عزوف الشباب عن جني الزيتون يخرج نساء جيجل إلى الجبال

موسم ضعيف ينعكس سلبا على الأسعار
ينطلق مطلع أول نوفمبر بجبال جيجل موسم جني الزيتون وعصره، ويذاع الخبر في المساجد و ينتشر صداه في المداشر و القرى، كما ينص عليه العرف، يسمع الرجال و الشباب النداء، لكن النساء هن اللائي يلبينه حقا ، فأشجار الزيتون الأسطورية التي صمدت لسنوات و قرون أمام عوامل الزمن، تواجه اليوم تحديا حقيقيا من أجل الاستمرار في ظل اعتداءات الحرائق و عزوف الشباب عن العمل في الزراعة، وهو واقع عقد مسعى عصرنة الشعبة و حال دون تحقيق الاكتفاء الذاتي من منتج الزيت، كما عرقل مشروع تسجيل المنتج  تجاريا ، تمهيدا لتصديره مستقبلا.
روبورتاج : هدى طابي
نساء بدرار ومحسن حليهن منجل و ساطور !
الساعة كانت تشير إلى التاسعة صباحا، كنا نقف عند مدخل بلدية برج الطهر التابعة إقليميا لدائرة الشقفة، شرقي ولاية جيجل، وجهتنا كانت مشته محسن، أين كان سمير زطيلي، ابن المنطقة و رئيس مكتب الممتلكات ببلدية برج الطهر، ينتظرنا ليكون دليلنا في المنطقة، حيث كنا ننوي رصد مجريات عملية جني الزيتون.
 تطلب منا الوصول إلى القرية ، التوغل في المنطقة الجبلية، وفق منحنى تصاعدي بلغنا على إثره علو 820 مترا عن سطح البحر ، في الطريق استوقفتنا لوحة تنبض بالحياة لكهل ترافقه خمس نساء أغلبهن تعدين عقدهن الثالث،  كن يحملن دلاء مليئة بالزيتون في يد، و في اليد الأخرى أدوات حادة،  مناجل، و سواطير، وعصي و مزابر، أثوابهن زاهية الألوان و أحذيتهن متشابهة، فجميعهن كن يرتدين « جزما مطاطية»، وهو نفس المشهد الذي وقفنا عليه لاحقا بعد وصولنا إلى قرية محسن، أين كانت النساء يفضل وضع أكياس الزيتون فوق رؤوسهن، بدل الاستعانة بالدلاء.
أوضحت لنا زليخة جعفري 40 سنة، بأن المنطقة التي نقف فيها تعرف بمشتة بدرار، وأن غالبية أشجار الزيتون فيها تعود لعائلتها، وعليه فإنها تعمل رفقة نساء الأسرة على جني محصولها كل سنة، لأن الشباب يرفضون ذلك و يفضلون البقاء في المنطقة الحضرية بالشقفة، على الخروج باكرا يوميا و البحث عن وسيلة نقل توصلهم إلى الجبل ، كي      « يهوموا» أو يجنون المحصول بعبارة أبلغ، لذلك فإن هذا النشاط بات حكرا على النساء، كما علقت، متأسفة للوضع المحزن ، حسبها، فهي تعرف في قرارة نفسها أن أشجار الزيتون ستضيع بعد أن تغيب هي و أبناء جيلها، والدليل هو أن نسبة كبيرة من أشجار العائلة أتلفت خلال سلسلة الحرائق التي عرفتها جيجل على مر السنوات، ولم تجد إلى يومنا من يعوضها، لأن الشباب يرفضون الاشتغال في الزراعة.

