حرائق غابات خنشلة.. هــول و تضامـــن
لم يكن أحد من سكان عين ميمون وبوحمامة وشليا وطامزة بولاية خنشلة، يتوقع أن يُحدث اندلاع الحرائق بغاباتها منذ الرابع من شهر جويلية    كارثة بهذا الحجم ، بعد أن عاشت أياما من الرعب بلياليها، فكانت الصدمة مروعة من هول تلك الحرائق التي وقفت النصر في اليوم الخامس على مخلفاتها بعين ميمون واستمرار اندلاعها بطامزة، وحمام جعرير، وتواقات، بشلية وبوحمامة وقايس، حيث التهمت النيران مئات الهكتارات من النسيج الغابي و تجندت مصالح الحماية المدنية وفرق الغابات من عدة ولايات لإخماد ألسنة اللهب و استدعى هول الحرائق، تضامن، و تكافل المواطنين و الكشافة الإسلامية و الهلال الأحمر الجزائري، للمساهمة في وقف زحف النيران مثلما وقفت عليه النصر في صور تضامنية و أخوية.

ربورتاج: يـاسين عبوبو  

لهب وسحب من الدخان بشلية وبوحمامة
كانت سماء جبال منطقتي شلية وبوحمامة صبيحة اليوم الخامس من امتداد زحف الحرائق إلى غاباتها ملبدة بدخان كثيف، يبدو جليا عند مداخلها، حيث تنقلت «النصر» إلى مواقع حرائق التي مازالت مشتعلة، و وقفت على حجم الخسائر التي خلفتها في مواقع أخرى انطفأت وأخمدت النيران فيها، وبمجرد اقترابنا في الطريق من ولاية باتنة اتجاه خنشلة عبر بوحمامة، عند الساعة التاسعة صباحا حتى بدت من على مسافة كيلومترات  الحرائق في مواقع متفرقة بجبال شليا، وكان المشهد نفسه بمناطق غابية بجبال بوحمامة، عبر الطريق الرابط بينهما، وكانت حالة من الاستنفار قائمة تجندا لإخماد النيران من خلال قوافل مركبات الحماية المدنية المتنقلة عبر الطريق الجبلي بين شلية وبوحمامة، وكذا الشاحنات الرافعة للعتاد والتجهيزات والتي تحمل  لوحات تراقيم عديد الولايات.
وفي الطريق إلى بوحمامة، رحنا نسلك الطرقات باتجاه المواقع التي لايزال لهيب النيران متصاعدا فيها،  فكانت وجهتنا منطقة جعرير، ومما لا شك فيه أن الزائر لمناطق شليا وبوحمامة سيلتفت إلى حجم المساحات الواسعة لأشجار التفاح التي تشتهر بها المنطقة، والتي تمتد على سفوح الجبال وضفاف الأودية، كنا نمر بها بعدة مناطق على غرار أولاد ونجل، وأولاد مريم، وبئر أوصيف.
وبمنطقة بوزوامل الواقعة بمنخفض كان  الدخان كثيفا وألسنة لهب متصاعدة بمنطقة جعرير،  و غابات متناثرة هنا وهناك  أين تصاعدت ألسنة النيران وبدت بأنها  تتقدم بسرعة.
هكذا يتم التدخل لمنع امتداد النيران
كان مشهد  الحرائق بوصولنا إلى منطقة جعرير مروعا، حيث بدت ألسنة النيران تتصاعد وبسرعة ملتهمة الغطاء الغابي حتى ظننا لوهلة أنها ستحاصرنا ولن نستطيع العودة من طريق الذهاب، و على مسافة أمتار من مكان الحريق وجدنا فرقا لمحافظة الغابات للرتل المتنقل لولاية باتنة، ومتطوعين بعتاد وآليات يقومون بعملية قطع واقتلاع الأشجار في سباق مع الزمن لمنع امتداد النيران  ، ووقف زحفها باتجاه جانب آخر في مشهد مؤسف لاقتلاع تلك الأشجار الخضراء اليافعة النمو،  لكن الضرورة تقتضي ذلك مثلما أوضحه لنا وليد قدوار من محافظة الغابات للرتل المتنقل لولاية باتنة، الذي وعلى الرغم من خطر النيران التي تقترب، كان يشرف إلى جانب أعوان ومتطوعين على مواصلة الجهود، لشق المسلك الفاصل بقطع أشجار لمنع تقدم الحريق.
وقال لنا المتدخل بأنه منذ أربعة أيام يتواجد بموقع الحريق، وأن عملية اقتلاع وقطع أشجار لشق مسلك فاصل تدخل ضمن استراتيجية وخطة العمل لمنع امتداد النيران التي تتقدم بسرعة باتجاه أطراف أخرى من خلال عزل المنطقة التي تحترق، وأضاف بأن العملية وإن ترتب عنها خسارة مسلك من الأشجار إلا أنها ستجنب  تدمير مساحات غابية شاسعة  ، مشيرا لسرعة انتقال الحرائق وسط بعض أنواع الأشجار كالصنوبر التي تنتقل ثمارها بعد وصول النيران إليها كالألعاب النارية.
