"المتمردون نجحوا بسرعة التنظيم و التنفيذ و المفاجأة"

«إنها الحقيقية المرة.. سكان الشمال القسنطيني كلهم صاروا عدائيين"

هذه أهم وثيقة خرجت من الأرشيف السري الفرنسي، حصلت عليها النصر من أستاذ التاريخ بجامعة 8 ماي 1945 بقالمة محمد شرقي، تتحدث عن الوضع العام بمنطقة الشمال القسنطيني قبل و بعد هجمات شهر أوت 1955، صادرة عن هيئة أركان القيادة العسكرية الفرنسية بقسنطينة، المكتب الثاني الذي يقوده الجنرال «لافود»، جاء فيها بأن «تمردا» عاما قد وقع بجزء من منطقة الشمال القسنطيني، نظمه و نفذه قادة «المتمردين»، و شارك فيه عدد كبير من أعيان الدواوير و منخرطين في أحزاب معادية داخل المدن.

و قال قادة العدو الفرنسي بأن باقي المناطق الأخرى، لا سيما بأقصى شرق و جنوب قسنطينة كان نشاط «المتمردين» فيها مستقرا.
و أفاقت الإدارة العسكرية الفرنسية على وقع صدمة عنيفة عندما اعترفت بأن «التمرد الذي وقع يومي 20 و 21 أوت اتخذ طابع الاستفاقة الجدية بالمربع الديموغرافي الذي تتواجد به أعداد كبيرة من الأوروبيين،  من القل، الميلية، قسنطينة، إلى وادي الزناتي، قالمة، و عنابة، و كانت هجمات المتمردين أكثر عنفا على محور قسنطينة سكيكدة، و محور قسنطينة وادي الزناتي».
و أضاف القادة العسكريون لمنطقة الشمال القسنطيني قائلين «يبدو أن هدف المتمردين هو غزو و احتلال بعض المراكز بالشمال القسنطيني، و خاصة تلك التي لا تتوفر على الحماية الكافية، كانوا يريدون تدميرها، و إحداث عدم استقرار يدفع بالأوروبيين إلى المغادرة و يجبرنا على إعادة استرجاع المنطقة من جديد. لو نجح مخططهم فإنه سيكون محفزا لمسلمي عمالة قسنطينة و سيجبرنا على اتخاذ القرارات المناسبة ضدهم».
و ركز قادة هيئة الأركان بناحية قسنطينة في تقريرهم على الأهداف المعلنة و الخفية للثوار من وراء هجمات 20 أوت 1955 معتقدين بأن « الهدف الأول و المستعجل هو الحصول على أكبر عدد من قطع السلاح، تشتيت قوى حفظ النظام بعمليات مكثفة و مركزة، و تحطيم المدنيين الأوروبيين».
أذهلتهم سرعة التنفيذ و قوة التنظيم و انحياز المواطنين الصريح إلى الثورة  
و قد اعترف قادة العدو بقوة الهجمات و سرعة تنفيذها و تنظيمها المحكم و المحاط بسرية عجيبة لم تكن تتوقعها مخابرات العدو المتغلغلة وسط المدن و القرى و الأرياف، لقد تلقت هذه المخابرات و عملائها من الخونة ضربة موجعة عندما فشلت في توقع الهجمات التي جرت في وضح النهار.