حسب محدثتنا، فإن النساء لا يزلن يحمين آخر أشجار الزيتون في جيجل، فهن من يحضرنها خلال شهر أكتوبر و يجنين ثمارها في نوفمبر بعد مرور قرابة السنة، و هن أيضا من يتسلقن و يواجهن مخاطر الجبل لجني المحصول بعدة لا تزيد عن الإرادة ، وبعض المناجل و العصي و المزابر و السواطير ، أما زادهن اليومي، فزيت بكر و رغيف»كسرة» ،»بتشف» أي  طمينة الشعير و» المختف» ، عجة اللفت بالزيت والملح.
زليخة كانت منزعجة و غير راضية عن محصول هذه السنة، فهو قليل جدا ، حسبها، بعدما اعتادت الوفرة في السنوات الماضية، فكمية ما تم جنيه من الزيتون لن توفر ،  لكل فرد من العائلة أكثر من  5 لترات من الزيت بعد طبخه و عصره ، كما قالت، خصوصا إذا تم ذلك تقليديا. وهو نفس الرأي الذي شاطره مرافقها عمار جعفري، الذي أخبرنا بأن أراضي العائلة كانت تنتج سابقا ما يتعدى 400 لتر من الزيت سنويا، لكن بعد نكبة حريق 25سبتمبر1990، انخفض المنتوج إلى 60 لترا وأحيانا أقل، رغم أن الجني يتطلب قرابة أسبوع أو أكثر من الجد والجهد.
« الحلال» و سلطة العرف
خلال حديثنا إليهم أخبرنا آل جعفري ، بأن زيتون بلدية برج الطهر يعد الأجود في كل إقليم جيجل، وذلك نظرا لنوعية الأشجار المنتشرة في المنطقة، تركناهم وواصلنا مسيرنا صعودا نحو محسن ، مرورا بمشاتي بوديال و الحمامير و قاع ثلاثة و أرفراف و بوطواطو و تامخرت، تجاوزنا آخر نقطة تفتيش للجيش الوطني الشعبي ، على ارتفاع يقارب الألف متر، ثم بدأنا في الانحدار تدريجيا، كان سمير دليلنا ينتظرنا عند مدخل القرية الصغيرة، حيث لا يتعدى عدد السكان 20 عائلة، المنطقة مخفية وسط الأشجار وتعاني عزلة مطلقة، فلا وجود هنا لأي مرفق سوى مدرسة على بعد 4 كيلومترات ومسجد.

 ترجلنا من السيارة لأن الطريق أصبحت ضيقة و غابية، و نزلنا مسافة 500 متر عبر مسالك جد وعرة و ترابية منزلقة، باتجاه « واد الخريف»، حيث أخبرنا دليلنا بأن أشجار الزيتون تتركز هناك، قابلناه في منتصف الطريق، وكان يحمل على كتفه كيسا بلاستيكيا يحتوي على ما يعادل 10كلغ من الزيتون، قال لنا بأنه انتهى لتوه من جنيها، وضعها أرضا ووضع فوقها غصن شجرة، ثم هم بمواصلة السير معنا باتجاه الواد، سألناه عن كيسه ، فقال بأن العرف يمنع أي شخص من أخذ ما ليس له وأن السكان يحترمون هذا القانون الوضعي و يقدسونه، ولذلك فالمحصول بأمان.
 محدثا وهو واحد من الشباب القلائل الذين لا يزالوا يمارسون نشاط الجني خلال كل موسم، قال بأن والدته تملك 60 شجرة و يتقاسم هو وأخوته ميراث أبيه ، المتمثل في 150 شجرة زيتون، موضحا بأن العرف هو الذي ينظم حياة السكان في الجبل، سواء تعلق الأمر بالسكان الدائمين، أو  أولئك الذين يقصدون المنطقة خلال موسم الجني الذي يعرف محليا ب « الحلال»، والذي يعلن عنه في الفاتح من نوفمبر من كل سنة، وذلك عبر المساجد، التي يقيم مسيروها مزايدة علنية لجني محصول الأشجار الوقفية، على أن يدخل مال المزايدة في خزينة المؤسسة الدينية.
وحسب نظام العرف، فإن من يجمع زيتونه بنفسه، يحق له الاحتفاظ به و بمال زيته، أما إذا اشترك اثنان في عملية الجني فالوضع يختلف، مثلا قد يقوم شخص بجني محصول شخص آخر وفي هذه الحالة يحق لمن يجني أن يحصل على نصف المنتوج و يحتفظ مالك الأرض بالنصف الآخر، إذا كان الزيتون نظيفا وسبق أن سقط على الأرض،  أي أنه لا يتم إسقاطه من الشجر.
 أما إذا كان الزيتون لا يزال معلقا في الأشجار و صعب الجني، فيحصل من يجنيه على الثلثين و مالك الأرض على الثلث، وهنا يحق للطرفين الاتفاق على عملة الدفع، فقد تكون زيتونا أو زيتا.
زيتون برج الطهر يستغيث لفك العزلة

