تشكل العلاقات الجزائرية – الفرنسية الاستثناء في العلاقات الدولية لما يطبعها من تعقيدات وتناقضات تؤكدها التطورات التي شهدها محور الجزائر – باريس خصوصاً في السنوات الأخيرة، والتي عرفت مدا وجزرا، ترجمة  لتناقضات لطالما طبعت العلاقات بين البلدين طيلة 60 عاما من الاستقلال، وفي أحيان عديدة وصلت العلاقات إلى حد «القطيعة» نتيجة تصريحات أو مواقف قبل أن يتم إطفاء لهيبها بـ"رسائل تقارب"، التي وإن نجحت في تجاوز الخلاف لكن لم تفلح في تطبيع كامل  لعلاقات لا تزال مرتبطة بذاكرة الماضي.

لا تزال العلاقات الجزائرية الفرنسية رهينة التقلبات في مواقف الساسة في فرنسا وصخب الذاكرة والكلمات، حيث غالبا ما تطغى الحسابات السياسية الداخلية لا سيما بين الأحزاب الفرنسية على العلاقات الثنائية، كما أن التعاطي الفرنسي مع ملف الذاكرة يجعل إي توافق شامل أمرا صعب التحقيق رغم مضي ستين عاما على استقلال الجزائر.
هذا التوتر برز بوضوح أواخر العام الماضي، وبداية 2022، حيث مرت العلاقات بين البلدين بأصعب فتراتها بعد الأزمات المتلاحقة جراء التصريحات التي صدرت عن أكثر من مسؤول فرنسي على رأسهم الرئيس ماكرون، والتي ضربت العلاقات في الصميم وامتدت من شقها السياسي إلى جانبها الاقتصادي في جزائر ترفض الاحتكار وتفرض الإنصاف مع شركاء  فرضوا المنافسة على غرار الصين وتركيا.
وبرأي محللين، فان قضية الذاكرة وملفاتها العالقة، تبقى حجر عثرة في طريق تطبيع كامل للعلاقات الجزائرية الفرنسية، إذ مازالت هذه القضايا تتمركز في عمق هذه العلاقات وتؤدي في الغالب إلى خلافات طارئة، على غرار الأزمة العاصفة في شهر أكتوبر الماضي، بعد تصريحات للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون حول تاريخ الجزائر.
ودفع ذلك الجزائر إلى وقف الاتصالات الدبلوماسية مع باريس، واستدعاء السفير للتشاور، وإغلاق المجال الجوي أمام الطائرات العسكرية الفرنسية. وأوفدت باريس وزير الخارجية في ذلك الحين جان إيف لودريان على مرتين في جانفي وافريل الماضيين إلى الجزائر، لتلطيف الأجواء وهو سلوك استمرت فيه باريس، لإصلاح خلل تسببت فيه ولم تتوقع أن يكون الرد الجزائري شديدا، لأن الجزائر تغيرت وأكدت أكثر من مرة أنها ستتعامل بندية وترفض المساومة والابتزاز، والنتيجة أن باريس  خسرت موقعها  أمام  أطراف أخرى توازن بين المصالح والصداقة  وتتعامل من دون خلفيات، كالصين وتركيا وإيطاليا وروسيا.
   جراح غير ملتئمة وأخرى لا تزال تنزف
لكن الحديث عن تجاوز أزمة أكتوبر الماضي، وعودة العلاقات إلى طبيعتها، يبدو أمراً سابقاً لأوانه. ويرجع ذلك إلى عوامل داخلية تخصّ الجزائر في الأساس، والتي يبدو أنها حسمت توجهاتها الإستراتيجية وشراكاتها المستقبلية، من دون أن تكون فرنسا طرفاً فيها. وتجد الجزائر في تركيا والصين وإيطاليا وألمانيا وروسيا شركاء أكثر نفعاً وبراغماتية.
ففي الوقت الذي استغلت هذه البلدان الفرص التي تقترحها الجزائر، خسرت شركات فرنسية كانت تدير قطاعات حيوية في الجزائر، حصتها في السوق الوطنية.
وأشار رئيس الجمهورية، عبد المجيد تبون، في الرسالة التي وجهها بمناسبة مجازر 8 ماي، إلى جملة الشروط التي يتوجب على الطرف الفرنسي الالتزام بها للمضي قدما نحو علاقات طبيعية مع فرنسا، وعلى رأسها معالجة ملف الذاكرة، حيث دعا الرئيس تبون، إلى معالجة ملفات الذاكرة مع فرنسا بعيدا عن «الفكر الاستعماري»
وقال رئيس الجمهورية بهذا الخصوص، إن «حرص الجزائر على معالجة ملفات هذه الحقبة الاستعمارية ينأى عن كل مزايدة أو مساومة، لصون ذاكرتنا، ويسعى في نفس الوقت إلى التعاطي مع ملف الذاكرة والتاريخ بنزاهـة وموضوعية». وأضاف أن ذلك يتم في إطار «مسار بناء الثقة، وإرساء علاقات تعاون دائم ومثمر، يضمن مصالح البلدين في إطار الاحترام المتبادل».
