أحيا ليلة أمس الأول، الفنان القبائلي لونيس آيت منقلات، حفلا فنيا ضخما بمدينة أزفون بتيزي وزو، وسط حضور جماهيري غفير ميزته مشاركة كبيرة لزوار الولاية في أمسية استثنائية طغى عليها الحنين والوفاء للأغنية الملتزمة واللحن الأصيل.
غصّ محيط ملعب أزفون بالجماهير التي اصطفت في طوابير طويلة منذ الساعات الأولى للمساء وقبل بداية الحفل، حيث رفع الحاضرون من رجال ونساء، وشباب، وأطفال صور الفنان وهم ينتظرون وصوله بفارغ الصبر، وما إن اعتلى آيت منقلات الخشبة حتى دوّت ساحة الملعب بتصفيق حار وزغاريد النساء وهتافات الشباب، ووقف الحضور لتحية هذا الفنان الذي لم يتوقف عن العطاء منذ أكثر من نصف قرن.
وافتتح آيت منقلات، الحفل بأغنية تحمل نغمة الحنين بصوته العذب وقيتارته التي رافقته منذ بداياته الفنية، رددها الجمهور معه وكأنها نشيد جماعي، ثم توالت الأغاني التي تنوعت بين مواضيع الحب، والحرية والغربة، والتمسك بالجذور، حيث عاد إلى بداياته بباقة متنوعة من أغاني ألبوماته الأولى كما تنقل إلى آخر إصداراته.
وغنى الجميع معه بصوت واحد ودون توقف مقاطع كاملة من أغانيه الشهيرة التي تحمل رسائل فلسفية، وتفاعل الصغير والكبير مع كلمات وألحان «أورجيغ»، و «إنتظرت»، و» ثلتيام ذي لعمريو» بمعنى «ثلاثة أيام من عمري»، و «ثرقيث»، أي «الحلم»، و»الوالدين» و غيرها من الأغاني التي رددها الجمهور عن ظهر قلب، في صورة تعكس كيف تحولت موسيقى وأغاني آيت منقلات إلى تراث مشترك يتوارثه الأبناء عن الآباء.وتنقل الجمهور مع الفنان عبر مسيرته، وعند أداء بعض الأغاني الرمزية لم يتمالك الكثيرون دموعهم، في حين رقص آخرون على وقع إيقاعات تبعث على الأمل، ورغم سنوات طويلة من العطاء بدا آيت منقلات بكامل طاقته، وظل صوته قويا، وأسلوبه في التواصل مع الجمهور كان عفويا ومؤثرا، وكعادته لم يكتفِ بالأداء الغنائي فقط، بل كان يتوقف بين الأغنية والأخرى ليتحدث مع الجمهور بكلمات صادقة عكست تواضعه وحرصه على إبقاء العلاقة حيّة مع محبيه، حيث خاطبهم بكلمات مؤثرة وشكرهم على وفائهم، وأكد لهم أن دعمهم هو سر استمراريته، ليرد عليه الجمهور بتصفيقات حارة وهتافات طويلة باسمه.
و شهد الحفل حضور أجيال مختلفة، من كبار السن الذين عاشوا بدايات مسيرة الفنان في نهاية الستينيات وبداية السبعينيات، إلى شباب من مختلف الأعمار، واكتظ الملعب بعائلات بأكملها كانت تنتظر بكل شغف حضور هذا الحفل ولقاء فنانها المفضل.واختتم لونيس آيت منقلات، أمسيته بتحية مؤثرة لجمهوره، شاكرا وفاءه الذي دام لعقود، ومع آخر أغنية وقف الجميع وقفة واحدة يصفقون ويهتفون باسمه ويرددون معه كل كلمة، وكانت تلك اللحظة ختاما لليلة كبيرة جمعت بين الفن والذاكرة والإنسان، حيث أثبت لونيس أن الأغنية القبائلية الملتزمة ما تزال حيّة في قلوب الناس، وأن الكلمة الصادقة قادرة على تجاوز الزمن لتظل خالدة عبر الأجيال كما عبر عنه جانب من الحضور.
ويُعد آيت منقلات، المولود عام 1950 بقرية إغيل بماس، في أعالي بلدية إيبودرارن بولاية تيزي وزو، من أعمدة الأغنية القبائلية الملتزمة، اشتهر منذ بداياته بالكلمة العميقة واللحن الأصيل، وأصدر عشرات الألبومات التي أصبحت أيقونات في الذاكرة الجماعية.
وتتناول أشعاره مواضيع متعددة، عن الحب و الاغتراب والوطن، وغنى الحرية و النضال السياسي والاجتماعي، بل وحتى قضايا الإنسان بصفة عامة.
واعتمد آيت منقلات في ألحانه على المزج بين البساطة والعمق، مستخدما القيثارة وآلات تقليدية ليبدع موسيقى متفردة لا تشبه غيرها، وغالبا ما تكون أغانيه طويلة نسبيا، لكنها تحمل من الجمال ما يجعل المستمع يبحر معها دون ملل، وقد اعتبره النقاد مدرسة قائمة بذاتها، حيث يدمج بين الشعر والموسيقى في توليفة فنية راقية.
وعلى مدار أكثر من خمسة عقود، ظل آيت منقلات قريبا من جمهوره، يحيي الحفلات في الجزائر وخارجها، ويغني بروح الفنان البسيط المتواضع، جمهوره ليس محصورا في جيل معين، بل يمتد من المسنين الذين عاصروا بداياته إلى الشباب الذين وجدوا في فنه صوتا صادقا يعبر عنهم، وقد وصف بعض الحضور حفلاته بأنها لقاءات روحية أكثر منها فنية، إذ يعيش الحاضرون حالة وجدانية عميقة مع كلماته وألحانه.ولم يقتصر تأثير آيت منقلات على الجزائر فقط، بل وصل صداه إلى الجالية الجزائرية في أوروبا، حيث أحيا حفلات في فرنسا وبلجيكا وكندا، وغيرها، وجمع حوله عشاق الأغنية القبائلية من مختلف الجنسيات، وبذلك ساهم في التعريف بالثقافة الأمازيغية عالميا، مثبتا أن الفن قادر على تجاوز الحدود السياسية والجغرافية.
اليوم، وبعد أكثر من نصف قرن من العطاء، لا يزال لونيس آيت منقلات يحافظ على مكانته كصوت خالد في الأغنية القبائلية، و إرثه الفني يُدرّس للأجيال، وأغانيه تُرددها
الأجيال. سامية إخليف