« إن تحضير الهجمات جرى بعناية فائقة، و المتمردون نجحوا خلال 24 ساعة في تنفيذ عملياتهم بتعداد يتراوح بين 10 آلاف و 15 ألف عنصر، كانوا يتحركون بالدواوير على مرأى و مسمع من سكان الأرياف، و كذلك كان عدد معتبر من سكان المدن و القرى على علم مسبق بهذه الهجمات، لكن لم تصلنا أي معلومة أو تقارير حول هذه التحركات قبل تنفيذ الهجمات. إن سكان الأرياف و المدن و القرى و الموظفين الذين كنا نعتقدهم أصدقاء لفرنسا قد أصابهم العمى، و تكتموا و التزموا السرية التامة».
و يواصل التقرير العسكري السري تحامله على سكان الداعمين للثورة بمنطقة الشمال القسنطيني التي وقعت بها هجمات أوت 1955 قائلا « إن سكان الدواوير المتواطئين نهضوا و هبوا بقوة استجابة لنداء المتمردين، و ساروا معهم تحت شعار الحرب المقدسة كما بعض السكان المسلمين بالمراكز المستهدفة».
 و بعد التعبير عن قوة الصدمة و ما وصف بالخيانة تجاه فرنسا، تحدثت وثيقة الجنرال «لافود» عن رد فعل القوات الفرنسية التي سارعت إلى تطويق الوضع و السيطرة عليها و استرجاع الأسلحة و اتخاذ الإجراءات العقابية تجاه السكان المشاركين و الداعمين للثوار الذين يصفهم التقرير العسكري بالمتمردين و الخارجين عن القانون.
و إلى جانب الهدف العسكري لهجمات 20 أوت 1955 تحدث التقرير العسكري السري عن ما وصفه بمحاولات المتمردين إجهاض مساعي التقارب و إحداث الفوضى و القطيعة بين السكان الأوروبيين و السكان المسلمين، و هي التسمية التي تطلق على سكان الجزائر المحتلة، حيث ترفض تقارير العدو العسكرية و الإعلامية ذكر عبارة السكان الجزائريين، تجسيدا لشعار الجزائر فرنسية.  
و بخصوص رد الفعل العسكري الفرنسي جاء في الوثيقة  «من الناحية العسكرية فإننا كنا أسياد الميدان و تمكنا من السيطرة على الوضع دون اللجوء إلى قوات الاحتياط، و لم يكن هذا ممكنا دون مساندة سلاح الطيران، لقد قتلنا عددا من المتمردين الحقيقيين، لكن المتواطئين معهم هم وحدهم من دفعوا الثمن أكثر».  
و حسب قادة هيئة أركان العدو الفرنسي بقسنطينة فإنه و باستثناء المحاور المذكورة التي وقعت بها الهجمات فإن باقي المناطق الأخرى من الشمال القسنطيني لم تكن مستهدفة بهجمات 20 و 21 أوت، ربما لأن قادة الثوار ركزوا على مناطق معينة توجد بها كثافة سكانية داعمة و مساندة.
و بخصوص الدعم المقدم لثوار الشمال القسنطيني لتنفيذ الهجمات، قال التقرير بأنه لم يلاحظ أي مؤشر حول وصول تعزيزات من الجنوب، باستثناء بعض العناصر التي قدمت إلى منطقة الشمال القسنطيني للتوجيه و التنظيم و تعزيز قوة المتمردين على حد وصف قادة التقرير السري.