واعترف وزير المجاهدين العيد ربيقة، بتعثر المفاوضات الجزائرية الفرنسية حول ملفات الذاكرة واسترجاع الأرشيف الجزائري، بسبب «تعنت» الجانب الفرنسي «لأجل ربح الوقت واللعب على متغيرات الزمن، ومن أجل تغيير النظرة إلى حقيقة الوجود الاستعماري في الجزائر وباقي الدول وتصويره على أنه نقل للحضارة».
واتهم الوزير ربيقة، باريس «بالتهرب من مسؤوليتها التاريخية على جرائم الاستعمار، ورفض الإقرار بها خوفاً مما يترتب على ذلك من دفع تعويضات، ولكونها تقع تحت طائلة محاسبة الهيئات الأممية والدولية المختصة»، مشدداً على أن «المفاوضات التي تجريها الجزائر مع فرنسا، تؤكد تمسك الجزائر بكامل حقوقها التاريخية، ومتابعة ملفات الذاكرة المتعلقة باسترجاع الأرشيف الوطني، وملف المفقودين خلال ثورة التحرير، وملف المدنيين ضحايا الألغام المزروعة، والتجارب النووية ومجازر الثامن ماي 1945 وغيرها من الملفات العالقة».
وفي نظر المحللين، فان فرنسا تتعامل مع تاريخها الاستعماري، خاصة في الجزائر، بشكل لا تريد له أن يتجاوز حدود الاعتراف به كوقائع تاريخية هي من مسؤوليات الجيل الذي صنعها وعاصرها، وبالتالي، فإن أقصى ما يمكن أن تقدمه الحكومات الحالية هو الاعتراف من دون أي التزامات معنوية وسياسية ومالية، لا تريد أي حكومة فرنسية أن تتحمل تداعياته ونتائجه.
   أوزار الحرب ونضال الذاكرة
وظلت العلاقات بين البلدين تتأرجح طيلة 60 سنة بين التهدئة والتوتر بشيء من الحذر والتباين، وقام فاليري جيسكار ديستان في افريل 1975 بأول زيارة رسمية لرئيس فرنسي إلى الجزائر المستقلة، وفي نوفمبر 1981، صرح الرئيس فرنسوا ميتران، لدى زيارة رسمية إلى الجزائر أن: «فرنسا والجزائر قادرتان على التغلب على خلافات الماضي وتجاوزها».
وخلال فترة حكمه وقع الرئيس جاك شيراك في مارس 2003، في الجزائر العاصمة، مع الرئيس الراحل عبد العزيز بوتفليقة «إعلان الجزائر»، الذي نصَّ على «شراكة استثنائية» من أجل تجاوز «ماضٍ لا يزال مؤلمًا… ينبغي عدم نسيانه أو إنكاره». واستمرت الفكرة قائمة إلى غاية صدور قانون حول «الدور الإيجابي للاستعمار» بتاريخ فيفري 2005، والذي كشف عن «عمى عقلي يكاد يصل إلى الإنكار وتحريف التاريخ». وعلى الرغم من إلغاء القسم المثير للجدل من هذا القانون بعد عام من صدوره، لا سيما المادة 4 منه التي تُعتبر تمجيدًا للاستعمار، استمرت تبعاته السياسية على العلاقات بين البلدين.
وظلت تصريحات القادة الفرنسيين تقتصر على التنديد، وهو المسلك الذي أخذه الرئيس نيكولا ساركوزي في نهاية 2007، أثناء زيارته إلى الجزائر، الذي ندد بالنظام الاستعماري من دون أن يعتذر ودعا الجزائر إلى «التطلع إلى المستقبل»، وكذلك صرح الرئيس فرنسوا هولاند، في نهاية 2012، بـ«المعاناة التي ألحقها الاستعمار الفرنسي بالشعب الجزائري».
واتفق الطرفان الجزائري والفرنسي في سنة 2020 على اتخاذ خطوة من أجل تسوية ملف الذاكرة، وكُلِّف كل من المستشار برئاسة الجمهورية عبد المجيد شيخي، والمؤرخ الفرنسي بنجامين ستورا بتقديم اقتراحات بهذا الشأن، فرفع بنجامين ستورا تقريرًا إلى الرئيس إيمانويل ماكرون يوصي فيه باتخاذ خطوات رمزية تجاه الذاكرة الجزائرية من دون الاعتذار. وجاء عقب ذلك بيان الرئاسة الفرنسية الصادر في يناير 2021 أن: «فرنسا مستعدة لتقديم خطوات رمزية لمعالجة ملف استعمار وحرب الجزائر، لكنها لن تعبر عن أي ندم أو اعتذار».
