الــولادة الـعسيـــرة لـمدينـــة الأحــــلام
إلى الجنوب الشرقي لمدينة قالمة و على بعد 10 كلم تقريبا، عبر طرقات رئيسية و جبلية صعبة، تنتصب هضبة صغيرة على ارتفاع يقارب 700 متر عن سطح البحر، من هذا المكان الجميل يمكنك مشاهدة قمة ماونة الشاهقة، عن قرب، كما يمكنك أيضا مشاهدة مدن و قرى حوض سيبوس الكبير، و حقول زراعية على مد البصر، إنها حجر منقوب المنطقة الريفية الفقيرة التي ظلت صامدة في مواجهة التحديات الكبرى، التي مرت بها خلال فترة الاحتلال الفرنسي، و أثناء الثورة الخالدة، و عشرية الدم و النار، التي بقيت آثارها إلى اليوم، تروي مشاهد المأساة، من زمن الجنون، الذي حوّل أقاليم كثيرة بقالمة، إلى فضاءات مهجورة، تسكنها الأشباح و كائنات الليل.  
روبورتــاج: فريد غربية
  حجر منقوب، التي بقي فيها بعض الأهالي الصامدين، في وجه الطبيعة و مآسي البشر و الزمن، تستعد اليوم لتطوي صفحة الماضي البعيد، و تستقبل مدينة الأحلام الجديدة، التي لم تجد مكانا تؤي إليه، و طاردتها أزمة العقار الخانقة، التي يعرفها حوض سيبوس الكبير، و ألقت بها في مكان بعيد، يتوسط سهول القمح الخصبة و مرتفعات لالة ماونة الشاهقة.  
فوق الهضبة الخضراء، سيتغير الوضع، في غضون سنوات قليلة قادمة، عندما تنتصب المباني الضخمة، معلنة عن ميلاد مدينة جديدة، بحوض سيبوس الشهير، ربما يسمونها مدينة حجر منقوب، أو يختارون لها اسما آخر، لكنها ستضل بلا شك، منسوبة إلى الحجارة الأسطورية المثقوبة، التي تنتشر فوق الهضبة الصغيرة، في نظام هندسي بديع.  
مدينة الأحلام التي ستأوي مكتتبي عدل بقالمة، أصبحت على كل لسان منذ سنتين، و تحولت هضبة حجر منقوب، إلى مزار لمئات العائلات التي تنتظر الفجر الجديد، ليبدد ظلام الأكواخ القصديرية، و الدهاليز، و غرف العذاب، بالأحياء السكنية الشعبية القديمة، التي لم تعد تتسع للمزيد من البشر، الغارق في أزمة السكن المتفاقمة، بمدن و قرى قالمة، الولاية التي تشكو من نقص كبير في برامج السكن، و لم يتوقف أهلها عن الاحتجاج، و حث الحكومة على مزيد من الاهتمام، بواقع الإسكان، و مشاكل العقار، التي أعاقت برامج تنموية كثيرة، و دفعت بالمشرفين على شؤون الإعمار، إلى البحث عن ملاذات عقارية، حتى و لو كانت فوق الهضاب المنسية، و رؤوس الجبال، و لم تجد بديلا عن مرتفعات جبل العنصل بالجنوب، و حجر منقوب بسهل سيبوس، لمواجهة أزمة العقار و توطين البرنامج السكني الضخم، الذي أطلقته الوكالة الوطنية لتحسين السكن و تطويره «عدل».  
النصر زارت حجر منقوب، قبل يومين، و وقفت على الولادة العسيرة، لمدينة الأحلام، التي صارت على كل لسان، و تحولت إلى مصدر لاحتجاجات لا تنتهي، أمام مبنى الولاية، و مقر عدل بقالمة، للمطالبة بتدارك التأخر، و إبعاد الشركات المتعثرة، و إطلاق عمليات الإنجاز، و يقول المكتتبون في كل مرة، بأنهم يعيشون أزمة سكن خانقة، و أن أسعار الكراء قد استنزفت قدراتهم المادية، و قادت الكثير منهم إلى حافة الإفلاس.  