وأكد من جهته محافظ الغابات لولاية باتنة عبد المؤمن بولزازن، الذي التقيناه بموقع غابة جعرير أهمية المسلك الفاصل في عزل الحريق ومنع امتداده، وفي الوقت الذي كان أعوان فرق الغابات والمواطنون المتطوعون يشتغلون داخل الغابات على منع زحف النيران ،  انتشرت  فرق من الحماية المدنية  عبر عدة مواقع مواجهة ألسنة اللهب، وتمت إمدادات المياه  من كل صوب، وعلى الرغم من ذلك بدت  بعض الحرائق  وكأنه من غير الممكن التحكم فيها لتوسع رقعتها وانبعاث الدخان الكثيف منها.
وكانت حوامات الحماية المدنية الصفراء، تقوم طيلة النهار بطلعات انطلاقا من المركز العملياتي الذي يشرف عليه المدير العام للحماية المدنية، وذلك بمدخل بلدية بوحمامة، أين يتم التنسيق بين مختلف الوحدات المتدخلة، حيث كشف في هذا السياق المدير الولائي للحماية المدنية لولاية خنشلة عن مشاركة 19 ولاية بفرق من الحماية المدنية تم توزيعها على مواقع الحرائق، وأشار لتسخير حوامتين للإطفاء تنقلان المياه من المجمعات التي تتوفر عليها، وأكد التحكم في حرائق بعض المواقع، متأسفا  للأضرار والخسائر التي لحقت بالغطاء الغابي وبساتين  فلاحين دون تحديد حجم الخسائر بعد.
تفحم بساتين وسكان عاشوا ليالي رعب  
أمام هول بعض الحرائق التي راحت تتوسع وتلتهم الغطاء الغابي بسرعة، لم يجد سكان القرى والمداشر القريبة من مواقع هذه الحرائق من حل وبقوا يترقبون وينتظرون ما سيؤول إليه مصير سكناتهم وبساتين أشجارهم المثمرة، وهو المشهد الذي وقفت عليه النصر بطريق طامزة أين استوقفتنا مجموعة من الفلاحين من حوالي 30 فردا من أصحاب أشجار بساتين التفاح، كانوا جالسين تحت شجرة بعد أن عجزوا طيلة أربعة أيام عن مواجهة امتداد النيران مثلما أكدوه لنا.
وأبدى الفلاحون تخوفهم من اقتراب ألسنة النيران إلى بساتينهم، التي لم تعد في منأى عن حريق غابات جعرير، وقال الشاب   بديار بلعيد وهو   بأن نشاطهم الوحيد في المنطقة هو الفلاحة التي تعد مصدر قوتهم وإن احترقت فلن يبقى لهم شيء، وجدد فلاحون على إثر اندلاع الحرائق مطالب لشق مسالك ريفية عبر الغابات وإنجاز أحواض مائية، قالوا بأنها لو أنجزت في وقت سابق كانت ستسهل مأهمة  التوغل في حال اندلاع الحرائق.
 وجهتنا في الفترة المسائية كانت   منطقة تواقات المتضررة من الحرائق ووسط بساتين التفاح المترامية بالمنطقة اتجهنا إلى تجمع سكني يبرز وسطه معلم تاريخي ليتضح أننا بمنطقة خنقة مسعودة ،وأن المعلم يؤرخ ويخلد للشهيدة التي دفنت وهي حية من طرف الاستعمار، ويبين المعلم أن المنطقة كانت مركز عبور إبان الثورة التحريرية بين الجزائر وتونس، وتضم أيضا مركزا للمجاهدين يعرف باسم عمار عشي، وقد التقينا بأهل المنطقة الذين رووا لنا ما عشوه بسبب الحرائق وكلهم حسرة وكأن بهم لم يستفيقوا بعد من الصدمة.

وليس ببعيد عن المعلم بدت    آثار الحرائق أين التهمت الغابات المجاورة للسكنات ولحسن حظ خمسة أشقاء من عائلة بلخيري أن النيران لم تصل بستانهم الذي يتوفر على 600 شجرة تفاح، تعد مصدر قوتهم ويصف لنا محمد اليمين   50 سنة أحد الأشقاء ليلة اقتراب الحريق بأنها كانت  ليلية بيضاء، بعد أن اضطروا لنقل النساء والأطفال بعيدا إلى مقر التجمع السكني بقرمودة (التسمية السابقة لشليا)، وأضاف بأنه يجب التصدي بردع كل من تسول له نفسه حرق الغابات، مشيرا لزيارة السلطات المحلية لمنطقتهم، واقتراح مراقبة دخولها، وبدا شقيق اليمين الذي يكبره صاحب 56 سنة في حديثنا إليه أنه لم يستوعب بعد كيف أن لأشجار كبر معها على حد قوله تزول بسبب الحريق في ظرف وجيز، وقال بأنه وغيره من سكان المنطقة ذرفوا الدموع لخسارة الغابة، وتأسف   عمار بدرة وهو فلاح وجدناه يقود جراره، لاحتراق الغابة بين ليلة وضحاها.