وقوبل تقرير بنجامين ستورا بالرفض من جهات عدة في الجزائر سواء سياسية أو أكاديمية، واعتبر مسؤولون أن التقرير شأن فرنسي لا يهم الجزائر، كما إنه «يساوي بين الضحية والجلاد»، وتم وصفه بغير الموضوعي. وقال عبد المجيد شيخي في تصريح صحفي إن ذلك «التقرير مشكلة فرنسية- فرنسية، لا يعني الجزائر في شيء».الخطوة التي بادرت بها الرئاسة الفرنسية في عهد ماكرون، كانت مخالفة تماما للتصريحات التي أدلى بها.  
في فبراير 2017، وبينما كان مرشحا إلى الانتخابات الرئاسية، أثار تصريحه من الجزائر الذي قال فيه أن الاستعمار «جريمة ضد الإنسانية»، ضجة كبرى. وبعد انتخابه، قام ماكرون بسلسلة مبادرات من أجل تنقية الذاكرة بين البلدين، سعيا لمصالحة بين الشعبين، لكنه لم يذهب إلى حدّ تقديم اعتذار عن الاستعمار، وهو موضوع حساس للغاية في فرنسا حيث يجد الخطاب القومي المتطرف مزيدا من الآذان الصاغية. وفي سبتمبر 2021، تقلّصت الآمال بحصول تقارب بعد تصريح لماكرون الذي تهجم على تاريخ»الأمة الجزائرية» والتي فجرت نيران غضب في الجزائر لا يزال دخانها مستمرا إلى اليوم.
 روح استعمارية لدى أنصار «الجزائر الفرنسية».
ورغم مرور 60 سنة على استقلال الجزائر، لا تزال نخب فرنسية، وخاصة من المعمرين والأقدام السوداء ومن اليمينيين المتشددين، تتحدث بكثير من الحنين إلى الماضي الاستعماري في الجزائر، وتتحسر على فقدان «الجنة الجزائرية». وبرز الخطاب الاستعماري في أولى جلسات الجمعية الوطنية (الغرفة السفلى للبرلمان)، بخطاب لعميد النواب الجدد، خوسي غونزاليس، المنتخب ضمن كتلة حزب “التجمع الديمقراطي”، الذي تقوده زعيمة هذا التيار، المتطرفة مارين لوبان، من خلال استحضاره لنقاش يمجد الممارسات الاستعمارية الفرنسية في الجزائر. وتحدث النائب اليميني في البرلمان الفرنسي، عمّا وصفها بـ»الجزائر الفرنسية»، وأبدى فيه تحسراً كبيراً على ضياع «المستعمرة الجزائرية المفقودة»، ودافع عن جرائم منظمة الجيش السري الفرنسي في حق المدنيين الجزائريين، عشية إقرار استقلال الجزائر. وقال النائب اليميني: “أن نجتمع جنبا إلى جنب بعيدا عن خلافاتنا هو رمز للوحدة الفرنسية. ورمز هذه الوحدة يلامس شغف قلب الطفل الذي هو أنا من فرنسا البعيدة (يقصد الجزائر)، نزع من وطنه الأم وألقت به رياح تاريخ 1962 على شواطئ بروفانس. وتركت خلفي فرنسا وأصدقائي، وأنا الرجل الذي ظل يحمل الجرح للأبد”.
وتعد تلك التصريحات الاستفزازية سابقة في جلسة افتتاحية لمجلس نيابي انتخب لتوه، وساهمت الصدفة في كون النائب غونزاليس، هو الأكبر سنا، ما خول له رئاسة هذه الجلسة، ويرى متتبعون بان تلك التصريحات ستكون تداعياتها المستقبلية خطيرة على الخماسية المقبلة، في ظل احتلال كتلة اليمين المتطرف بزعامة لوبان، المرتبة الثالثة في الغرفة السفلى للبرلمان، من حيث التمثيل. وقد تعني استحالة إحراز أي تقدم في ملف الذاكرة بوجود الفكر الاستعماري كمرض ترفض فرنسا الشفاء منه.
وتبدو الجزائر اليوم حريصة على الذاكرة بشكل غير مسبوق، ليس بتخصيص يوم للذاكرة، بل بوضع هذا الملف ضمن أساسيات الخطاب الرسمي فيما يشبه العقيدة، ورغم محاولات فرنسا «تطويق» الجزائر لإخضاعها سواء بخلق توترات أو بدعم نظام مجاور ينتمي إلى القرون الوسطى ومحاولة نفخه أكبر من حجمه في مسعى غير عقلاني لخلق توازن استراتيجي، إلا أن الجزائر نجحت  في تجاوز جميع الفخاخ، وبدت وهي في الستين في كامل القوة والعنفوان.  
ع سمير

الرجوع إلى الأعلى