فقدت الكثير من الشوارع والأحياء العتيقة بوسط مدينة قسنطينة، حركيّتها المعهودة التي اشتهرت بها منذ عشرات السنوات، لتتحوّل تلك الوجهات المعروفة إلى أماكن شبه خالية من المتجولين والمتسوقين، الذين غيّروا وجهتهم إلى مناطق أكثر حيوية على غرار المقاطعة الإدارية علي منجلي وحي سيدي مبروك ومدينة الخروب وغيرها من الأقطاب التجارية الجديدة.
حاتم بن كحول
وتغيرت خارطة المناطق الأكثر جذبا للسكان في ولاية قسنطينة، منذ سنوات، إلا أن الهوة زادت كثيرا في الفترة الأخيرة، بعد أن انقلبت الموازين وتحوّلت بعض الشوارع المعروفة باستقطاب المتسوقين إلى أماكن شبه خالية، يبحث فيها التجار عن زبائن جديين مستخدمين عدة طرق مغرية، لعل أبرزها وضع ملصقات التخفيضات على واجهات المحلات، لجذب ما يمكن جذبه من زبائن قليلون يقصدون هذه الشوارع.
واختارت «النصر» شارع بلوزداد والأحياء المجاورة له، للوقوف على مدى حفاظ هذه المناطق العريقة على حركيّتها وحيويتها التي اشتهرت بها منذ سنوات، لنقصد وسط المدينة، أين يلتقي التاريخ بالجمال المعماري، يشقه شارع جميل تعوّد أن يكون الوردة التي تزين الحديقة، إلا أننا وجدنا حالته مختلفة تماما عما كانت عليه، لتذبل تلك الوردة وتتحول هذه المنطقة إلى شبه مهجورة.
الوهن يصيب أكثر شارع حيوية في ولاية قسنطينة
وكانت الساعة تشير إلى العاشرة والنصف صباحا، عند تواجدنا بمدخل الشارع عبر محور الدوران بساحة العقيد عميروش أو ما يعرف «لابيراميد» بالنسبة لسكان المدينة، وسط حرارة مرتفعة تقابلها برودة الإقبال الذي صادفناه بالمدخل، لنجد أنفسنا تقريبا لوحدنا نتمشى وسط تلك المحلات الشاغرة تماما من الزبائن، فيما كان الرصيف الجميل الذي أعيد ترميمه عدة مرات، خاليا من المتجولين أو المتسوقين، باستثناء بعض الأقدام التي كانت تكسر الهدوء التام للشارع.
ولاحظنا أن العدد القليل من المشاة في الرصيفين المتقابلين، يهرولون نحو وجهة معيّنة ومحددة مسبقا، ما يؤكد أنهم ليسوا في نزهة وعند الاقتراب منهم أكثر، تأكدنا أن جلهم يعمل في مختلف الهياكل الإدارية المنتشرة بقوة في تلك المنطقة، فيما لاحظنا أن التجار أخرجوا كراسيهم للجلوس في الهواء الطلق بما أن نشاطهم التجاري شبه مجمّد في تلك الفترة.
واصلنا طريقنا وسط تلك المحلات الشاغرة والتي كانت في وقت سابقا تعج بالزبائن، حتى أن الكثير كان ينتظر دوره من أجل دخول تلك المراكز التجارية الصغيرة والفضاءات الواسعة، وشد انتباهنا أن الكثير من المحلات مغلقة، وتبدو أنها لم تفتح منذ فترة زمنية طويلة، نظرا للأوساخ المتراكمة أمام مداخلها أو الغبار المنتشر على واجهتها ، ولونها الباهت الذي يوحي أنه لم يجدد منذ مدة ليست بالقصيرة.
وسألنا الكثير من التجار الذين كانوا يملكون الوقت الكافي للحديث معنا، بما أنهم كانوا في شبه بطالة، وأوضحوا أنهم عادوا مؤخرا من العطلة بعد غلق دام لأزيد من 10 أيام، لعلهم يجدون أن الحركية انتعشت قليلا في هذا الشارع، إلا أنهم تفاجئوا بأن الوضع ازداد سواء، وحتى بعض المارة الذين كانوا يقصدون محلات بيع الألبسة والأحذية، من أجل الإطلاع على الأسعار أو آخر الإصدارات تخلوا عن فكرة الزيارة المجانية.
وقادتنا جولتنا إلى بعض المقاهي الجديدة أو القديمة الواقعة في جهتين متقابلتين، ووجدنا أنها شبه خالية من الزبائن باستثناء زبون أو اثنين، ما جعل صاحبها والعامل الذي يساعده يتابعان بعض البرامج التلفزيونية في انغماس كلي و أريحية، وكأنهما في منزل أو فترة الراحة.
وعلمنا من بعض التجار القدامى أن زملاءه في مختلف النشاطات قرروا التحول لممارسة تجارتهم في المقاطعة الإدارية علي منجلي، والتي تعدّ حسبهم القطب الجديد للتجارة في ولاية قسنطينة، موضحين أن الكثير منهم استغنى عن محله الذي شغله لأزيد من 20 سنة في سبيل إنقاذ تجارته التي كادت تنتهي في «شارع بلوزداد»، بعد أن أصبح الإقبال عليها ضئيل جدا وخاصة بالنسبة لبائعي الألبسة والأحذية.