كلما توغلنا أعمق في الغابة ، كنا نقابل أناسا يجنون زيتونهم، بالطريقة التقليدية، أي عن طريق تحريك الأشجار بواسطة العصي الخشبية لإسقاط المحصول، و تسلق الأشجار العالية لقطع الأغصان الكبيرة باستخدام المناجل و السواطير و غيرها، أما وسيلة التخزين الشائعة فهي أكياس السميد البلاستيكية و أحيانا بعض الدلاء، لم يكن هناك أي شكل من أشكال العصرنة في عملية الجني.
 ما شد انتباهنا فعلا،  هو سيطرة النساء على النشاط و المدهش أن غالبيتهن كن فوق الأشجار غير آبهات بخطر السقوط، وهناك أيضا عدد من الأطفال الصغار يساعدون النسوة في جمع الزيتون المتناثر على الأرض.
 قابلنا حفيظة و مسعودة وهما شقيقتان تقيم الأولى في العاصمة « باب الواد»، و قد قدمت لجني المحصول رفقة ابنتها نهاد 35سنة، أما الثانية فمن سكان بلدية برج الطهر، و تملك الشقيقتان اللتان لاحظنا بأنهما نزلتا لتوهما من فوق الأشجار، ما يزيد عن 100 شجرة زيتون، ورثتاها عن والدهما.
وقد أخبرتنا الشقيقتان بعد أن تقاسمنا معهما غداءهما المتكون من زيت و زيتون و خبز تقليدي و لفت، بأنهما تقضيان قرابة الثلاثة أشهر سنويا في المنطقة لجني المحصول، و تستخرجان منه 35 لترا من الزيت بعد طبخه و عصره.
علما بأنهما تستعينان في العصر بالمعصرة ولا تعتمدان على الطريقة التقليدية التي تسير تدريجيا نحو الاندثار، رغم أن البعض لا يزالون يعتمدونها في شق الطهي فقط، أما العصر بالأرجل و غير ذلك ، فلم يعد معتمدا منذ2012، فكل 5 كيلوغرام مثلا، تنتج إذا عصرت تقليديا 12 حتى 14 لترا من الزيت، بالمقابل تستخلص المعصرة ضعف الكمية.
الشقيقتان قالتا بأنهما تعتمدان على نفسيهما في الجني و الزرع بعدما فقدتا الأمل نهائيا في الشباب، فهؤلاء، حسبهما، يفضلون المقاهي و عقود ما قبل التشغيل على خدمة الأرض، و السبب هو صعوبة المسالك و العزلة التي جعلت الوصول إلى الأشجار و نقل محصولها إلى المعصرة أمرا شاقا.
وحسب ما وقفنا عليه، فإن ظروف الجني صعبة جدا ، فالانتقال من الواد إلى القرية يتطلب 10 كيلومترات مشيا على الأقدام صعودا، أما الوصول من محسن إلى بلدية برج الطاهر ، فيتطلب 18كيلومترا بالسيارة، علما أن المنطقة تعاني عزلة تامة والحياة فيها أقل ما يمكن أن توصف بالبدائية، لذلك فمعظم سكانها نزحوا نحو المدن و قد  تم ذلك عبر مرحلتين ،كما علمنا.

 المرحلة الأولى كانت عند وقوع حريق في سنة 1992، و تراجع عدد السكان من 300عائلة إلى 100 عائلة سنة2000، ثم انخفض العدد إلى 25 عائلة أو أقل سنة2007. كما لعب الإرهاب أيضا دورا في تشجيع النزوح، مع أنه لم يرتكب جرائم في المنطقة، و كان المسلحون يكتفون بطلب « العشور» و هو نسبة من المنتوج.
 وحسب حسين شنيشن، وهو موظف متقاعد من العاصمة، قدم إلى أرضه بمحسن لجني الزيتون، فإن مشكل نقص العمالة بات يطرح كتهديد فعلي لشعبة الزيتون، فلولا النساء، حسبه، لتوقف النشاط لأنهن يشكل نسبة90 بالمئة تقريبا من اليد العاملة في هذا المجال.
سعر لتر زيت الزيتون البكر لن ينزل عن 1200دج  
كل هذه الظروف ستؤثر هذه السنة، حسب سمير زطيلي، على أسعار الزيت التي لن تنزل عن 1200دج بالنسبة للتر واحد من الزيت البكر، فعملية التطهير عموما تستغرق أربعة أسابيع، وعملية الجني تعتمد على الأشجار من حيث حجمها ومعدل  إنتاجها، وبعضها يتطلب جنيه مجهودا مشتركا خلال ثلاث ساعات كاملة، أما إذا قام بعملية الجني شخص وحده فالأمر يستغرق أربعة أيام، لتمنحك الشجرة 3 إلى 4 قناطير من الزيتون علما أن قنطار الزيتون ينتج حوالي 24 لترا من الزيت، وذلك في حال كان الموسم جيدا ، وموسم هذه السنة ضعيف نوعا ما، كما قال، و المدينة لم تحقق بعد اكتفائها الذاتي، فسعر لتر الزيت العادي يتراوح في المطاحن بين 650 و 800دج.

