ارتدت اللباس العسكري و هي لم تبلغ العشرين، و انضمت إلى صفوف الفدائيين و حملت السلاح في وجه المستدمر الغاشم، و انطلقت بكل عزيمة و شجاعة في العمل الثوري، ملبية نداء الوطن، فشاركت  في عديد العمليات المسلحة، من خلال المساهمة في التنسيق و نقل الأسلحة و المتفجرات إلى المجاهدين، قبل أن تصعد إلى جبال الميلية، بالولاية التاريخية الثانية، لتواصل نضالها، فعملت على نقل الأدوية و تخصصت في التمريض، إلى أن استرجعت الجزائر سيادتها.

حاورتها / أسماء بوقرن

حلت ابنة رحبة الصوف بمدينة قسنطينة، المجاهدة  قمرة طرودي، البالغة من العمر 85 عاما، ضيفة على النصر، فعادت بذاكرتها إلى عقود خلت، مستذكرة ويلات المستعمر و تضحياتها في سبيل تحرير الوطن، و تحدثت عن مسيرتها النضالية، التي لم تعد تسعفها الذاكرة سوى ببعض محطاتها.
بخصوص بداياتها النضالية، قالت المجاهدة بأنها كانت في 17  من عمرها، عندما اختارت النضال، نظرا لتأثرها بأفراد عائلتها الذين التحقوا مبكرا بالثورة، بدءا  بوالدها و أختيها اللتين سبقتاها إلى النضال، إلى جانب أخيها الأكبر الذي كان يعمل في محل للحدادة بشارع العربي بن مهيدي، بوسط مدينة قسنطينة.
كان شقيقها، كما قالت للنصر،  يستغل قبو محله في إخفاء منفذي العمليات بوسط المدينة، و عندما اكتشف جنود فرنسيون الأمر، قاموا بتوقيفه وسجنه، وتعرض للتعذيب الوحشي.
ولم تفلت أختها بوبة من قبضتهم، أيضا، بعد أن اكتشفوا نقلها       للأسلحة و المتفجرات، فقضت فترة طويلة في السجن، لم تسلم خلالها من التعذيب، الذي لا تزال تحمل آثاره  إلى غاية اليوم، بعد كل ما حدث، استنتجت  المجاهدة قمرة طرودي، بأن الوقت حان للالتحاق بالثورة، و حمل السلاح في وجه العدو.   
انتمائي إلى عائلة ثورية جعلني ألتحق مبكرا بالثورة
قالت المجاهدة إنها بحكم انتمائها إلى عائلة ثورية،  التحقت بصفوف النضال مبكرا، فعملت في البداية كمنسقة بين الفدائيين، و أوكلت لها مهمة نقل الطرود بين الفدائيين منفذي العمليات، و لم تكن تخشى، مثلما قالت، بالرغم من صغر سنها،  قوات المستعمر التي كانت تسيطر على المنطقة، فنقلت القنابل و الأسلحة بين منفذي العمليات الفدائية، و كلها إصرار على إنجاح كل مهمة تُطلب منها، لتثبت جدارتها و قدرتها على تنفيذ كل المخططات لتصفية المستعمر، فتأكد زملاؤها بأنها من المناضلات اللواتي يعول عليهن، فقد تميزت بالحنكة و الدهاء و الشجاعة في تنفيذ الأوامر التي تتلقاها من المسؤولين، قائلة بأنها لم تكن تتردد في المرور عبر الحواجز الأمنية التي يضعها جيش الاحتلال في كل   نقطة، و تخفي مخاوفها و تتحلى بالشجاعة، لكي لا يتفطن لأمرها الجنود.