شركات أجنبية حطت الرحال و غادرت بلا رجعة  
حتى تصل إلى موقع عدل بحجر منقوب، عليك أن تخرج من الطريق الوطني 80 الرابط بين قالمة و صدراتة بولاية سوق أهراس، و تأخذ مسلكا ريفيا، يبدأ من قرية ريفية صغيرة، يسكنها مزارعون منذ عقود طويلة، و يتوسطها شارع صغير، سيكون في يوم من الأيام منفذا إلى المدينة الجديدة، و ربما سيخضع لعمليات توسيع صعبة، وسط نسيج عمراني متداخل، حتى يستوعب حركة الشاحنات، و الآليات العملاقة، التي ستبدأ في التحرك إلى مواقع البناء، عندما ينطلق المشروع، و يتعافى من التعثر الذي أوقفه في بداية الطريق.  
على طول المسلك الريفي، تمتد حقول القمح الخضراء، و بقايا سكنات المعمرين، الذين كانوا يسيطرون على الأرض هنا، و يبنون مزارع للعبيد، و يهجرون الأهالي إلى رؤوس الجبال.   
كانت البنايات المهجورة،  و الاسطبلات المهدمة، على جانبي المسلك الريفي المتداعي، تروي قصة سنوات الدم و النار، و تذكر زوار المنطقة بالمآسي التي عاشها أهالي حجر منقوب، في زمن الجنون، منهم من قضى نحبه، و منهم من فر بجلده إلى حيث الأمان، و منهم من بقي صامدا فوق الأرض الطاهرة الى اليوم.  
بعد مسيرة متعبة، و صلنا إلى هضبة حجر منقوب، و وجدنا أنفسنا وسط موقع يحيط به سياج من صفائح الزنك، و تتوسطه لوحات عملاقة تؤرخ لميلاد مدينة الأحلام التي طال انتظارها.  
في هذا المكان، وضعت شركة صينية أولى معالم مشروع عدل العملاق بقالمة، عندما استلمت الأمر ببداية الإنجاز في 4 أفريل 2015، و هذا بعد حصولها على صفقة إنجاز 600 وحدة سكنية، خلال 26 شهرا، و بناء عمارات ضخمة ذات طابع سكني و تجاري، لتوفير مرافق خدماتية، لسكان المستقبل، عندما يصلون إلى حجر منقوب.  
في بادية الأمر، كانت كل المؤشرات توحي بأن الصينيين سيكنون في الموعد، و يحولون 8 هكتارات من أراضي حجر منقوب، إلى قطب حضري متطور، يكون بداية لمدينة المستقبل، التي يتوقع أن تستوعب ما لا يقل عن 50 ألف نسمة خلال السنوات القادمة.   
و لا أحد يعرف،  ماذا وقع بالتحديد، حتى توقفت الأشغال، و غادر الصينيون المنطقة بلا رجعة، تاركين موقعا مفتوحا، و قاعدة حياة صغيرة، بقي فيها حارس واحد، يؤمن الموقع المهجور، و يستأنس بمئات العائلات، التي تزور موقع البناء كل يوم تقريبا، لمعاينة الوضع عن قرب، ثم العودة إلى الديار بخيبة أمل متكررة، تدفع بهم إلى مزيد من الغضب و الاحتجاج.  
يقول المشرفون على مشروع عدل بقالمة، بأن الشركة الصينية قد أخلت ببنود الاتفاق، و تعثرت في بداية المشروع، و وضعت سلطات قالمة في مواجهة مفتوحة من المكتتبين، و يعتقد بأن قرارا مركزيا قد صدر، لإبعاد الشركة المتعثرة، و استبدالها بشركة أخرى، قد تكون أجنبية أو وطنية، لاستئناف الأشغال، و تدارك التأخر، و إعادة الأمل لمئات العائلات، التي تنتظر الفرج و نهاية الازمة التي عمرت طويلا.  
و قد قام الصينيون بتهيئة أرضية المشروع، و هدم بعض المباني التي وجدوها هناك، بعد أن صدر قرار بتطهير الموقع من كل معوق قد يحول دون سير الأشغال.   

و لا يعرف حارس المشروع، و لا المكتتبون، متى تعود شركة أخرى الى موقع 600 وحدة سكنية، و بعث الحيوية من جديد، بالورشة المهجورة، التي عصفت الرياح القوية بسياجها، قبل وصولنا بساعات قليلة، و دمرت صفائح الزنك، و اقتلعتها من مواقعها، و أصبح الموقع مفتوحا أمام الرعاة، الذين وجدوا فيه حقلا خصيبا، بعد أن نمت فيه الحشائش، و أصبح يثير شهية قطعان الأبقار، و الأغنام، في انتظار ما ستسفر عنه الأيام القادمة، في ظل المساعي الحثيثة، التي تبذلها وكالة عدل، و سلطات قالمة، لتعويض الصينيين و تحريك الأشغال من جديد.   