«إنها الحقيقة المرة.. سكان منطقة الشمال القسنطيني أصبحوا كلهم عدائيين»
و في محاولة من قادة العدو بناحية قسنطينة لتأجيج الوضع، و طلب الدعم و الضوء الأخضر لمعاقبة السكان المتهمين بالضلوع و المشاركة في الهجمات، اختار معدو التقرير عبارات قوية للتأثير على كبار القادة الفرنسيين و دفعهم إلى تكثيف العمل العسكري بمنطقة الشمال القسنطيني دون رحمة و دون هوادة.
« في عموم الشمال القسنطيني، بصراحة السكان المسلمون أصبحوا بالنسبة لنا عدائيين، لقد لاحظنا تصاعد الغضب و الهيجان أكثر وسط الشمال القسنطيني، أين تتواجد كثافة كبيرة للمتمردين، مقارنة بمناطق الشرق و الجنوب الشرقي، و كانت تشير المعطيات قبل هجمات 20 أوت بأن تحركات مريبة تحدث هناك، تجنيد متزايد للأشخاص، و جمع لبنادق الصيد، تعزيز صفوف المتمردين، و إعدام الموالين لفرنسا».
و بالرغم من أن هجمات 20 أوت بمنطقة الشمال القسنطيني كانت مربكة و مذهلة،  و خلفت خسائر مادية و أثار معنوية محطمة لقدرات العدو، فإن قادة هيئة الأركان بناحية قسنطينة صرحوا بأن منطقة النمامشة و الأوراس بالولاية الأولى تبقى دائما مركز القيادة الرئيسي للمتمردين، منها تصدر الأوامر و منها تنطلق التعزيزات نحو بقية المناطق الأخرى.
«أيام أوت 1955 قلبت صفحة من تاريخ الشمال القسنطيني»
لقد تركت هجمات 20 أوت 1955 على منطقة الشمال القسنطيني أثرا بالغا على القادة العسكريين و السياسيين الفرنسيين بالجزائر و فرنسا و بدا أثر هذه الهجمات التاريخية واضحا في تقاريرهم السرية، و هو ما يفسر تلك الهجمات الشرسة و سياسة الأرض المحروقة التي انتهجها العدو عقب تلك المآثر البطولية الذي قاده زيغود يوسف،  و خيرة ثوار الولاية التاريخية الثانية التي تحملت عبء الثورة الثقيل بأمانة و وفاء حتى الاستقلال.
و كتب الجنرال «LAVAUD» القائد العسكري لمنطقة الشمال القسنطيني في نهاية تقريره المكون من 3 صفحات قائلا
«إن أيام أوت 1955 قلبت صفحة من تاريخ الشمال القسنطيني، ربما سنضطر إلى اعتبار منطقة الشمال القسنطيني برمتها منطقة معارضة و معادية، إن السكان المسلمين الموالين لنا ربما قد يتعرضون للانتقام من طرف الخارجين عن القانون، إنهم يعيشون وضعا صعبا، و قد بدؤوا في الهجرة من مناطقهم باتجاه المناطق التي يعتقدون بأنها آمنة، إنها هجرة جماعية في كل الاتجاهات. حتى السكان الأوروبيون يعيشون اليوم الخوف الكبير، هم يطلبون مغادرة عمالة قسنطينة، أو توفير الحماية العسكرية الكافية لهم، لم يعد أحد قادر على إقناعهم بعد أن رأوا ما حدث بالمراكز السكنية التي تنعدم بها الحماية العسكرية الكافية، لقد تعرض هؤلاء الأوروبيون إلى مذبحة، إن الوضع النفسي و الاقتصادي و الاجتماعي قد تضرر كثيرا و ربما سيبقى هكذا وقتا طويلا».
خطة الجنرال «لافود» لاسترجاع ثقة الأوروبيين و القضاء على الثورة بالشمال القسنطيني
خاطب الجنرال «لافود» قادة بلاده بفرنسا و الجزائر بعبارات قوية و صريحة تعبر عن مدى الأثر الكبير الذي تركته هجمات الثوار على مواقع محددة بالولاية التاريخية الثانية، أو ما يعرف بمنطقة الشمال القسنطيني يومي 20 و 21 أوت 1955، متحدثا عن خارطة طريق لاسترجاع ثقة السكان الأوروبيين و القضاء على الثورة المتأججة.   
«يجب علينا اليوم استرجاع الهدوء و الثقة، و لن يكون ذلك إلا بعملية عسكرية أوضح لكم قواعدها الرئيسية:
وضع بنية تحتية عسكرية مكثفة و ثابتة تحت رمز A.I تسند إلى مختلف الرتب العسكرية، بعدها يمكن أن أطمئنكم بأن السكان المسلمين يمكن استرجاعهم و كسب ثقتهم من جديد، إنهم في متناول اليد. أربد تكوين عسكريين لحماية المراكز السكنية الأوروبية بالتنسيق مع المخابرات و هيئات أخرى مماثلة. و إنشاء فيلق متحرك في كل قطاع عسكري مهمته ملاحقة الخارجين عن القانون و إبادتهم».   
فريد.غ

الرجوع إلى الأعلى