذي يؤمن بفكرة المقاولاتية الثقافية ودورها المجتمعي يقدم نموذجا فنيا جديدا في المدينة يتمثل في رواق عرض بعنوان «الفنون المستقلة».
لم يكن هذا الفضاء مجرد قاعة عرض جامدة، بل تحول سريعا إلى متنفس حي للفنانين، وإلى نافذة مفتوحة على الحرية، حيث يجد الرسام والنحات، والموسيقي مكانا يعبر فيه عن ذاته بلا قيود ولا حسابات.لقد أراد شهاب أن يثبت أن الفن ليس ترفا اجتماعيا ولا هواية ثانوية، بل رسالة حياة تزرع الجمال في محيطها وتمنحه لكل من يلامسها، ومن خلال هذه المبادرة، أعاد للمدينة العريقة نبضا جديدا يليق بتاريخها وثقافتها، وقدم للفنانين فضاء يليق بروحهم، يفتح أمامهم أبواب الحلم ويمنحهم فرصة أن يكبر عطاؤهم كلما وجد من يؤمن بهم. قال للنصر التي زارت مؤخرا، رواقه المتواجد بالمدينة الجديدة علي منجلي ، إن ما قام به ليس مجرد افتتاح لمعرض فني جديد، بل هي دعوة صريحة لأن يكون الفن لغة الحرية والإنسانية، ورسالة حب عميقة إلى قسنطينة وسكانها وكل من يؤمن بأن الإبداع قادر على تغيير الواقع.
من الإشهار إلى الفنون.. رحلة شهاب الدين نحو الاستقلالية
عمره 37 سنة، وقد اختار لنفسه مسارا متفردا بين عالمي الإشهار والفن، مصمم جرافيكي يملك وكالة إشهارية خاصة تحمل اسم «أفكار»، خبرته تعود إلى سنوات من العمل في هذا المجال، على غرار مشاركته ومساهمته في تنظيم مباريات ودية للنادي الرياضي القسنطيني ضد كل من نادي إسبانيول برشلونة الإسباني، ونادي نيس الفرنسي بملعب الشهيد حملاوي بقسنطينة، قبل أن يخوض تجربة الهجرة إلى الخليج أين قضى أربع (04) سنوات هناك، عمل خلالها في مجال العقارات، ليعود بعدها إلى الجزائر ومدينته قسنطينة برؤية أوضح وطموح أكبر.يؤمن شهاب أن الإشهار بلا لمسة فنية يبقى بلا روح ولا معنى، لذلك جعل من الإبداع أساس عمله، وبحكم توفره على مساحة واسعة للعمل خطرت له فكرة إنشاء فضاء مخصص لعرض الأعمال الفنية، خصوصا وأن قسنطينة تفتقر إلى مثل هذه المبادرات. شهدت المدينة في وقت سابق بروز فضاءات مشابهة مثل مبادرة بن سلامة لبيب، والفضاء الفني الذي أطلقه الفنان التشكيلي كريم دلوش»، غير أن التجارب بقيت محدودة مقارنة بما شاهده شهاب في ولايات أخرى مثل الجزائر العاصمة، أو حتى في بلدان مجاورة كـتونس، حيث تتعدد فضاءات العرض وتزدهر الحياة الفنية.
فضاء للحرية وإبراز المواهب
يؤكد شهاب الدين، أنه لم يتأثر بتجارب سابقة، فهو لم يخض هذا المجال من قبل، غير أن زياراته لفضاءات فنية في الجزائر وخارجها ألهمته الفكرة، والهدف من هذا الفضاء حسبه، لم يكن مجرد توفير مكان لعرض الأعمال الفنية، بل أعمق من ذلك بكثير، إذ أرادها منصة لتشجيع الشباب المبدع على إبراز مواهبه، سواء في الرسم أو الموسيقى أو أي مجال فني آخر.وفي نظره، تحتضن قسنطينة العديد من المواهب المدفونة التي لم تحظ بفرصة الظهور أمام الجمهور، ومن هنا جاء المشروع ليكون نافذة مفتوحة على الحرية ووسيلة لإخراج تلك الطاقات إلى النور، حتى تأخذ مكانها الطبيعي في المشهد الثقافي للمدينة.