أمين لكميتي صاحب معصرة البركة
الولاية لم تحقق الاكتفاء الذاتي و الزيت أغلى  من الدينار في المعاصر
يؤكد أمين لكميتي شاب طموح من ولاية جيجل، مهندس دولة في الوقاية والأمن الصناعي، وصاحب معصرة البركة،   و هي معصرة عائلية أسست سنة1963، بأن الإنتاج هذه السنة جد ضئيل، بالنسبة لزيتون جيجل و حتى نوعيته ضعيفة نوعا ما، كما عبر، ما انعكس سلبا على الأسعار التي وصلت إلى 9000 دج للقنطار الواحد، و على حجم العرض كذلك، موضحا بأن الولاية لم تحقق الاكتفاء الذاتي بعد ، بدليل أنه لا يكتفي بعصر محصول المنتجين المحليين فقط، بل يستعين بمحصول منتجين من تلمسان و الشلف  ومستغانم و باتنة، لتغطية الطلب على مادة زيت الزيتون، مضحيا بذلك بنسبة من الجودة التي تتأثر، حسبه، بشروط التخزين والحفظ.
وقال المتحدث بأن أسعار الزيت هذا الموسم مرتفعة نسبيا بسبب اختلال ميزان العرض والطلب، لدرجة أن المنتجين يفضلون الدفع 600 دج عن كل لتر، على الدفع بلتر الزيت كعملة مقابل العصر، علما أنه يؤخذ عموما لترا واحدا كمقابل لكل 10 لترات، أما بخصوص أسعار المعصرة الموجهة للزبائن، فتنطلق من 600دج بالنسبة للتر الزيت الأخضر إلى 650 للتر الزيت المطهو.
ولمواجهة هذا المشكل ، قال محدثنا، بأنه قدم طلبا للسلطات من أجل الحصول على قطعة أرض لإنشاء مزرعة نموذجية، و هو مستعد لزرع 15إلى 20 ألف شجرة زيتون بها في البداية، خصوصا وأنه أجرى تحاليل مخبرية على نوعية الزيت الذي تستخلصه معصرته، وتأكد من أنه بكر و قليل الأكسدة.

مدير الفلاحة بولاية جيجل رمضان حمودي
الجني التقليدي عرقل تسجيل زيت جيجل تجاريا
رغم تخلي غالبية المنتجين عن العصر التقليدي و اعتمادهم على المعاصر الحديثة، إلا أن مشكل جودة الزيت المستخلص لا يزال يطرح، فهو لم يسجل تجاريا بعد، ما يعيق  مسعى تسويقه وتصديره، و السبب في ذلك هو أن الزيتون لا يجنى بطرق علمية تحافظ على قيمته و خصوصيته، كما أكد مدير الفلاحة لولاية جيجل  رمضان حمودي، مشيرا إلى أن مصالحه ضبطت برنامجا خاصا لتشجيع المنتجين على تطوير مزارعهم، و دعم المستثمرين لإنشاء مزارع نموذجية لإنتاج الزيت البكر، حيث أعادت مصالحه مؤخرا إحصاء المساحات المتوفرة، و تم خلال السنة الماضية استغلال 10 مساحات، بالتنسيق مع مصالح الغابات، التي قال بأنها أعلنت الأسبوع الماضي عن مشروع لتعبيد 150كيلومترا من الطرقات الجبلية، لفك العزلة عن المناطق الجبلية.
و تم في ذات الإطار، حسبه، زرع حوالي  7 آلاف شجرة في غضون السنة الجارية،  من أصل 30 ألف شجرة مبرمجة للغرس لتطوير الإنتاج، كما أن الدولة وزعت منذ سنة  2000 و إلى غاية اليوم حوالي 6آلاف هكتار على المستثمرين لإنشاء مزارع نموذجية عصرية، تطويرا للشعبة، التي تعد جيجل رائدة فيها بمساحة قدرها 200 ألف و 600 هكتار، من الأراضي المزروعة بالزيتون، علما أن تقديرات السنة الجارية تشير إلى إمكانية تحقيق إنتاج قدره 6 ملايين لتر من الزيت، عبر 167 معصرة حديثة.                                    
هـ/ط

الرجوع إلى الأعلى