بعد نجاح كل المهمات التي أوكلت لها، بحث عنها الشهيد حملاوي، كما أكدت للنصر،  و طلب منها الانضمام إلى إحدى الخلايا التي يشرف عليها بالولاية الثانية، فوافقت، و أكدت له استعدادها لتنفيذ كل التعليمات.
قضت قمرة، فترة طويلة تنشط ضمن هذه الخلية بحي سيدي مبروك   بقسنطينة، و كان الشهيد حملاوي يكلفها بنقل القنابل إلى المكلفين بتنفيذ عمليات، و كان يشيد بقدرتها على مراوغة العدو،  و التنقل بكل عزم و شجاعة لتحقيق هدفها، و أضافت المتحدثة بأنه كان يناديها «الراجل»،  و كانت قريبة  منه،  مشيرة إلى أنه كان صارما و حريصا على ضبط مخططاته، و الإسراع في تنفيذ العمليات التي يأمر بها  بدقة، فكانت تكلل بالنجاح.
و ذكرت المتحدثة أنه كان يرعب العدو و يزعزع كيانه و يخلط كل أوراقه،  بعد كل عملية ينفذها، فحاول مرارا الإيقاع به، غير أن مخططاته كانت تبوء بالفشل، فقد كان يحرص على تغيير مظهره للتمويه، إلى أن سقط شهيدا في إحدى المعارك التي وقعت بوسط المدينة، مشيرة إلى أن أختها بوبة التي سبقتها للنضال، ضمن إحدى الخلايا التي كان يشرف عليها الشهيد حملاوي، كان يعول عليها كثيرا في تنفيذ مخططاته، بإلقاء القنابل في الأماكن التي يتردد عليها الفرنسيون، و نفس الشيء بالنسبة إليها.
هكذا أصبحت ممرضة أعالج الفدائيين في الجبال..
تحدثت بعد ذلك السيدة قمرة عن صعودها إلى جبال الميلية بالولاية التاريخية الثانية، فقد كان المجاهدون بحاجة ماسة إلى ممرضين،  فقررت أن تواصل نضالها هناك، في البداية تخصصت في نقل الأدوية، مشيرة إلى أنها و رفيقات الكفاح مررن بظروف صعبة للغاية، فكن يقطعن مسافات طويلة، مشيا على الأقدام في الظلام الدامس، و يعبرن الوديان في الشتاء، فيتبلل لباسهن بشكل كامل، غير أنهن يبقين لساعات طويلة باللباس المبلل، إلى أن ينهين مهامهن.
و لم يقتصر نشاطهن على نقل الأغراض، بل شمل أيضا التمريض، فقد وجدن أنفسهن مجبرات على تعلمه ، لعلاج الجرحى و المرضى.  و عملت آنذاك في خلية تضم المجاهد بوشريط الذي كان طبيب الفدائيين، و أشرف على تعليمها التمريض، رفقة مناضلات أخريات، ما جعلها تقوم بتنظيف و تطهير و علاج أو خياطة إصابات الفدائيين و المجاهدين، مؤكدة أنها كانت أصعب مرحلة عاشتها خلال الثورة التحريرية، حيث لم تتمكن من نسيان مشاهد جثث الفدائيين الممددة التي كانت تتنقل بينها، أملا في العثور على أحدهم على قيد الحياة، لمساعدته و تضميد جروحه.
و أوضحت بأنها في البداية كانت تحاول أن تتحلى بالشجاعة عند رؤية الجروح و تخفي الألم الذي يعصر قلبها، وبمرور الوقت،   أصبحت      تبدو لها عادية و تقوم بتطهيرها و علاجها لتفادي حدوث مضاعفات صحية للمصابين، مشيرة إلى أن المجاهدين كانوا يتكفلون بدفن الشهداء، في المكان الذي استشهدوا فيه.
انفصلت عن زوجي لأواصل النضال

حب المجاهدة لوطنها، جعلها تختار النضال، على المحافظة على حياتها الزوجية، بعد أن خيرها زوجها بشير، بين مواصلة الكفاح أو الطلاق، ففضلت الانفصال عنه، و هي في ريعان شبابها.
و أكدت للنصر، أن تحرير الوطن كان ضمن أولوياتها آنذاك، و لم تكن تفكر في مستقبلها، لأنها كانت تتوقع أن تسقط شهيدة في أي وقت، و ما حز في نفسها أكثر، أن زوجها كان يعلم بكفاحها، و بأن لا شيء يمكن أن يعرقل مسارها إلا الموت، غير أنه وضعها في موقف، جعلها تقرر الطلاق و ترفض بعد ذلك كل من تقدم لخطبتها.
و أضافت السيدة طرودي بأنها استمرت في نضالها بكل عزم، و لم تستسلم للحصار الذي فرضته قوات الاستعمار، خاصة بعد علمها بأمر انخراطها ضمن خلية الشهيد حملاوي، فمكثت لفترة طويلة في جبال الميلية، و في كل مرة كانت تضطر لتغيير مكانها، خاصة بعد انكشاف أمر أختها الصغرى فاطمة   الزهراء فتم إلقاء القبض عليها و سجنها، كما سجنت أختها بوبة و تعرضت لشتى أنواع التعذيب، لا تزال آثارها بادية في رأسها إلى غاية اليوم.
ظلت تتكبد مشاق التنقل بين المناطق الوعرة في جبال الميلية، و تنفذ العمليات التي أوكلت إليها بدقة خلال الثورة التحريرية، إلى أن نالت الجزائر استقلالها، فظل هذا الحدث محفورا في ذاكرتها، قائلة بأنها لن تنسى الاحتفالات بتلك المناسبة، حيث خرجت حاملة الراية الوطنية، و هي تهتف «تحيا الجزائر» و الدموع تنهمر من عينيها.
و لا تزال المجاهدة قمرة طرودي تحتفظ إلى غاية اليوم بالزي العسكري الذي كانت ترتديه في الجبال و كذا القبعة و الحذاء، و كذلك بعض الصور التذكارية التي التقطتها مع بوشريط و رفيقات النضال، و أكدت لنا و هي تحدق بالصور، أنها لن تتردّد في حمل السلاح مجددا، إذا استدعى الأمر ذلك.
أ. ب

الرجوع إلى الأعلى