«Les indépend’Arts» اسم يحمل روح الحرية ورمزية الاستقلال
اختار شهاب الدين اسم "Les indépend’Arts" بعناية، حيث يجمع بين معنى الحرية وحرية واستقلالية الفن والإبداع والكتابة، وقد تزامن تاريخ افتتاح الفضاء مع 5 جويلية 2025، وعيدي الاستقلال والشباب، وهو ما منح التسمية رمزية أعمق ودلالة أوضح. الفضاء لا يعبر فقط عن مكان لعرض الأعمال الفنية كما قال، بل عن إرادة في تحرير الإبداع من القيود، ومنح الفن مكانته كصوت للحرية وامتداد لمعاني الاستقلال التي ضحى من أجلها جيل كامل، وهكذا غدا الاسم انعكاسا لروح المبادرة ورسالتها الإنسانية والجمالية في آن واحد.
بصمة فنية في الافتتاح.. من كريم دلوش إلى راضية قوقة رودسلي
احتضن فضاء الفنون المستقلة أول معرض بين 5 جويلية 2025 إلى غاية 12 من نفس الشهر، وضم أعمالا للفنان التشكيلي كريم دلوش، ابن مدينة قسنطينة، وكان اختيار هذا الاسم الفني المعروف مقصودا كي يمنح للمبادرة أهمية استثنائية وحضورا قويا في المشهد الثقافي المحلي.ولم يمر وقت طويل حتى استضاف الرواق اسما إبداعيا آخر من مدينة قسنطينة، حيث عرضت الفنانة التشكيلية والشاعرة والكاتبة راضية قوقة رودسلي لوحاتها من 9 إلى 23 أوت 2025، مؤكدة بدورها أن الفضاء الجديد لم يعد مجرد قاعة عرض، بل منصة تحتضن أصوات وتجارب متعددة تثري الساحة الفنية للمدينة.
الفن كقوة للتغيير الاجتماعي
لا يتوقف طموح فضاء « الفنون المستقلة» عند حدود عرض الأعمال الفنية فحسب، بل يمتد ليحمل رؤية أوسع وأشمل، فالفن كما يؤكد شهاب الدين قادر على أن يكون وسيلة للتغيير في قسنطينة، وأن يفتح الباب أمام ميلاد فضاءات أخرى مشابهة تعيد الاعتبار للإبداع والثقافة. والرهان الأساسي لهذا المشروع هو أن يمنح الشباب فرصة للانخراط في عالم الفن، بدل السقوط في الآفات الاجتماعية التي تهدد مستقبلهم، فمن خلال الرواق، يجد الشباب أنفسهم في محيط نظيف، يحتكون فيه بمبدعين، ويتعلمون أن يزرعوا قيم الجمال بدل الانجرار وراء السلوكيات السلبية. ولأن قسنطينة عرفت تاريخيا بأنها بلاد الفن والموسيقى والجمال، فإن عودة مثل هذه المبادرات بمثابة استرجاع لروحها الحقيقية، وإعلان أن الثقافة قادرة على أن تكون حائط صد أمام كل أشكال التراجع الاجتماعي.
مشاريع قادمة بروح الشباب وإرث الموسيقى
لا يقف هذا الفضاء عند حدود الفن التشكيلي فقط، بل يفتح أبوابه على مصراعيها أمام كل أشكال الإبداع، وفي مقدمتها الموسيقى، يؤكد شهاب الدين أنه مفتوح أمام جميع الشباب دون استثناء.
كاشفا، أنه يخطط لمشاريع قادمة تحمل طابعا جماعيا، ومن أبرزها إعادة إحياء مشروعه الموسيقي بعنوان «إرث»، والذي جمع من خلاله مجموعة من الشباب الموهوبين ليقدموا رؤية جديدة تمزج بين فن المالوف والشعبي، مع محاولة لمنح هذا التراث الجزائري بعدا عالميا.
هذا التوجه سبق وأن تحقق في تجارب ناجحة حسبه، مثل نشاط مجموعة « كدية عاتي» الذي جمع شبابا بمشاركة أسماء فنية كبيرة على غرار سليم فرقاني وآخرين، وكان بدعم من وزارة الثقافة الجزائرية. واليوم يسعى الفضاء لأن يكون امتدادا لمثل هذه المبادرات، وأن يتحول إلى منصة حقيقية تعطي للفن الجزائري حضوره المحلي والعالمي في آن واحد.