وتغيرت خارطة التجارة في هذا الشارع، بعد أن رحل الكثير من التجار المعروفين في المنطقة على غرار «عمي رابح» صاحب كشك متعدد الخدمات والذي كان يعتبر مقصدا لعشاق الهدايا أو مختلف المستلزمات المنزلية والمدرسية، وكذا مخبزة «حمزة» ومخبزة «بوالصوف» ومحل «زنوبيا» ومحل «أنتينيا» للتصوير الفوتوغرافي، وبائع المرطبات والمخبوزات «بعزيز» وغيرهم من التجار القدامى الذين يشتهر بهم الشارع.
وتحوّلت تلك النشاطات التي كانت تجذب الزبائن من كل مناطق ولاية قسنطينة، إلى أخرى متمثلة في الإطعام السريع أو المقاهي وبيع المثلجات أو هاتف عمومي، ما يجعل المتواجد في هذا الشارع في تلك اللحظة يظن نفسه قد أخطأ العنوان أو أنه دخل شارعا آخر ومدينة غير التي كانت مرسومة في ذاكرته.
كما لاحظنا أن الكثير من المحلات كانت مغلقة، وبالعديد علقت إعلانات «للكراء» أو «البيع»، ما يؤكد أن أصحاب تلك المحلات يعانون من تبعات نقص النشاط التجاري، ويرغبون في استثمار تلك الأموال في ممارسة نفس النشاط في مكان آخر يحتمل أن يكون علي منجلي، خاصة وأن المقاطعة الإدارية خطفت الأنظار وأصبحت قبلة التجار والزبائن وعشاق التسوق من داخل ولاية قسنطينة وخارجها.
وعلمنا من أحد التجار أن سعر المحلات التجارية تراجع كثيرا مقارنة بما كان عليه قبل سنوات، فيما انخفض ثمن الإيجار لأزيد من 40 بالمئة، ليصل 7 ملايين سنتيم بعد أن بلغ قبل فترة 13 مليون سنتيم، والأكثر من ذلك فقد عرفت عمليات الكراء عزوفا من طرف التجار الذين يفضلون مناطق أخرى لاستثمار أموالهم.
وأكد سكان بالشارع، أنهم أصبحوا يشعرون بالغربة وسط ديارهم وفي حيهم، بعد أن غادر التجار القدامى والكثير من جيرانهم المنطقة، نحو المدن الجديدة بعلي منجلي وماسينيسا وعين نحاس، أما بخصوص التجار، فقد اختاروا ركوب الموجة والتنقل إلى إحدى المراكز التجارية في المقاطعة الإدارية، بحثا عن انتعاشة تجارية بعد ركود دام لأزيد من 4 سنوات، ليتحول هذا الشارع التقليدي لمكان عبور فقط للوصول من حي إلى آخر.
ولم تختلف الأجواء خلال الجولة التي قمنا بها على مستوى الأحياء المجاورة، بداية بحي الجبّانة، والذي كان يعتبر مكانا يحتفظ فيه شباب وسط المدينة بكثير من الذكريات، لتوفره على مساحة لعب رملية مزودة بألعاب حديدية مع استغلاله في لعب مباريات كرة القدم، وانتشار قاعات ألعاب الفيديو الذي ميزت هذا الحي لسنوات، إلا أن كل تلك المرافق تبقى مجرد ذكريات بعد أن تحولت لشركات وأخرى إلى سكنات، ما جعل هذه المنطقة شبه جامدة.
أما حي الكدية الذي يعرف بأنه حي إداري، و الذي كان يعرف مرور الآلاف من المارة عليه، من أجل الوصول إلى مختلف وجهاتهم، تحول إلى مكان شبه خال من الناس، لتعوض المركبات هؤلاء المارة في احتلال الأرصفة والطرقات، وكأنه تحوّل إلى حظيرة سيارات كبيرة تحيط بها مجموعة من الهياكل الإدارية والأمنية، واقتصر تواجد الأشخاص في هذا الحي لأغراض إدارية فقط.
وكانت الأجواء التي تطغى عليها الرتابة، حاضرة نسبيا على مستوى حي عبّان رمضان أو كما يعرف «بالصوابط»، أين لاحظنا وجود حركية للمارة والمتسوقين، لكن وقفنا على اختفاء الكثير من النشاطات التي عرفت بها محلات الحي ، وتعويضها أنشطة أخرى لم تمكن من جذب نفس العدد من الزبائن أو على الأقل المحافظة على وتيرة متقاربة مع تلك التي كان يعرفها الشارع قبل سنوات، ليكون هذا الحي الواقع في منحدر، قبلة فقط للراغبين في تناول وجبات سريعة و قاصدي محلات الألبسة، و أغلبهم من النساء .
ويشكل العبور غاية نسبة كبيرة من قاصدي الشارع، ذلك أن مستعملي الترامواي يترجلون من محطة ابن ملعب ابن عبد المالك إلى مختلف الوجهات بوسط المدينة، منها عواطي مصطفى و ديدوش مراد والعربي بن مهيدي وتفرعات أخرى تؤدي إلى شارع بلوزداد وإلى محيط البريد المركزي وكذلك إلى محطات القطار والحافلات المتواجدة بباب القنطرة، وهي أحياء أصبحت محطات عبور فقط بالنسبة للمتواجدين بها، بعد أن كانت نقاط التقاء الأقارب والأحباب والأصدقاء لقضاء أمسيات جميلة، يستعيدون فيها مختلف الذكريات القديمة.
في المقابل تبقى المدينة القديمة في جزئها الممتد من ساحة أول نوفمبر «لابريش» وصولا إلى نهج العربي بن مهيدي «طريق جديدة»، تحفظ ما وجه وسط المدينة، بعد تواصل الإقبال عليها من طرف الزوار من كل أنحاء الولاية وخارجها، رغم أن التوافد انخفض بشكل ملحوظ مؤخرا.