و قدرت تكلفة المشروع بنحو 182 مليار سنتيم، تشمل الدراسة و الإنجاز، حسب ما هو موضح في لوحة المشروع، المثبتة عند المدخل الرئيسي للورشة المهجورة، و لا يستبعد أن ترتفع التكلفة بسبب التأخر، و شروط الشركة الجديدة التي تقبل الصفقة المتعثرة. و كان من المقرر أن يبني الصينيون 300 شقة من 3 غرف بمساحة 70 مترا مربعا، و 300 شقة من 4 غرف بمساحة 85 مترا مربعا.    
   في انتظار عودة قريبة للأتراك  
غير بعيد عن موقع الصينيين، نصب الأتراك قاعدة حياة كبيرة، و وضعوا معالم مشروع ضخم، لإنجاز ما لا يقل عن 3700 وحدة سكنية بحجر منقوب، و قاموا في وقت سابق بأولى الحفريات العميقة لبناء أول عمارة بالموقع الكبير، لكن توقف كل شيء، و اختفى الأتراك أيضا من حجر منقوب، تاركين حارسين اثنين بقاعدة الحياة، و بعض المعدات، و شاليهات لإيواء العمال و المهندسين.  
 الاتراك مازالوا حائزين على الصفقة الضخمة على ما يبدو، و لم ينسحبوا، و ربما تكون قد اعترضتهم مشاكل تقنية، و إدارية، ستعرف طريقها للحل في غضون أيام قليلة، حسب المعلومات المتداولة، بين المكتتبين، و المسؤولين، المشرفين على قطاع السكن و العمران بقالمة.  
و قد حصلت الشركة التركية المسماة «غربيز»، على موافقة الحكومة الجزائرية في 20 جوان 2017 و حددت مدة إنجاز 3700 وحدة سكنية بنحو 36 شهرا.  
و استهلكت «غربيز» التركية 7 أشهر من عمر المشروع، دون أن تتمكن من بناء عمارة واحدة حتى الآن، لكنها أبدت عزمها على تدارك التأخر، عندما تعود إلى حجر منقوب، بعد التغلب على المعوقات التي حالت دون السير العادي للأشغال عندما انطلقت الصيف الماضي.    
  من موطن الفقر و العطش إلى فجر جديد   
على العكس تماما من المكتتبين القلقين على مستقبل المشروع، و من أزمة السكن الخانقة التي يعيشونها منذ سنوات طويلة، فإن أهالي حجر منقوب يبدون أكثر تفاؤلا منهم، فهم لم يكونوا يتوقعون ميلاد مدينة كبيرة، فوق الهضبة النائية، التي يصفونها بموطن الفقر و العطش، و لم يكونوا ينتظرون فرص عمل تأتي إليهم، لتدق على أبواب منازلهم الريفية الصغيرة، التي ستكون بعد سنوات قليلة، في قلب مدينة كبيرة مترامية الأطراف، تعج بالحركة، و التجارة  مرافق الخدمات، من مدراس، و ثانويات، و مستشفيات، و ملاعب رياضية، و مراكز ثقافية، و شوارع معبدة، و أنظمة إنارة، ستحول ليل الهضبة المنسية الى نهار.  
و قال سكان حجر منقوب للنصر، بأنهم مازالوا غير مصدقين، بأن المشتة الريفية النائية، ستصبح مدينة كبيرة يأتيها رزقها رغدا، من  الماء الوفير، و الكهرباء، و الغاز، و وقوافل التجار، و السياح، و الخدم.  
و يفكر بعض أهالي حجر منقوب، الذين بقوا صامدين بالمنطقة النائية، في الانتقال من تربية المواشي إلى التجارة، و العمل بورشات عدل، و المرافق الخدماتية التي ستنجز خلال السنوات القادمة.  
لكن بعضهم أبدى إصراره على التمسك بحرفة الأجداد، و خدمة الأرض، و الاستفادة من خدمات المدينة الجديدة، مستقبل العمران بحوض سيبوس الكبير.  
ف.غ

الرجوع إلى الأعلى