وإن كانت بساتين لم تمتد إليها النيران بتواقات إلا أن فلاحين تضرروا بصفة خاصة بعين ميمون بعد أن التهمت النيران بساتينهم.    
قوافل تضامنية وتجند للجيش والهلال الأحمر والكشافة
تركنا النيران مشتعلة بمنطقة جعرير وتوجهنا نحو عين ميمون التي اندلعت منها الحرائق الأولى على مسافة 32 كيلومتر، وفي الطريق لاحظنا استمرار توافد الشبان على متن الشاحنات والحافلات نحو بوحمامة لإخماد الحريق هناك وعبر الطريق، عند مدخل عين ميمون على مسافة كيلومترات تحولت الغابات المترامية على جانبي الطريق إلى مساحات سوداء من الأشجار المتفحمة المنتصبة بجذوعها الجرداء من اخضرارها، وأخبرنا في جولتنا الاستطلاعية عبد الرحمان، بأن عدة حرائق    اندلاعت في وقت متقارب ما يفرض احتمال العمل الإجرامي بحسبه.
وبعد عين ميمون، سلكنا طريق قايس في حدود الساعة الرابعة زوالا، حيث كانت سماءها ملبدة بالغيوم السوداء، وكأنها ستمطر لكنها كانت غيوم دخان الحرائق الممتدة أيضا إلى جبال قايس، وظلت تلك الغيوم على مسافة طويلة بعد أن اختصرنا الطريق باتجاه بوحمامة عبر قرية ايقوبان، باتجاه شليا وطيلة نهار اليوم كانت قوافل المساعدات لم تتوقف باتجاه خنشلة، وتحديدا مواقع الحرائق حيث رصدنا تراقيم ألواح من عدة ولايات لشاحنات رافعة لآليات التدخل من الطارف وسكيكدة وباتنة وبسكرة وسطيف وبجاية.
ومن عين ميمون تولى شبان تنظيم حركة السير بعد توقف آلية ضخمة، وكان شبان على متن شاحنات متجهين إلى منطقة جعرير وكلهم عزيمة وإقبال من أجل المساعدة في إخماد النيران، كما رصدنا تجند الهلال الأحمر الجزائري ببوحمامة أين تم تشكيل خلية لنقل وتوصيل الوجبات الغذائية، وأوضح لنا شاب اسمه عبد العزيز جفال والذي قدم من خنشلة إلى بوحمامة خصيصا للمساعدة في أجل إخماد النيران بأنه تجند رفقة زملائه منذ اشتعال النيران لتقديم يد المساعدة، وبمنطقة تواقات التقينا أفراد للهلال الأحمر يترأسهم أحد أبناء المنطقة جمال سعيداني الذي كان يتولى توزيع الوجبات، كاشفا لنا عن توصيل ما بين ألف وألفي وجبة يوميا، لأعوان الغابات والحماية المدنية، والمتطوعين لإخماد النيران في الغابات.
ومن بين المتطوعين، رصدنا قدوم فوج للكشافة الإسلامية على رأسه القائد عليه مولدي من بلدية الحمامات بولاية تبسة من أجل المساهمة في إخماد النيران، وأخبرنا بأنه معتاد على هذه المبادرات خاصة في الكوارث الكبرى، مشيرا لمشاركته في المساعدات خلال فيضانات باب الوادي بالعاصمة وفيضانات غرداية وزلزال بومرداس.
ورصدنا تأهب وتجند عناصر من الجيش الشعبي الوطني على طول الطريق بين بوحمامة وعين ميمون، أين كانت فرق وآليات دعم تتواجد أمام مسجد النور بجانب الطريق، وبمدخل عين ميمون تشكلت طوابير من شاحنات صهاريج المياه، التي كانت تتمون من منبع مائي للتوجه نحو منطقة جعرير التي كانت النيران بها لاتزال مشتعلة في غاباتها.
السياحة الجبلية والتفاح ..الوجه الآخر لخنشلة
على الرغم من مخلفات الحرائق التي أتت على مساحة تقدر بحوالي 2600 هكتار، من الغطاء الغابي و الأشجار المثمرة بولاية خنشلة، حسب الاحصائيات التقديرية للمصالح المعنية،  إلا أن الولاية المعروفة بتاريخها الحافل إبان الثورة التحريرية، وتاريخها الضارب الجذور ، تنام على ثروة غابية كبيرة بحاجة إلى حماية وإلى الاستثمار.
وخلال استطلاعنا عبر مشاتي والمداشر بين قايس وطامزة وعين ميمون، وخاصة شليا وبوحمامة شدنا الاستثمار الفلاحي الكبير في زراعة التفاح، الذي يتلاءم ومناخ المنطقة على امتداد البصر لمساحات سهلية أسفل الجبال  وعلى ضفاف الوديان، حتى أصبحت موردا اقتصاديا تشتهر به المنطقة، وتحولت إلى مصدر رزق وعمل مثلما أكده لنا شبان التقيناهم، طالبوا بدعم شعبة إنتاج التفاح والنهوض بالسياحة لما تتوفر عليه المنطقة من مؤهلات طبيعية.
ي/ع

الرجوع إلى الأعلى