دعوة مفتوحة للشباب ورؤية تتجاوز حدود اللون
ويرى شهاب الدين، أن نجاح هذا المشروع مرتبط أولا بقدرة شباب قسنطينة على تقبل هذه الفرص واستغلالها، فالمكان لا يمكن أن يبقى قائما بلا رواد، لذلك يوجه نداء مباشرا للفنانين والجمهور على حد سواء للتردد على المعرض المفتوح أمام الجميع، وزيارته كخطوة أولى لإحياء روح الفن في المدينة.
ويؤكد الفنان، أن الطموح كبير حتى وإن تجسد منه ولو جزء بسيط لا يتعدى5 بالمئة فقط، لأنه يؤمن بأن الثقافة الجزائرية تستحق أن تثبت حضورها وتصدر إلى خارج الحدود مثلما تعرف داخلها، ومن هذا المنطلق، يبقى المعرض فضاء موجها لكل الناس دون استثناء أو إقصاء، مع اهتمام خاص بالشباب عبر الدعم والتوجيه.
كما يفكر محدثنا، في تطوير المبادرة لتشمل مستقبلا ورشات للرسم والموسيقى، وحتى فضاءات مخصصة للتعريف بـالطبخ الجزائري، في محاولة لمد جسر للتلاقي الفني والثقافي المتكامل يعكس ثراء الهوية الجزائرية ويمنحها فضاء حيا للنمو.
ورشة رائدة في العلاج بالموسيقى
لا يقتصر نشاط فضاء «Les indépend’Arts» على العروض الفنية فقط، بل يسعى إلى استثمار الفترات الفاصلة بينها في تنظيم ورشات نوعية تفتح آفاقا جديدة للشباب والجمهور، وفي هذا السياق يعتزم شهاب خلال الأسبوع المقبل، تنظيم ورشة خاصة بالمعالجة الموسيقية، في تجربة تعتبر الأولى من نوعها في الجزائر.
هذا المنهج العلاجي يقوم على دمج التفاعل مع الموسيقى لتحقيق أهداف صحية محددة في مجالات متعددة، مثل الصحة البدنية والعاطفية والعقلية والاجتماعية، ويشرف على تطبيقه أخصائيون مؤهلون عبر أنشطة متنوعة تشمل الاستماع إلى الموسيقى، أو تأليفها، أو العزف عليها، أو حتى الغناء. ويستخدم هذا النوع من العلاج لتحسين المهارات الحركية والمعرفية، وتعزيز التواصل، والتخفيف من الاكتئاب والقلق، إضافة إلى رفع جودة الحياة بشكل عام.الورشة سيؤطرها ابن مدينة قسنطينة طارق برادعي، الحاصل على تكوين فرنسي–تونسي وماستر في العلاج بالموسيقى، ليكون بذلك جسرا بين الفن والصحة، ويمنح الفضاء بعدا جديدا يجعل منه رائدا في الجمع بين الإبداع والجانب الإنساني العلاجي.
الصعوبات.. وقود الإبداع لا عوائق الطريق
بالنسبة لشهاب الدين، فإن الطريق نحو تحقيق الأحلام لا يمكن أن يكون مفروشا بالورود، وهو يؤمن أن المسار المهني الذي يخلو من التحديات يفتقد للمعنى، لأن الصعوبات ليست مجرد عوائق، بل هي امتحان حقيقي للإرادة ومصدر للطموح، ففي كل مرة يصطدم فيها الإنسان بعقبة، يجبر على البحث عن حل، وعن طريق ذلك يولد الإبداع. ويضيف، أن العائق مهما كان حجمه لا يجب أن يتحول إلى جدار يسد الطريق، بل إلى حافز يعيد ترتيب الأفكار ويقوي العزيمة، فمن يملك هدفا واضحا وإصرارا داخليا، سيحول كل صعوبة إلى سلم يرتقي به خطوة جديدة نحو حلمه، ولذلك يرى أن الإبداع الحقيقي لا يولد في بيئة مثالية خالية من المشاكل، بل يخرج غالبا من رحم التحديات، حيث يتعلم الفنان أو المبدع كيف يصنع من النقص جمالا، ومن الضيق أفقا أوسع. رضا حلاس